الله، أوّل المادحين للرسول محمّد (ص)

by الشيخ شفيق جرادي | نوفمبر 2, 2020 11:14 ص

 

جرت العادة عند المسلمين، ومحبي الرسول الكريم محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم، على التنافس بمدحه. والمدح عادة يمارسها الناس تجاه أمور تمثّل لهم قيمة عزيزة.
فلا تكاد ترى جماعة من الناس سواءً أكانوا من أهل التديّن، أو لم يكونوا، إلّا ولهم مثل هذا الانشداد نحو شخصيّة أو دولة أو حزب أو رمز ما. وهم يعبّرون عادة بالمدح عن انجذابهم نحو هذه الرموز.
والمسلمون كغيرهم يقومون بممارسة المدح تجاه رموزهم الدينيّة. إلّا أنّ المسلمين خصّصوا لنبيّ الرحمة محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم مستوًى خاصًّا من المدح والثناء، بحيث إنّ أحد الأفعال المستحبة والأذكار العظيمة هي “الصلاة على محمّد وآل محمّد”.
وهو الأمر الذي استنكره بعض المنسوبين إلى المسلمين ممّن اعتبروا أنّ في المدح سوء أدب في التوحيد، بل إنّ بعض التبجيل لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وغيره، فيه شائبة الشرك بالله سبحانه.
وبغض النظر عن هذا السجال الذي افتعلوه، وعن أسبابه، فإنّ قراءة ولو أوّليّة للآيات القرآنيّة الواردة بحقّ النبيّ محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم، تُظهر عِظَم المديح القرآنيّ لرسول الله محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم، بحيث يمكننا القول: إنّ أوّل مديح إسلاميّ لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، إنّما كان من الله سبحانه وتعالى في محكم تنزيله المبارك.
ولعلّ من أعظم ما ورد، قوله سبحانه وتعالى لرسوله: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾[1][1].
إذ من المعروف أنّ وصف الأمور والجهات والأشخاص إنّما يُحتسب قدره بحسب قدر الجهة المادحة، فعندما يكون مصدر المدح هو الله سبحانه، وهو مكمن العظمة ومجمع كمالها، فإنّ أدنى مدح منه إنّما يمثّل قدرًا عظيمًا يفوق أيّ حدٍّ من حدود البشر. فكيف إذا كان قوله سبحانه لنبيه: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾؛ فوصفه تعالى لخُلُق النبيّ بالعظيم، أمرٌ يتجاوز كلّ تصور، وكلّ حدّ مُتوقّع. وهو يضعنا أمام أبعاد ثلاث:
  1. البُعد الأوّل: بُعد عظمة النبيّ في ذاته وسرّ وجوده وموقعه.
  2. البُعد الثاني: بُعد عظمة النبيّ عند مصدر وجوده وعظمته الذي هو الله سبحانه.
  3. البُعد الثالث: بُعد عظمة النبيّ تجاه الخلائق إن على مستوى الموقع أو الدور.
ولاستجلاء ثمار هذه العظمة، من الضروريّ أن نستلهم من النصّ القرآنيّ الإفادات في حقّ الرسول محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
 
