فرنسا: من مكة أوروبا… إلى جهنم المسلمين.. والفرنسيين
by ليلى مزبودي | ديسمبر 25, 2020 7:46 ص
هل تصبح فرنسا مكة أوروبا؟
هذا كان العنوان البرّاق لمقالة نشرت في القرن الماضي، كانت من دون شك فاتحة الحملة على الإسلام والمسلمين، ولا تزال تتوالى فصولها حتى اليوم.
عرضت المقالة عدد المسلمين الآخذ بالارتفاع في فرنسا، وتوقفت عند عدد المتدينين فيما بينهم، وعند عدد الفرنسيين الذين يعتنقون الإسلام فيها، متوقعة أن يصبح المسلمون القوة المسيطرة في غضون خمسين عامًا.
لا شكّ أن هذا العنوان تعبير عن الهلع الذي أصاب دوائر القرار فيها.
فضلًا عن أسباب هذا التصاعد التي انصبت عليها الدراسات والمقالات اللاحقة، أخرجت من أمّهات الكتب تاريخ الوجود الإسلامي في أوروبا، من إسبانيا وأوروبا الشرقية، والبلقان وصيقيليا… والمعارك التي خيضت، بما فيها معركة بواتييه الشهيرة التي أوقفت زحف الفتوحات الإسلامية في القرن الثامن.
وبدأت تنتشر نظرية أن الإسلام يعيد اجتياح أوروبا من البوابة الفرنسية…
كان ذلك في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، حيث كان عدد المسلمين آنذاك بحدود الأربعة ملايين، وعدد المعتنقين خمسين ألفًا، وهو عدد كبير شمل العديد من الأسماء المهمة: الفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي، الكوريغراف الراقص موريس بيجار، وإن تراجع لاحقًا عن قراره.
ومنذ ذلك التاريخ، لعنة الأرقام تؤرق الدوائر الفرنسية. اليوم، لا يوجد رقم محدّد لعدد المسلمين، حيث يتأرجح بين الأربعة والثمانية ملايين. وقد أُقحم في الجدل السياسي، بين من يريدون تضخيمه للتعبير عن حجم الخطر، وبين من يخشى إظهاره على حقيقته حتى لا يدرك المسلمون قوة وجودهم فيطالبون بثقة بحقوقهم، ويؤثّرون على سياسات بلدهم الداخلية والخارجية.
كذلك الأمر بالنسبة إلى عدد معتنقي الإسلام بين الفرنسيين، بات هو أيضًا يخضع للتعداد المنتظم، وللتقييمات المتباينة التي تختلف بين مؤسسة وأخرى. وزارة الداخلية تقول: إنه تضاعف ليصل إلى 100 ألف، المنظمات الإسلامية تؤكّد أنه يبلغ الـ 200 ألف، فيما يؤكّد مدير المعهد التيولوجي الغزالي في مسجد باريس الكبير جلول صديقي أنه وصل إلى المليون عام 2013، ومسجد باريس الكبير تابع للجزائر بالتنسيق مع الدولة الفرنسية.
إلّا أنّ هناك رقمًا متفق عليه، حيث يشكّل مسلمو فرنسا ثلث مسلمي أوروبا، علمًا أنّ هناك مسلمين في بريطانيا من أصول هندية وباكستانية في الأغلب. كما أنّ هناك مسلمين أتراك في ألمانيا.
