مباني فهم النص عند الشهيد الصدر: وقفة تحليلية

by الشيخ حسنين الجمّال | نوفمبر 26, 2020 9:56 ص

وقفة تحليلية مع مباني الشهيد الصدر
في هذا المقال الصغير، سوف نحاول أن نقف وقفة نحلّل فيها ما كتبناه في الحلقات الماضية عن مباني فهم النص عند الشهيد الصدر (ره).
فبعد بيان ما عثرنا عليه من مبان لفهم النص عند الشهيد الصدر، يمكن القول بأنه قد فاق من تقدّمه من الأصوليين الشيعة بخطوات كبيرة في مجال فهم النص الديني والمباحث الهرمنيوطيقية؛ ويبدو أنه استطاع أن يتجاوز الملاحظة التي تُسجَّل على غيره من الأصوليين، حيث لم يخرجوا عن إطار بحث حجية النص الديني –بمعنى المنجزية والمعذّرية-.
وكيفما كان، فإنه يمكننا انطلاقًا من مباني الشهيد الصدر أن نجيب عن بعض الأسئلة الهرمنيوطيقية التي تقدّم ذكرها في الحلقة الثانية:
فيما يرتبط بإمكان فهم النص، فقد ذهب الشهيد الصدر إلى إمكان ذلك، ويكون قد وافق بذلك بعض الاتجاهات الهرمنيوطيقية؛ لكنه كشف عن نكات مهمة جدًّا في عملية فهم النص والوصول إلى مراد المؤلف، وهي الأصول النوعية العقلائية التي لها حيثية كشف عن المراد.
وتعرّض لمسألة تاريخية النص، بمعنى أن النص وُلد في ظرف تاريخي محدّد، فلا بدّ من ملاحظة ذلك الظرف حتى نتمكّن من فهمه بشكل صحيح. وقد قدّم الشهيد الصدر حلًّا لتجاوز هذه المسافة التاريخية بين المفسِّر والنص. ويشترك في هذا الحل المباني التالية: الظهور الموضوعي في عصر النص، والقبليات الضرورية لفهم النص.
وفيما يرتبط بالقبليات المعرفية، فإننا نعلم أن أنصار الهرمنيوطيقا الفلسفية ذهبوا إلى القول:
أولًا: إن تحقق الفهم مرتبط بهذه القبليات.
وثانيًا: لا يمكن لهذه القبليات أن تنفك عن المفسِّر، بل إنه يعتمد عليها بنحو لا إرادي في فهم النص.
وثالثًا: إن كل هذه القبليات والأحكام المسبقة تمنع المفسر من الوصول إلى مراد المؤلف، فلا تنسجم دخالتها في الفهم مع كون القارئ موضوعيًّا حياديًّا.
لكن يبدو أن الشهيد الصدر قد فكّك بين نوعين من هذه القبليات:
  1. القبليات الضرورية لفهم النص.
  2. القبليات المضرّة في فهم النص.
وهذا ما تقدّم بيانه؛ وبالتالي:
أولًا: ليس كل فهم مرتبط بالقبليات، وإلّا يلزم التسلسل، مضافًا إلى أن العلم الحضوري هو سنخ فهم ومعرفة غير مبتنية على معارف سابقة. وهذا الردّ لم يُشر له الشهيد الصدر، لكنه ردّ واضح.
وثانيًا: بعض القبليات ضرورية لتحقّق فهم النص، فلا يمكن التخلّي عن دخالتها في مقام فهم النص.
نعم، يبقى السؤال عن القبليات المضرّة: هل يمكن التخلّص منها، أو المنع من تأثيرها ولو مع بقائها، أم لا؟
وهذا لم يُجِب الشهيد الصدر عنه مباشرة، لكن من خلال تحذيره من هذا النوع من القبليات، نفهم أنه أمر اختياري. وبيانه منّا بأن نقول:
إن إيجاد بعض أنواع القبليات المضرّة أمر اختياري، فبإمكاننا أن نعدّل من ميولنا، فنتصرّف حينئذ في بعض قبلياتنا المضرّة بنحو اختياري.
نعم، قد يكون تجنّب الاعتماد على هذه القبليات المضرّة أمرًا صعبًا بالنسبة لبعض الأشخاص –بسبب ضعفهم في الجانب الأخلاقي مثلًا-، لكن يمكن التدرّب للتغلّب على حاكميتها القهرية.
