آراء في تفسير الوجوب العقلي والأخلاقي

آراء في تفسير الوجوب العقلي والأخلاقي
 
مرّ في الوجيزة السابقة الإشارة إلى أهمية البحث، وإلى أن دائرته تشمل الوجوبات العقلية الأصيلة -مقابل المقدّمية- والأخلاقية.
أما الآن فسنشرع باستعراض جملةٍ من المباني التي فسّر كل منها الوجوب بمعنى ما، مبتدئين برأي المحقّق الأصفهاني رحمه الله.
الرأي الأول: الوجوب عقليٌّ، صوريّ مجازي (رأي المحقّق الأصفهاني الكمباني رحمه الله تعالى).
لا يخفى كون المحقّق الأصفهاني من أولئك الذين شكّلوا حجر زاوية أساسي فيما يرتبط ببحث الاعتبار، حيث اشتهر تعرّضه له في طيّات تعليقته النقدية على المتن الأصولي الأم -منذ ما يقرب القرن من الزمن- في الحوزات العلمية الإمامية، أعني به كفاية الأصول. هذا حتى أن البعض ذهب إلى أن بحث العلامة الطبطبائي رحمه الله في الاعتبار وطرحه له كبحث مستقل – فضلًا عن تطبيقاته المطّردة في كلامه علا مقامه- إنما هو راجع في أصل فكرته إلى أبحاث أستاذه المحقّق الأصفهاني، طبعًا مع الفارق بينهما حيث إن التلميذ فاق أستاذه -في هذا الجانب لا أقل- بلا شك.
على أي حال كان المراد بيان أنّ للمحقّق الأصفهاني إشارات -على أقل تقدير- فيما يرتبط بفلسفة علم الأصول، وفق المصطلح الذي بدأ بالرواج بين متأخري الباحثين في علم الأصول؛ ومن الأمور التي أشار إليها المحقّق رحمه الله معنى الوجوب وتفسيره، وهو ما سنتعرّض له هنا.
يربط الشيخ لاريجاني بين رأي المحقّق الأصفهاني في الحسن والقبح، وبين تفسيره لمعنى الوجوب.
أما في الموضوع الأول فقد ذهب المحقّق الأصفهاني إلى أن الحسن والقبح (بمعنى استحقاق المدح أو الذم) اللاحقين للعدل والظلم ليسا من الأمور البرهانية الواقعية، بل هما في الحقيقة من الأمور العقلائية غير البرهانية، أو فقل مما تطابقت عليه آراء العقلاء.
قال: “وهذا الحكم العقلي من الأحكام العقليّة الداخلة في القضايا المشهورة المسطورة في علم الميزان في باب الصناعات الخمس، وأمثال هذه القضايا ممّا تطابقت عليه آراء العقلاء لعموم مصالحها وحفظ النظام وبقاء النوع بها”[1].
 وقال في مورد آخر: “وأما نفس كون العدل حسنًا يمدح على فاعله، وكون الظلم قبيحًا يذم على فاعله، فمأخوذ من العقلاء وعليه، فليس المراد بكونه حجة عقلًا إلّا كونه حجة عند العقلاء”[2].
والمدح يشمل الثواب، والقبح يشمل العقاب أيضًا على هذا المعنى للحسن والقبح؛ هذا ما نشهده واضحًا عند تلميذ الأصفهاني، الشيخ محمد رضا المظفر رحمه الله تعالى حيث قال: “ثالثًا: أنّهما يطلقان ويراد بهما المدح والذّم، ويقعان وصفًا بهذا المعنى للأفعال الاختياريّة فقط. ومعنى ذلك: أنّ الحسن ما استحقّ فاعله عليه المدح، والثواب عند العقلاء كافّة، والقبيح ما استحقّ عليه فاعله الذمّ، والعقاب عندهم كافّة.
وبعبارةٍ أخرى، أنّ الحَسَن ما ينبغي فعله عند العقلاء؛ أي أنّ العقل عند الكلّ يدرك أنّه ينبغي فعله، والقبيح ما ينبغي تركه عندهم؛ أي أنّ العقل عند الكلّ يدرك أنّه لا ينبغي فعله أو ينبغي تركه.
وهذا الإدراك للعقل هو معنى حكمه بالحسن والقبح‏”[3].
هذا رأي المحقّق في الحسن والقبح، وأنهما من المشهورات بالاصطلاح المنطقي. وقد قدمنا ذلك لكونه داخلًا في تفسير الوجوب عنده.
فالوجوب عقلًا فيما يظهر من بعض كلماته يرجع في حقيقته إلى إدراك أن الفعل حسن، وأن الترك قبيح، وهذا -بناءً على ما تقدّم من مبناه- يعني أن الوجوب يرجع في النهاية إلى بناءات العقلاء.
وبيانه، أن للنفس الإنسانية كمالات ونقائص؛ وهذه الكمالات والنقائص مما يدركه العقل ويشاهده من النفس وأحوالها وانفعالاتها اتجاه كمالاتها ونقائصها.
وهذه الكمالات والنقائص قد تكون في مورد معين وحالة جزئية، وقد تكون مُدركَة عند العقل -بعد التجربة والانصقال- على نحو عام وكلي، بحيث يرى العقل أن الأمر الفلاني عادة ما يكون كمالًا للنفس، والأمر العلّاني عادة ما يكون نقصًا لها.
هذا، ويقتضي كون البشر أمثالًا ثبوت الحكم لهم جميعًا في العادة. وبالتالي فإن كان الأمر كمالًا لأحدهم في الجملة سيكون للجميع كذلك، والعكس بالعكس.
بعد هذا الإدراك نجد أن العقلاء يلاحظون جميعًا في الجملة هذا الأمر، فلا يقعوا -من حيث هم كذلك- في خلافٍ فيه، فتتطابق في المحصّلة آراؤهم عليه ويشتهر بينهم، بل أكثر من ذلك حيث يرون أن فاعل ذي المصلحة يستحق المدح، وفاعل ذي المفسدة يستحق الذم.
حينما يُدرك الإنسان هذا الاستحقاق للمدح تارة، وللذم أخرى، يكون -فيما يرى المحقّق الأصفهاني- متمثّلًا لوجوب الفعل المعين. فالوجوب عقلًا عنده إذًا ليس إلّا إدراك استحقاق العقاب، واستحقاق العقاب ما هو إلّا ثبوت القبح للفعل، وهو حصيلة اتفاق آراء العقلاء عليه، ويُختصر جل ما تقدّم بمصطلح أهل المنطق والميزان بقولهم: “تأديبات صلاحية”.
هذا روح ما ذهب إليه المحّقق الأصفهاني، مع شيءٍ من الجمع والإضافة.
أما دليله على ذلك فهو باختصار أن العقل لا يبعث ولا يدفع إلى الفعل، فالعقل عنده مجرد مُدرِكٍ لا أكثر. والعقل العملي عنده لا يمتاز عن النظري إلا بما يدرِكه هذا العقل، أي بمدرَكه.
“ومعنى حكم العقل- على هذا- ليس إلّا إدراك أن الشي‏ء ممّا ينبغي أن يُفعل أو يُترك. وليس للعقل إنشاء بعثٍ وزجرٍ، ولا أمر ونهي إلّا بمعنى أنّ هذا الإدراك يدعو العقل إلى العمل، أي يكون سببًا لحدوث الإرادة في نفسه للعمل وفعل ما ينبغي”[4].
ومن العبائر المهمّة التي تختصر روح ما ذكرناه سابقًا بالسبك المعهود، قوله في باب القطع من الأصول رحمه الله:
“لا يذهب عليك أن المراد بوجوب العمل عقلًا ليس إلّا إذعان العقل‏ باستحقاق العقاب على مخالفة ما تعلق به القطع، لا أنّ هناك بعثًا وتحريكًا من العقل أو العقلاء نحو ما تعلّق به وإن كان هو ظاهر تعليقة أستادنا العلّامة أدام اللّه أيّامه على الرسالة، ضرورة أنّه لا بعث من القوّة العاقلة وشأنها إدراك الأشياء، كما أنّه لا بعث ولا تحريك اعتباري من العقلاء.
والأحكام العقلائيّة، كما سيجي‏ء إن شاء اللّه تعالى، عبارة عن القضايا المشهورة التي تطابقت عليها آراء العقلاء حفظًا للنظام، وإبقاءً للنوع كحسن العدل وقبح الظّلم والعدوان”[5].
كان هذا رأي المحقّق الأصفهاني؛ أما في المقابل فسنقف على رأي تلميذه العلامة محمد حسين الطبطبائي طاب ثراه.
 