جزء من مشكلة المسلمين الفرنسيين الأساسية أنهم دومًا تحت مجهر الدراسات السوسيولوجية، وترصد الإحصاءات طبيعة علاقاتهم مع دينهم ومع الدولة ومع القيم الفرنسية السائدة؛ تحصي عدد الذين يصلّون، وعدد الذين يصومون شهر رمضان، وعدد الذين يرتادون المساجد، وعدد الذي يعتبرون أنهم ملتزمين، أو الذين يعتبرون أنفسهم ينتسبون إلى الثقافة الإسلامية، وعدد الذين يأكلون الأطعمة الحلال، وعدد الذين يشربون الخمر، أو لا يشربون، وعدد النساء المحجبات وغير المحجبات، وتلك اللواتي يقبلن بالزواج المختلط، وعدد الذين يؤمنون بالعلمانية والجمهورية، وعدد الذين يريدون تطبيق الشريعة الإسلامية…
الوجود الإسلامي المعاصر في فرنسا كان يعود إلى ستينيات القرن الماضي عبر موجات المهاجرين التي استقدمت من مستعمرات فرنسا القديمة في أفريقيا الشمالية وغيرها، من الرجال خاصة، جاؤوا إليها للمساهمة بأيديهم العاملة في إعادة بنائها بعد الحرب العالمية الثانية، وللقيام بالأعمال الوضيعة، وقد ازداد عددهم عندما فتحت أبواب الهجرة عبر قانون جمع العائلات…
طيلة هذه الحقبة، هذا الوجود ما كان قط ليؤرق مضجع الفرنسيين.
إلا أنه ابتداء من الثمانينيات، وقع تحت تأثير أحداث شرق أوسطية مهمّة ومؤسسة لمرحلة جديدة. من انتصار الثورة الإسلامية في إيران، إلى المقاومة الأفغانية ضد الاجتياح السوفياتي، وبدرجة أقل انطلاق المقاومة الإسلامية في لبنان ضد الاجتياح الإسرائيلي، وانطلاق الانتفاضة الفلسطينية الأولى في فلسطين المحتلة.
ووقع بالأخص تحت تأثير ما حصل في التسعينيات في الجزائر، البلد المنشأ لأغلبية المسلمين الفرنسيين، ألا وهو فوز الإسلاميين في الجزائر، واندلاع الحرب الأهلية فيها، ومشاركة فرنسا إلى جانب الدولة الجزائرية.
فالمسألة الإسلامية في فرنسا ليست فرنسية بحتة، بل تتقاطع فيها خطوط عدة؛ فضلًا عن الصراع العربي الإسرائيلي، والإسلامي الصهيوني في الشرق الأوسط، هناك التركة الثقيلة في العلاقة بين الاستعمار الفرنسي وشعوب الكيانات المستعمرة الوافدة إليها من المغرب العربي- الأمازيغي على وجه التحديد، والعلاقة اللاحقة مع أنظمتها في مرحلة ما بعد الاستعمار بما فيها سياسات فرنسا الاستغلالية في أفريقيا السوداء.
كما يندرج فيها على المستوى الفرنسي الأوروبي الصراع مع الإسلام على المستوى الحضاري الثقافي المسيحي ذي البعد التاريخي، وإشكالية العلاقة بين الدين والعلمانية، والتي تعتبر فرنسا أنها الجبهة الطليعية فيه.
وإذ بدا للوهلة الأولى أن البعد السياسي، ومن ثم الجهادي للإسلام هو الذي يقلق دوائر القرار في فرنسا، إلا أن الأشكال التي اتخذها الصراع خلال هذه العشريات بدا أنه أعمق بكثير؛ هو ثقافي بامتياز. الأمر الذي شخّصه الخبير السوسيولوجي ( أوليفيه لوروا) Olivier le Roy قائلًا: إن “فرنسا اليوم تعيش أزمة في هويتها عبر الإسلام”.
انطلاقة الحملة على الإسلام كانت من خلال التصويب على الجمهورية الإسلامية في إيران، فيما كان يُنظر إيجابيًّا إلى ما كان يحصل في أفغانستان، والتي وصف الإعلام الفرنسي المقاتلون فيها ضد الاتحاد السوفياتي بالمجاهدين، وليس بالجهاديين.
وتم الهجوم على النظام في إيران، وعلى شخصية الإمام الخميني من خلال فكرتين محوريتين: تم تصويرها بأنها دكتاتورية دينية يحكمها رجال الدين والشريعة الإسلامية، وتم تصوير الولي الفقيه بأنه يتمتع بصلاحيات مطلقة يختزل التنوع السياسي، بل ويغيّب دور المواطنين.
