هجرة حسينيّة من أجل تعاليم النبيّ (ص)
by الشيخ شفيق جرادي | نوفمبر 6, 2020 9:09 ص
هجرتان حصلتا في التاريخ التأسيسي للرسالة الإسلامية. الهجرة الأولى لرسول الله محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم، الذي صدع بوحي ربه سبحانه، والذي أرسى الأفق البعيد لحياة الرسالة في قيمها ومسارها.
أما الهجرة الثانية فهي تلك التي خرج فيها سبط رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم الإمام الحسين عليه السلام، من المدينة نحو رسالة حفظ ذكر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ودينه ودين ربه سبحانه. لبلاد ضاقت به بعد أن رجته القدوم إليها.
وما بين الهجرتين حديث يضيق المقام، هنا، عن ذكره. وبين صاحبي الهجرتين علاقة نور وهدًى وولاية وبلاغ مبين. من ذلك ما كان يسعى الإمام الحسين عليه السلام، على الدوام، لنشره من تعاليم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ وهنا سنذكر واحدًا من تلك التعاليم وهو حفظ حديث النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.
فعن الإمام الحسين بن علي عليهما السلام قال: “إن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أوصى إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام وكان فيما أوصى به أن قال له: يا علي! من حفظ من أمتي أربعين حديثًا يطلب بذلك وجه الله عز وجل والدار الآخرة حشره الله يوم القيامة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا. فقال علي عليه السلام: يا رسول الله! أخبرني ما هذه الأحاديث؟ فقال: أن تؤمن بالله وحده لا شريك له، وتعبده ولا تعبد غيره، وتقيم الصلاة بوضوء سابغ في مواقيتها ولا تؤخرها فإن في تأخيرها من غير علة غضب الله عز وجل،… وأن لا تعق والديك، ولا تأكل مال اليتيم ظلمًا،…”.
إن الوارد هنا، وإن كان فيه حثٌ على الحفظ بمعنى ضبط الذاكرة لرواية النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهي طريق من طرف الحفظ والنشر لهذه التعاليم النبوية المحمدية.
لكن سياق الرواية يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك من ترسيخ هذه التعاليم في قلوب الناس وعقولهم ونفوسهم.
لذا، فإن مطلع الحديث أكد على مقصد الحفظ ونية الحافظ لحديث رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو أن “يطلب بذلك وجه الله عز وجل والدار الآخرة“، حينما يكون وجه الله هو المقصد ففي كل كلمة نحفظها ونرسمها في أذهاننا وقلوبنا إنما توجد رابطًا قويًّا وفعّالًا مع روح التوحيد، وتضفي على التعاليم والقيم رؤية عقائدية تستقي مضمونها وفعاليتها مع ذاك الارتباط الوثيق بمبدإ التوحيد.
من هنا، فإن التعاليم مهما علا شأنها مالم تكن مرتبطة بمقصد التوحيد فلا يمكن أن تأخذ طابعها الإسلامي المرجو من مضمون القيم المتعالية لهذا المبدأ الإسلامي.
وقد ثنى الحديث التوحيد، بطلب الدار الآخرة، وعلى خلاف ما يعتقد كثير من الناس من أن الكلام حول الآخرة هو كلام حول عالم يقع خارج الدنيا واهتماماتها، فإن الإسلام في تربيته لمعتنقيه أصَّل الدنيا في أصل طلب الآخرة؛ إذ الدنيا مرزعة الآخرة، وتتخذ الآخرة حقيقتها وشكلها بحسب ما يجسّده الناس من سلوكهم وأعمالهم في هذه الحياة الدنيا.
إن دنيا الناس هي حياة تستقي روحها من التوحيد وقيمه، مما يدفع بها نحو مسار استكمالات لهذه الحياة بأنفاس ومقاصد أخروية؛ بمعنى، أن نعيش دنيا تؤسس لآخرة هي المرجوة، ومن المعلوم أن الإيمان بالآخرة، إنما يعني الإيمان بعالم الملك فيه لله وحده سبحانه.
وإذا كان من الصحيح أن كل الحياة هي ملك لله، إلا أن هذه الحياة الدنيا بسب قيامها على سنّة الاختيار والإرادة الحرة، فإن لهذه الحرية لازمًا هو إمكان الغفلة عن واقع وحقيقة أن الملك لله وحده.
فإذا ما جاء العمل بقصد طلب الآخرة، فإن عامل التذكير بحقيقة الواقع والوجود والحياة فسيبقى محفوظًا، وهو ما يجعل من القناعة والعمل شبكة من التفاعل والانسجام الباني لشخصية الإنسان الرسالي.
وهذا البناء للشخصية الرسالية هو الذي يؤهل صاحبه ليكون من أهل الاستحقاق في الالتحاق بالنبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
ومن المعلوم لمن يتأمل ويتفكر متدبّرًا في النص القرآني أن هذه الفئات الأربع: الأنبياء، الصديقين، الشهداء، والصالحين هم الشرائح الأمثل والأكمل في الحياة الإيمانية والرزق الإلهي.
واستحقاق الالتحاق بهم الذي عنونته الرواية بكلمة “الحشر“ لا يكون بالمعنى السطحي للكلمة، بل هو عضوي يأخذ فاعليته وأحقيته من أصل هذا الجوهر الإنساني الذي تحلى بمعارف وتعاليم النبي محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم. والذي يستكمل الحديث على قاعدة التحلي بما ورد فيه يمكن أن يجد الأمور التالية:
أولًا: الإيمان بالله وحده وعبادته دون غيره سبحانه.
ثانيًا: إقامة الصلاة دون تأخير وبسبوغ من وضوء. وإذا كانت الصلاة هي الصلة بالله سبحانه، فإن في تأخيرها إغضاب لله. والملف هنا، أن الحث على الصلاة بأوقاتها جاء في الحديث مباشرة بعد الإيمان بالله وعبادته سبحانه.
ثالثًا: التزام التعاليم الشرعية بمضامينها من زكاة وصوم وحد.
رابعًا: التزام الضوابط الإنسانية، من مثل: بر الوالدين، حفظ مال اليتيم، وأن لا يدخل في عالم التزوير الاقتصادي من مثل الربا، بل وأن يخرج من كل ما يُفسد عالم العقل الإنساني كشرب الخمر، والدعارة، والنميمة، والكذب.
خامسًا: التزام شخصية مستوية متوازنة: “وأن تقبل الحق ممن جاء به صغيرًا أو كبيرًا، وأن لا تركن إلى ظالم وإن كان حميمًا قريبًا، وأن لا تعمل بالهوى”.
إن مقصودنا باستواء الشخصية هنا قيامها على أركان الحق مهما عز، ورفض الظلم والباطل مهما كان الثمن الذي يمكن أن يدفعه المرء وهو في مواجهة الظلم والظالمين.
هذا الثمن الذي استعد فيه الإمام الحسين عليه السلام ليستقبل الموت الجماعي هو وأهل بيته وأصحابه، والذي واجهه ابنه علي الأكبر بالقول: “أولسنا على الحق، إذن لا نبالي أوقعنا على الموت أم وقع الموت علينا.”
بل وأُسبيت الحرائر اللواتي واجهن الموقف بالقول: “لم نر من الله إلّا جميلًا…”.
إن هجرة الإمام الحسين عليه السلام، إنما كانت بقصد حفظ دين الله سبحانه ورسالة رسوله نبي الرحمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهذا مقتضى تجسيد أحاديث وتعاليم النبي الكريم محمد بن عبد الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.
اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
Source URL: https://maarefhekmiya.org/10804/hijranabaweya/
Copyright ©2024 معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية unless otherwise noted.