هذا كله مع ملاحظة أنه لا يجب التخلّي عن كل القبليات المضرّة في مقام فهمنا لنصوص الآخرين، بل يكفي أن لا نعتمد عليها في فهم النص دون قرينة أو شاهد. وهذا من قبيل الشخص الذي لديه في حقيبته أدوات متنوعة، فعندما يواجه مشكلة محدّدة، يستفيد من الأدوات المناسبة لها. ف
ما يمكن أن يؤدّي إلى بعض المشاكل هو الاستفادة من الأدوات غير المناسبة، وليس وجودها ضمن تلك الحقيبة. وبالتالي، لا يجب أثناء الفهم الصحيح أن نتخلّى عن دوافعنا الشخصية وميولنا ورغباتنا، بل المهم أن لا نعتمد عليها في مقام الفهم.
 وهذا أمرٌ اختياري، وممكن، وهو مشاهَد في كتب كثير من المفكرين الذي يشرحون آراء مخالفيهم ثم ينقدونها، فَهُم في العديد من الأحيان يضعون قبلياتهم هذه جانبًا، ثم يفهمون كلام الخصم بنحو موضوعي محايد، ثم يعمدون إلى تحليله ونقده. فهذا دليل على أن عدم الاعتماد على القبليات المضرة أمر اختياري، فالوقوع أدل دليل على الإمكان.
وفيما يرتبط بالحوار بين المفسِّر والنص، فقد تعرّض الشهيد الصدر لهذه الفكرة في نظريته في التفسير الموضوعي، والتي أشرنا إليها في المبنى السادس، وذكرنا أهمية هذا المبنى في فهم النص القرآني. نعم، لا يقول الشهيد الصدر بمقالة غادامر، بأنه عندما يجري حوار بين المفسِّر والنص، فإن المعنى الذي يصل إليه المفسِّر لا يكون منسوبًا إلى النص ولا إلى المفسِّر، بل هو عبارة عن مزيج بين الأفق المعنائي للنص مع الأفق المعنائي للمفسِّر. بل أكّد الشهيد الصدر على أهمية الحوار مع النص والانطلاق من الواقع إلى النص، كل ذلك، لأجل الكشف عن المراد التام والكامل للمؤلف في هذا المجال.
نعم، بقي ثلاثة أسئلة لم يُجِب عنها الشهيد الصدر، وهي:
  1. هل المفسِّر دائمًا في معرض سوء الفهم؟
لم يعالج الشهيد الصدر هذا السؤال مباشرة، لكنه من خلال ما ذكره، يمكن الجواب عنه بالإيجاب. فالمفسِّر دائمًا يواجه خطر سوء الفهم، بسبب القسم المضرّ من القبليات المعرفية، وبسبب التأثّر النفسي المسبَق، وغير ذلك مما تقدّم ذكره. لكن، هذا لا يعني أنه لا يمكن للمفسِّر أن يتجاوز هذه العقبات، بل يمكن للمفسِّر أن يتخلّص من سوء الفهم، ليصل إلى مراد المؤلف.
  1. هل يجب النفوذ إلى ذهنية المؤلف ونفسيته حتى نصل إلى فهم صحيح للنص؟
لم يُجِب الشهيد الصدر بشكل مباشر عن هذا السؤال. ولعل ما تقدّم الحديث عنه من أهمية الاندماج مع الإطار الفكري للنص، والارتكاز الاجتماعي للنص، قريبان جدًّا من فكرة النفوذ إلى ذهنية المؤلف، وإن كانا لا يوصلاننا إلى إعادة بناء ذهنية المؤلف تمامًا.
ولو طرحنا هذا السؤال على الشهيد الصدر الآن، لأمكن أن يفصّل بين النص القرآني والنص الروائي؛ فليس مؤلف النص القرآني بشريًّا يمكن النفوذ إلى ذهنيته؛ بخلاف النص الروائي. لكن، مع ذلك، فمُلقي النص الروائي معصوم، وله درجة وجودية أعلى وأكمل من سائر البشر.