واستعرت الحملة مع دعم فرنسا لصدام حسين في الحرب على إيران، مع ما رافق ذلك من أعمال تخريبية على الأرض الفرنسية. وتتعرض فرنسا منذ حربها في الجزائر، إبان الاستعمار، إلى أعمال تخريبية هي بمثابة رد على مشاركاتها في حروب الخارج.
ووصلت الحملة إلى حدّها الأقصى مع الفتوى التي أهدرت دم صاحب كتاب “آيات شيطانية”، الهندي البريطاني سلمان رشدي، واتخذت المواجهة عنوان الدفاع عن حرية التعبير والكتابة، واستنفرت فيها الدول الغربية كلها. وبقيت قضية سلمان رشدي تُحرّك بين الفينة والأخرى حتى تسعينيات القرن الماضي.
في الحقل الإعلامي، انتقدت التجربة الإيرانية الإسلامية لأنها ليست على النمط الغربي. فكما يعتبر الغرب حضارته أنها نهاية الحضارات، فهو يعتبر الديمقراطية آخر الأنظمة السياسية وأعدلها، وأنها على عللها أفضل الموجود. واللافت أن جهابذته لم يلحظوا الآليات الديمقراطية التي أدخلت على النظام السياسي في الجمهورية الإسلامية عبر العمليات الانتخابية من تشريعية ورئاسية، فلم يتوقف عندها، وتعامل معها باستخفاف.
لا شكّ أن ما ساعدهم في رؤيتهم هذه ما كان يروّج عن النظام الإسلامي في إيران في بعض الأدبيات السياسية المغلوطة التي قدّمته كنظام حكم مطلق، لم تظهر فيه دور المؤسسات، ويريد تصدير الثورة بالقوة.
ولكن من الملاحظ اليوم تغير ملحوظ في تناول هذا النظام وهذه الدولة، والبحث في أسبابها لا يقع في نطاق بحثنا.
خلال هذه الفترة أطلّ الإعلام الفرنسي على الاختلاف السني الشيعي، مع انتشار المراكز الشيعية فيها، إلا أنها أُغلقت في نهاية الثمانينات، وتم طرد العديد من اللبنانيين والإيرانيين الشيعة.
فيما ترك الحبل على الغارب للإسلام الوهابي بتمويل سعودي قطري، ويوصف في الدراسات الفرنسية بالإسلام السلفي، وهناك أيضًا جمعيات تابعة للإخوان المسلمين، فيما تسيطر على جامع باريس الدولة الجزائرية بالاتفاق مع السلطات الفرنسية، وهناك أيضًا تيارات صوفية.
ومنذ هذه الحقبة، أعين دوائر القرار الفرنسية شاخصة على ما سمّي الإسلام السياسي الذي منح مصطلحًا خاصًّا به الإسلاموية Islamisme؛ يوصف من خلاله الحركات الإسلامية بما فيها حزب الله، وحركة حماس، والإخوان المسلمين إلخ…
في الفترة نفسها انطلقت الحملة على المرأة المسلمة المحجبة؛ وهي حملة عابرة لكل الحملات؛ بمعنى أنها تثار بشكل متقطع ولكن متواصل.
اعتُبر الحجاب دليل على عدم المساواة بين المرأة والرجل، وعلى منزلتها الثانوية بعد الرجل، وعلى هيمنة النظام الأبوي، وعلى أنها امرأة خاضعة، رجعية، متخلّفة، كما تم التصويب على قانون الأحوال الشخصية المستند على الشريعة الإسلامية من زواج وطلاق بيد الرجل، وحضانة الأولاد، وولاية الرجل على المرأة كأم وأخت وابنة…
كما تركّزت الحملة على مقولة أن النساء مجبرات على ارتداء الحجاب، وادعاء أن ارتداء الحجاب لا يخضع لخيارهنّ الحر، ولا يزال الطرق على هذه الفكرة، حتى عندما برهنت دراسة أجريت عام 2008 عكس ذلك.