النبيّ حامل ثقل الوجود والقول الإلهيّ
إنّ القول هو الكلام المفيد للمعنى والحامل لأهدافه وغاياته، وقول الله هو كلامه سبحانه. ثمّ لا يخفى أنّ الكلام الإلهيّ هو مفتاح الوجود، وسرّ سنن الحياة في قضائها وقدرها؛ بل إنّ الكلام الإلهيّ هو النور الهادي نحو أسرار الحياة ومقامات الوجود وتسامي الموجودات.
وقد بحثت الأدبيات الإسلاميّة معنى الكلمة والكلام الإلهيّ، كما بحثت نطاقه وثماره والناجم عنه، وانطلقت لتوكّد على معاني قوله سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً﴾[2][2]. تشير هذه الآية إلى صور التكاثر والسيلان الذي لا حدود له لكلام البارئ سبحانه.
ولعلّ الكلمة الإلهيّة الجامعة لكمالات الموجودات هي حقيقة الروح المحمّديّة.
والعجيب، أنّ الله خاطب صاحب هذه الروح بخطاب استثنائيّ، إذ يقول له: ﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً﴾[3][3].
ومن المعلوم أنّ الإلقاء هنا بمعنى نضع على عاتقك، ونحمّلك مسؤوليّة القول الثقيل. أمّا ما هو ذاك القول الثقيل، فقد بقي طي الكتمان ولم تصرّح به الآيات.
 إذ إنّ وصف القول بالثقيل لمّا كان في مورد الحديث مع كمال الوجود محمّد صلّى الله عليه وآله وسلم، فهذا يعني أنّه على غير الرسول أمرٌ معجزٌ لا يُدرَك ولا يوصف ولا يُحكى عنه إلّا بالإشارة من بعيد.
لكن استثناء النبيّ دون غيره، إنّما يعني ثقة الله سبحانه بنبيّه، وبقدرة نبيّه على تحمّل الأمر المُعجز. لكنّ إلقاء هذه المسؤوليّة المشفوعة بالثقة، كانت مشفوعة بالحب والرحمة. من هنا خاطب الله سبحانه الرسول قائلًا: ﴿طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى﴾[4][4].
 فالقول الإلهي لمّا تمثّل كلامًا قرآنيًّا نزل على الحبيب محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم، لم يكن بهدف إتعاب النبيّ إو إجهاده، أو وضعه موضع المعاناة والشقاء. فحب الباري سبحانه لنبيّه صلّى الله عليه وآله وسلّم أرحم من أن يبتلي نبيّه بشقاء القول الثقيل.
إن الهدف إنّما يتمثّل بجني ثمار الفرح لقلب الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، وذلك عبر ما استكمله الله من الآيات في سورة طه: ﴿طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلاَ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى * تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الأرْضَ وَالسَّمَوَاتِ الْعُلاَ * الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى * لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى * وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى * اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَ هُوَ لَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾[5][5].
إنّ الثمرة إذن، تتمثّل بتقديم التذكرة لمن يخشى الله سبحانه، وهو الأمر الذي يرضي ويُفرح قلب النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ إذ التذكرة لأهل الخشية مصدرها خالق الأرض والسموات العُلى، وهو الله الذي وصف نفسه بهذا المورد بـ “الرحمن” على العرش استوى.
ولا يخفى، أنّ الاستواء على العرش؛ هو تعبير عن إدارة المُلك والسلطان، ولمّا كان الوصف هو (الرحمن) فقد قرن إدارة شؤون الخلائق بالرحمة الرحمانيّة، وهي التي تتنزّل بالألطاف على كلّ موجود من أهل الصلاح أو غيرهم؛ لأنّ الرحمن وصفٌ للرحمة العامّة التي تشمل كلّ الخلائق دون تمييز.
وهو الأمر الذي يعبِّر عن ما في قلب وضمير النبيّ الكريم محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم من حب ورحمة لكلّ إنسان وموجود، بحيث إنّه صلّى الله عليه وآله وسلّم كان إذا شعر بابتعاد أيّ فرد من الناس عن جادّة الصواب والهداية تألّم ألمًا شديدًا.
 وهو ما استوجب أن يقول له الله سبحانه: يا محمّد، أنت ثقتي بحمل مسؤوليّة ثِقل القول، وحفظ الرسالة، وأنا الرحيم بعباده، فلا تبتئس لجفاء الناس عن مقاربة الصراط المستقيم، واكتفِ بالفرح عند تولّي أهل الخشية تذكرة الهداية.
 والله يعلم ما في ضميرك وسرّك من حفظ القول، وهو مدبِّر الأمور، إذ إنّ ﴿اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَ هُوَ لَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾[6][6], وأنت يا ر سول الله مركز رحمة الله ومصبّ تجلّي الأسماء الحسنى.
وهكذا، كان الله سبحانه أوّل الذاكرين، المادحين، المصلّين على نبيّه الكريم محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم. وكان كلّ ذكر ومدح وصلاة عليه صلّى الله عليه وآله وسلّم من الملائكة والناس فرعٌ لما سنّه الله في حقّ رسول الله محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
[1][7] سورة القلم، الآية 4.
[2][8] سورة الكهف، الآية 109.
[3][9] سورة المزمّل، الآية 5.
[4][10] سورة طه، الآيتان 1 و 2.
[5][11] سورة طه، الآيات 1- 8.
[6][12] سورة طه، الآية 8.

Endnotes:
  1. [1]: #_ftn1
  2. [2]: #_ftn2
  3. [3]: #_ftn3
  4. [4]: #_ftn4
  5. [5]: #_ftn5
  6. [6]: #_ftn6
  7. [1]: #_ftnref1
  8. [2]: #_ftnref2
  9. [3]: #_ftnref3
  10. [4]: #_ftnref4
  11. [5]: #_ftnref5
  12. [6]: #_ftnref6

Source URL: https://maarefhekmiya.org/10766/alnabi2/