المشروع الفكري عند طه حسين
by الدكتور علي أبو الخير | ديسمبر 3, 2020 7:16 ص
[1]
تمر سبعة وأربعون عامًا على وفاة الدكتور طه حسين عميد الأدب العربي، حيث توفي يوم 28 أكتوبر من عام 1973، وعندما نحتفل بذكرى وفاته، فهو يعني مناقشة مشروعه، فلم يكن طه حسين مجرد أديب له أسلوبه الخاص، ورواياته المختلفة مثل دعاء الكروان، وشجرة البؤس، والحب الضائع، ولكن كان له مشروع مصري عربي ثقافي تنويري يمكن البناء عليه، بعد ما يقرب من نصف قرن من وفاته، فلقد كان الدكتور طه من أهم أسس التنوير وتجديد الخطاب العربي، منذ أن أصدر كتابه الأشهر “في الشعر الجاهلي”، عام 1926 والذي قوبل بهجوم وضراوة من قبل شيوخ الأزهر، ولم يخفف منها، إلا مذكرة النائب العام “محمد نور”، عندما برّأ الدكتور طه، وفي نفس الوقت أدان الكتاب، أو بالأصح أدان منهج الشك الديكارتي الذي استخدمه في كتابه، فأعاد طه حسين إصدار الكتاب عام 1932 تحت اسم “في الأدب الجاهلي”، ولكنه في النهاية أعطى الجرأة للآخرين، في كتابات النقد والتاريخ، مثل علي عبد الرازق، وزكي نجيب محمود، وحسين أحمد أمين، وفؤاد زكريا وصولًا إلى حسن حنفي، ومحمد أركون، ومرتضى العسكري، والطيب تيزيني، وعبد الله العروي، وبرهان غليون وغيرهم.
مشروع طه حسين له شقان:
الشق الأول: تنويري فكري ثقافي عربي يعتمد على التفاعل مع الثقافة الأوربية، حيث إنه أباح الأخذ من الثقافة الأوربية، من موقع الثقة بالنفس، لا من موقع رد الفعل، ومن موقع الفخر بالحضارة الإسلامية، وحيث لا تكتمل رسالة التنوير إلا بمد جسور مع الفكر العالمي في صيغتيه التاريخية والحديثة، عبر تعريب روائع الفكر الإنساني.
ولقد كان الدكتور طه مدركًا لقيمة الفكر والأدب اليونانيين، فعرّف القارئ العربي بهما في نظام الأثينيين ومسرحيات “سوفوكليس”، وأما الحديثة فترجمات للأدب العالمي، فلا مستقبل لأمة تغمض عينيها عن ثمرات الفكر والأدب، وهو يعود إلى تأكيد هذا المبدأ في كتابه المهم المذكور دائمًا “مستقبل الثقافة في مصر”: “هو أن نأخذ من الحضارة الغربية خيرها وشرها حلوها ومرها، ما يُحب منها وما يكره وما يُحمد منها وما يعاب”، ثم يؤكّد على بعدين أساسيين في نهضة مصر الحديثة، أولهما البعد الفرعوني، وثانيهما البعد المتوسطي، فمصر – كما يرى – تشرف على البحر الأبيض، وتربطها بأوروبا وشائج من القرابة التجارية والفكرية والجغرافية، ويتساءل طه حسين: أَوَلَم يتجسد هذا التقارب في عصر البطالسة، حين كانت الإسكندرية قطب العالم المتنور المتحضر المبدع؟
لكن طه حسين في نفس الوقت لم يقبل بفك الرابطة مع العالم العربي، فهو رئيس مجمع اللغة العربية، وهو الذي مدح الخليفة “المأمون” عندما ترجم العلوم الإنسانية والعلمية عن الإغريق والفرس والهنود، وهو الذي دافع عن الهوية المصرية والعروبة والقيم الإسلامية، فهو الذي كتب “مرآة الإسلام”، و”الوعد الحق”، وعلى هامش السيرة، وغيرها من كتب الإسلاميات، التي يمكن الأخذ منها عندما نريد تجديد الخطابين العربي والإسلامي، وهو نتاج حضاري، يؤخذ منه أكثر مما يُعرض عنه.