من الملاحظ أن الكليشيهات الإعلامية حول المرأة المسلمة الملتزمة تبقى نفسها، حتى عندما تؤكّد الدراسات السوسيولوجية عدم صوابيتها. من الملاحظ أيضًا في النقاش الإعلامي عدم الاعتراف الضمني لحرية المرأة المتدينة، وخيارها للإسلام يوضع في خانة اللاحرية. ومن الملاحظ أيضًا وأيضًا، أن أغلبية اللواتي نُصِّبنّ لهذا الدور المنتقد للحجاب كنّ من النساء الفرنسيات المسلمات العلمانيات من أصول عربية وإسلامية.
في فترة لاحقة، تم تصنيف الحجاب ضمن ما سمّي بالرموز العلنية للدين، Signes ostentatoires، الأمر الذي اعتبر أنه يتعارض مع روحية العلمانية، وقيم الجمهورية المنصوص عليها في قانون عام 1905.
علمًا أن هذه القاعدة لم تظهر قط قبل مسألة الحجاب؛ ذلك أن اليهود والمسيحيين لطالما كانوا يظهرون رموزهم الدينية على غرار الكيبا، والصليب في المدارس من دون أن يلقى ذلك أي اعتراض. وصدر قانون منع الرموز الدينية في المدارس دون الجامعات شاملًا لكل الأديان.
إلا أنه أفضى إلى اتخاذ السلطات الفرنسية قرارات قاسية تجاه المرأة المتدينة، انسحب من القطاع العام إلى الخاص.
الطالبات المحجبات منعنّ من الدخول إلى المدارس الرسمية بحجابهنّ، واضطررن إلى نزعه قبل الدخول إليها، ومعاودة لبسه بعد خروجهن. في إحدى المرات، صدر قرار فردي من إحدى المدارس يمنع حتى لبس التنورة الطويلة.
حتى في صور بطاقات الهوية، وجوازات السفر، والملفات الرسمية يجب على المرأة أن تخلع حجابها، كما أن المرأة المحجبة ممنوعة من مزاولة وظيفة في دوائر الدولة، وقد انسحب ذلك، أحيانًا، على المؤسسات الخاصة أيضًا.
النساء المحجبات في فرنسا تعرضن لـ 82% من اعتداءات الإسلاموفوبيا، بسبب حجابهن الذي يبرز انتمائهنّ الديني؛ إهانات في الطرقات، طرد من المحالّ التجارية، رفض البيع لهن…
بعد العام 2000، انطلقت حملة جديدة تزامنت مع الانتفاضة الفلسطينية الثانية، وهنا دخل العنصر الصهيوني بشكل واضح على الحلبة. كان جليًّا أن الهدف منها هو بالتحديد منع تضامن الفرنسيين المسلمين مع أترابهم الفلسطينيين، وتأثيرهم على السياسة الفرنسية الشرق أوسطية.
في هذه الفترة، انطلقت الحملة على الإسلام والمسلمين تحت عنوان: “الإسلام الفرنسي”، والذي كانت طُرحت فكرته من أواخر الثمانينات، بحيث يكون منفصلًا عن البيئة العربية والإسلامية التي أتى منها، وذلك بالتزامن مع شعار عدم إدخال الصراع العربي الإسرائيلي إلى فرنسا، وعدم استيراده، رغم أن الجيش الإسرائيلي لديه احتفال سنوي في فرنسا من أجل جمع التبرعات.
لعبت الشخصيات الفرنسية الصهيونية دورًا أساسيًّا في هذه المعركة ولا تزال حتى الآن، وإحدى شخصياتها الأبرز اليوم والذي يسعّر الإسلاموفوبيا بشكل متواصل هو اليهودي الصهيوني إيريك زيمور، وبالرغم من إدانته والحكم عليه عدة مرات بتهمة التحريض، إلا أنه يبقى الضيف المفضل في برامج التلفزيونات الفرنسية.