لكن، قد يتجاوز الشهيد الصدر هذه المشكلة، من خلال القول بأن المُتّبع في النصوص الشرعية هو طريقة المحاورة العرفية والمتداولة بين أبناء العرف، وبناء عليه، يمكننا فهم النص دون النفوذ إلى أعماق ذهنية المؤلف والمتكلّم.
نعم، هذا لا يعني أنه يجب أن لا نُلاحظ المتكلم وإطاره الفكري، بل لا بدّ من ملاحظته، ثم إن هذا الكلام قد يجرّنا إلى التفريق بين النص القرآني والنص الروائي. فمؤلف النص القرآني عالمٌ مطلق، يلقي كلامه لكل الناس إلى يوم القيامة، ولكل فئاتهم: من العامّي وراعي الإبل، إلى العالم الفيلسوف المتألّه والفقيه، وعالم الاجتماع وما شاكل؛ أما النص الروائي فليس دائمًا هكذا.
وكيفما كان، فهذا سؤال مهم جدًّا، والجواب عنه ضروري، لكن لم يتعرّض الشهيد الصدر له؛ وإن أمكن أن نحدس بأنه سيجيب بأن صاحب النص الديني يتكلم بحسب الطريقة العرفية؛ لكن الكلام كل الكلام في فهم هذه الطريقة بنحو دقيق، وهذا ما يحتاج إلى بحث مستقل.
  1. هل الحوار بين النص والقارئ، هو على نحو الدور الهرمنيوطيقي، ويستمر إلى ما لا نهاية؟
هذا –حسب تتبعي- لم يتعرّض له الشهيد الصدر.
نعم، ثمة وجه للإجابة بالإيجاب عن هذا السؤال، لكن لا على نحو الدور المبيَّن في الهرمنيوطيقا، بل على نحو يُسمّى بـ “الدور الاستنباطي”[1][1].
 وهذا ما قد نستشهد له بالتأمّل في المتكلّم في النص الديني وخصوصياته، كما يمكن أن نستخرج أسس هذا الدور الاستنباطي من النص الروائي الذي يصرّح بأن القرآن يجري مجرى الشمس والقمر، وهو عند كل قوم غضّ، وما شاكل. وهذا أيضًا بحث شريف، مرتبط بفهم النص جدًّا، ويحتاج إلى تحقيق مستقل أيضًا.
يبقى أن نسأل: هل التفت الشهيد الصدر إلى مبنى لم يلتفت إليه الباحثون الغربيون في مجال الهرمنيوطيقا؟
قد يبدو لنا أن كلامه عن دور الارتكاز الاجتماعي في فهم النص المذكور في المبنى الرابع، وحيثيات الكشف النوعية التي ألمحنا إليها في المبنى الأول، هو ممّا لم يلتفتوا إليه.
وبهذا يكون قد تمّ البحث عن مباني فهم النص عند الشهيد الصدر، ويمكن البناء عليه لتقديم أبحاث مقارنة في هذا المجال، كالبحث المقارن بينه وبين هايدغر أو غادامر، أو الانطلاق منه لتأسيس بحث مستقل في مباني فهم النص، مع الالتفات إلى الجهات التي لم يتعرّض لها الشهيد الصدر، كحال الراوي للنص الديني وغير ذلك مما يُعثَر عليه باستقراء الأسئلة والمباني التي طرحها الباحثون في هذا المجال، وبالتأمّل في مباني فهم النص نفسِها.
هذا ما استطعت استخراجه من خلال مطالعة كثيرٍ من كلمات الشهيد الصدر، ويُحتمَل أن أكون قد غفلتُ عن بعض المباني الأخرى المذكورة في طيّات كلماته، أو زلّت قدمي في فهم بعض ما طالعتُه. لذا، أتمنى من كل قارئ أو باحث يجد خللًا في هذه الحلقات أو يعثر على ما يسدّ به نقصًا فيه أن يُطلعني عليه، وله جزيل الشكر وعظيم الأجر.
وما توفيقي إلا بالله.
[1][2] هذه التسمية ذكرها السيد يد الله يزدانبناه وتلميذه الأستاذ الشيخ علي أميني نجاد (دامت إفاضاتهما) في دروسهما الفلسفية والعرفانية، ولا أدري إن ذُكرَت قبلهما.

Endnotes:
  1. [1]: #_ftn1
  2. [1]: #_ftnref1

Source URL: https://maarefhekmiya.org/11041/almabani10/