أما الشقّ الثاني: فهو البحث عن الديمقراطية والحرية الإنسانية، وظل طه حسين يدافع عن قيم العدل والحرية، وإتاحة الفرصة للتعرف على كل المذاهب والأفكار والمدارس، وهو ما فعله في كتبه:- “الفتنة الكبرى بجزأيه عثمان وعلي وبنوه” – حديث الأربعاء – مع أبي العلاء في سجنه – على هامش السيرة – الأيام – مستقبل الثقافة في مصر، وغيرها من كتب تهتم بالإنسان على اختلاف أديانه وأعراقه.
انحاز طه حسين للمستضعفين، فأهدى كتابه “المعذبون في الأرض” إليهم، فقال في الإهداء: “إلى الذين يحرّقهم الشوق إلى العدل، وإلى الذين يؤرقهم الخوف من العدل … إلى الذين يجدون ما لا ينفقون، وإلى الذين لا يجدون ما ينفقون .. أسوق هذا الحديث”، ثم خطا الخطة الأكبر عندما طالب بأن يكون التعليم بالمجان، فقال :“إن الله لم يخلق الماء ليشربه فريق من الناس دون فريق، والله لم يخلق الهواء ليستنشقه فريق من الناس دون فريق، فليكن التعليم كالماء والهواء”، وحين تولى طه حسين وزارة المعارف(التعليم) عام 1950 في وزارة حكومة حزب “الوفد” أعطى المثل، حين يمارس المثقف قناعاته ونضاله الفكري والتنويري، فكان أول قرار يتخذه هو مجانية التعليم ما قبل الجامعي.
كان طه حسين يرى التعليم من أهم شروط إصلاح المجتمعات، وحذّر من أن بعض الأمم المتقدمة تفقد استقلالها، لأنها ليس لديها تعليم جيد، ولا جيش قوى يحمي الاستقلال، كما كان يرى أن من ضمن شروط إصلاح التعليم هو الديمقراطية، حيث يربط طه حسين بين الديمقراطية، وبين الاستجابة لشروط الحياة الكريمة، قال في كتابه “مستقبل الثقافة في مصر”: “يجب أن تضمن الديمقراطية للناس ما يقيم أودهم، ويعصمهم من عادية الجوع، ولكن يجب أن تضمن لهم بعد ذلك القدرة على أن يصلحوا أمرهم، ويتجاوزوا ما يقيم الأود إلى ما يتيح الاستمتاع بما أباح الله للناس من لذة ونعيم الحياة”.
وقد شقّ طريقه في هذا الدرب حتى النهاية، رغم فتاوى التكفير، التي لاحقته حيًّا وميّتًا، حيث ما زال السلفيون الوهابيون يعتقدون أنه عاش ومات كافرًا، لمجرد أنه نقد التراث الإسلامي، ودافع عن الشيعة والصوفية والمعتزلة، كما أن كتابات الدكتور طه المتعلقة بالتاريخ الإسلامي ورجاله تعد من أبرز الإسلاميات التي يرجع إليها القرّاء والباحثون على السواء.
والغريب أن طه حسين مات في زمن فارق، مات مباشرة بعد آخر حرب خاضها وانتصر فيها الجيش المصري ضد الكيان الصهيوني عام 1973، وارتفعت أسعار النفط عاليًا، وكان بداية الغزو الصحراوي الوهابي لمصر وغيرها من دول العالم، أنتجت الوهابية كل حركات التكفير والفتن، ونشرت فتاوى تكفير طه حسين وغيره، وقتلوا المفكّرين مثل الدكتور “فرج فودة”، وحاولوا اغتيال “نجيب محفوظ”، وسجنوا آخرين، وتهاونت الدولة معهم، فحاولوا اغتيال “طه حسين” بعد وفاته بعقود.
ولعل خير ما قيل في أدب الرثاء في تاريخ اللغة العربية، هو قصيدة الرثاء للشاعر الكبير نزار قباني “حوار ثوري مع طه حسين”، والتي قال فيها:
ضوء عينيك أم هما نجمتان
|
كلهم لا يرى وأنت تراني
|
ارم نظارتيك ما أنت أعمى
|
إنما نحن جوقة العميان
|
اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
Source URL: https://maarefhekmiya.org/11097/tahahussein/
Copyright ©2024 معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية unless otherwise noted.