أطلق حملة الإسلام الفرنسي نيكولا ساركوزي عام 2003 عندما كان وزيرًا للداخلية، وهو معروف في الداخل الفرنسي بولائه للصهيونية.
أنشأت وزارة الداخلية المجلس الفرنسي للدين الإسلامي بغية ضبط النشاط الإسلامي. آخر مواقفه المعبرة عن توجهاته في الأزمة الأخيرة، أنه دعا المسلمين الفرنسيين إلى عدم تأييد دعوات المقاطعة على البضائع الفرنسية في العالم العربي والإسلامي ردًّا على الرسومات المسيئة للرسول محمد (ص) التي أُعيد نشرها بتأييد من الرئيس الفرنسي، لأنها تضر بالمصالح الفرنسية.
في السنوات العشر الأخيرة، قدّمت الحركات الجهادية التكفيرية، واعتداءاتها في العالم الإسلامي، كما في أوروبا، مادة دسمة للحملة على الإسلام والمسلمين، والتصويب المركّز على الإسلام السياسي عبر إظهاره بأنه دين دموي يدعو إلى الحروب والفتوحات، وقطع الرؤوس، والرق، وتدمير الحضارات والعودة إلى الماضي… ترافقت مع الخروج إلى العلن قضية النساء المنقّبات واللواتي يقال أن عددهن يصل إلى الألفين، وانشغلت فرنسا بها واقترحت فكرة منعهن من الظهور في الأماكن العامة، فتم تغريمهن…
تسعّرت، بطبيعة الحال، هذه الحملة مع الأعمال الإرهابية التي ضربت فرنسا ومناطق أوروبية أخرى، واتخذت في بعض جوانبها أشكال الرسوم المسيئة للرسول وللمسلمين على أساس ديني.
خلال هذه الفترة كانت فرنسا أكثر دولة أوروبية تُصدّر المقاتلين الجهاديين التكفيريين إلى الشرق الأوسط للتخلّص منهم واستغلالهم في مشاريعها فيه. ساهم في ذلك، من دون شك، انتشار المدارس والمساجد والمعاهد الوهابية الممولة من السعودية وقطر بنسبة 50% منها، بحسب نائب فرنسي جورج فينيش.
من الملاحظ أن العديد من مرتكبي هذه الأعمال الإرهابية هم من أصحاب السوابق الجرمية، وتم اختزال الإسلام في هذا القالب الجهادي التكفيري الإرهابي.
فالاختزال السلبي لصورة الإسلام والمسلمين هو السمة التي تتصف بها هذه الحملات دومًا. يرافقها التعميم السلبي الذي يصوّب الاتهام على المجموعة كلها وعلى دينها، بسبب جرائم فئة قليلة منها…
ربما كرّس رؤيةَ أصحاب دوائر القرار المتحيّزة التعميمة بأن المسلمين غير مندمجين في البيئة الفرنسية، والمتدينين منهم على وجه الخصوص. من ناحية، الأمر يعود إلى محاذير مرتبطة بتعليمات دينهم، منها عدم التواجد في أمكنة تقدّم المشروبات الكحولية، وما أكثرها في فرنسا، وعدم مصافحة امرأة (تم اقتراح تجريم من يمتنع عن ذلك)، وتجنب الاختلاط. إلخ…
في الإعلام يتم التركيز عليها بشكل دائم، ودومًا من خلال مسلمين غير متدينين علمانيين، ففرنسا تدير الصراع ضد الإسلام من خلال المسلمين أنفسهم!
إلا أن هناك تعنّت فرنسي لرفض هذه الخصوصيات، وهو تعنّت يُعمل على ترسيخه لدى عامة الفرنسيين عبر إظهار هذه الخصوصيات بأنها تهديد لثقافتهم، وتعبير عن الرجعية والتخلّف، وعدم مواكبة العصر.