[1] الأصفهاني، محمد حسين، نهاية الدراية في شرح الكفاية، (بيروت: مؤسسة آل البيت لإحياء التراث، الطبعة الثانية، 1429)، الجزء 3، الصفحة 29.
[2] المصدر نفسه، الصفحة 288.
[3] المظفر، محمد رضا، أصول الفقه، (قم: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم، الطبعة الخامسة، 1430)، الجزء 2، الصفحة 275.‏
 
[4] المظفر، محمد رضا، أصول الفقه، مصدر سابق، الصفحة 287.
[5] الأصفهاني، محمد حسين، نهاية الدراية في شرح الكفاية، مصدر سابقن، الصفحة 18.



المقالات المرتبطة

نهاية تاريخ ونهاية أيديولوجيات

إن أول ما يثير الإنتباه في حوارنا هذا مع داعية نهاية التاريخ، البروفسور فرنسيس فوكوياما، هو ظاهر التحلل من الموقف التمامي الذي رافق أطروحتين شغلتا العالم،

الولاية من تقليد المكلف إلى تقليد النظام السياسي والإداري لمفاصل الحياة

الهدف نقل الحديث عن نظام ولاية الفقيه من المنطقة التقليدية المشهورة في إثبات حجيتها الدينية وتقليد المكلف، إلى منطقة الجرأة

الوعي والأسئلة الدينية

عادة ما يحدد الإنسان بكونه “كائنًا حيًا واعيًا”، أي يمتلك، بالإضافة إلى العضوية الحية التي يشترك بها مع غيره من الكائنات المتسمة بالحياة، قدرة إدراكية يستعملها في إدراك ذاته وإدراك الوجود.

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<