في الوقت الذي لا يتم التصويب فيه على خصوصيات المجموعات الدينية والإثنية الأخرى في فرنسا، من يهودية وبوذية وصينية وهندية… والتي قد تكون مُدانة من منظار فرنسي علماني متطرّف. هذه الفئات تعيش أيضًا في أحياء خاصة بها فيما بينها، ولا أحد يقترب منها، ومن بينهم فئة من اليهود المتدينين غير مندمجين البتة.
لا شك أن اليهود الفرنسيين هم الفئة المدللة في الجمهورية الفرنسية، يحسدهم على ذلك ليس المسلمين فحسب، بل والمسيحيين أيضًا. في خضم حملة البلديات الفرنسية لمنع نصب شجرة بابا نويل في مبانيها والأماكن العامة خلال أعياد الميلاد، كونها رمز ديني، أجيز لليهود نصب الشمعدان في قلب العاصمة باريس أمام برج إيفيل، احتفاء بعيد هانوكا.
لا شك أن الخوف من تأثير الإسلام هو الذي يحرّك هذه الهجمة عليه وعلى أتباعه، والعمل على تشويهه وتشويه صورة أتباعه المؤمنين.
يُراد دومًا تقديم هؤلاء بأنهم غير متعلمين، غير مثقفين، يتم التلاعب بعقولهم، متخلّفين، يأتون من بيئات محرومة، لديهم مشاكل نفسية،… ويتم دومًا التصويب عليهم في كل مرة ترتكب أعمال عنفية وإرهابية… فالتعميم المجحف هو دومًا القاعدة المتبعة؛ وهو تعميم يمر عبر التعمية على الأفراد الذين يعطون صورة جميلة عن الإسلام والمسلمين. ويتجسد ذلك فيما يتجسد أيضًا عبر التعرّض للمثقفين المسلمين المتدينين الجديرين بهذه التسمية، وهم لا يُستهان بهم، من بين المعتنقين كما من ذوي الأصول، فهم يتمتعون بقدرات فكرية عالية، وقدرات خطابية عقلانية مقنعة، بحيث يجيدون التوجه إلى العقل الغربي، إلا أنهم مبعدون من المشهد الإعلامي، ومن الجدال والنقاش الذي يتناول دينهم ومجموعاتهم، ومن النقاش الرسمي عندما يراد من خلاله اتخاذ القرارت التي تخصهم. وعندما يصمدون يعمل على تقبيحهم، كما حصل مع المفكّر والداعية السويسري من أصل مصري طارق رمضان؛ وهو حفيد حسن البنّا من أمه، وهو شخصية مؤثّرة في هذه البيئة. يمتلك فصاحة وطلاقة فكرية ولغوية وحجة قوية ( كان مستشارًا لرئيس وزراء بريطانيا الأسبق طوني بلير للشؤون الإسلامية)، اتهم بالتعدي الجنسي على نساء شهدن ضده فسجن. وفيما ظل يؤكّد أن علاقاته لم تكن قط تعدّيًا بل بالتوافق، والبعض منها اختراع، تم تمريغ صيته في التراب في وسائل الإعلام، قبل أن تصدر إدانته، وقضيته ذهبت إلى محكمة الاستئناف…
يتهم المسلمون في فرنسا دوائر القرار أنها أرادت عمدًا وضمن الحملة عليهم، تشويه صورة طارق رمضان لأنها لا تريد أن يتحدث باسمها من هو لائق بذلك، ولأنها تريد ضمن الحملة على المسلمين فرض ممثلين عنهم لا يمثلونهم في واقع الحال، بل هم غير جديري بهم على غرار حسن الشلغومي، شيخ من أصل تونسي، قريب من اللوبي الإسرائيلي، وهو لا يتمتع بأي كاريزما، ولا أي مستوى ثقافي.
ويعيب المسلمون الفرنسيون على السلطات الفرنسية أنها تريد أيضًا أن تفرض عليهم ممثليهم في مختلف دوائر السلطة، خاصة أولئك الذين لا يعني لهم الإسلام شيئًا، ومن يكنّون العداء للإسلام، أو هم ملحدون، ويأسفون أن “المسلمين الجيدين بالنسبة إلى فرنسا هم الذين ليسوا بمسلمين” في واقع الحال.
Un bon musulman pour le France est celui qui n’est pas musulman
قليلون يعرفون، على سبيل المثال، أن أفضل مدرسة للتعليم العام والتكنولوجي في فرنسا عام 2013 كانت مدرسة إسلامية تدعى ابن رشد، وهي موجودة في مدينة ليل شمال فرنسا.
اليوم مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ظهر عنوان جديد للحملة على الإسلام، وهو “مواجهة الانفصالية الإسلامية”، يندرج ضمن الدعوة إلى “إسلام فرنسي”. اقترن مع إغلاق عشرات الجمعيات الإسلامية، من بينها مجمع الشيخ ياسين الموالي للفلسطينيين، من دون قرار قضائي، وإغلاق مواقعها على الإنترنت وعلى اليوتيوب، حيث استطاع المسلمون المتدينون التعويض عن تغييبهم في الإعلام السائد. وأغلق المجمع ضد الإسلاموفوبيا في فرنسا، والذي كان مشهورًا بجرأته في مواجهة كل من يتعرّض للإسلام والمسلمين جورًا من خلال اللجوء إلى القضاء. في الحملة الأخيرة، مؤسّسة مروان محمد وجّه نداءً إلى مجلس حقوق الإنسان لدى الأمم المتحدة حول سلوك حكومة ماكرون ووزير داخليته جيرار داميان.
خلال الأعوام الثلاثة الماضية، أغلق 358 مركزًا وجمعية إسلامية، بحسب هذا الأخير، من بين المراكز المغلقة، مركز الزهراء الشيعي.
قبيل الحملة الحالية على المسلمين، وفي شهر أيلول الماضي، تعرّض أعضاؤها للملاحقة والاعتقال بما فيهم رئيسهم يحيى القواسمي.
واقترن مع هذه الحملة اقتراح قوانين توغل أكثر في إلغاء خصوصيات المسلمين. كما الاقتراح القاضي على سبيل المثال، بالسجن خمس سنوات والتغريم بـ 75 ألف يورو لكل من يرفض أن يتعالج على يد امرأة في المستشفيات العامة، علمًا أن اختيار المعالج حق تنص عليه وزارة الصحة الفرنسية، ولو ترك المجال لوزير الداخلية، كما قال متبجّحًا مؤخّرًا، فهو سيمنع أيضًا بيع الأطعمة واللحم الحلال.
تنسى فرنسا اليوم فيلسوفها السياسي مونتسكيو، صاحب “روح القوانين” التي صاغت قوانين فرنسا بعد الثورة، ونسيت معها مبدأه الشهير حول ضرورة التناسب بين الجريمة والعقاب… في صراعها مع الإسلام باتت تخسر شيئًا فشيئًا مبادئها التي قامت عليها إبان ثورتها…
وهي تريد اليوم تطبيق مفهوم للجمهورية والعلمانية يلغي الخصوصيات الدينية والثقافية، ويفرض توحيد homogénéisation النسق الثقافي فيها، بل وتريد فرض سيطرة الدولة على الفرد؛ أي أنها تنحو بخطى ثابتة نحو الاستبداد…
واليوم أكثر من أي وقت مضى، وتحت عنوان: “تحرير الدولة للدين”، بحسب توصيف الباحثة في المركز الوطني للدراسات الاجتماعية CNRS كلار دو غالامبارن، تصبّ جهودها في صياغة إسلامها الفرنسي من خلال العمل على تفريغه من الداخل. في النقاش الإعلامي، كل ما لا يعجبها من خصوصيات ثقافية إسلامية، لا علاقة لها بالعقلية التي قد تفضي إلى الأعمال الإرهابية، بات يصور بأنه ليس من الإسلام، أو أنها تدرجه ضمن الإسلام السياسي، فهي تريد تفريغه من الداخل بعد أن فشلت في احتوائه؛ لأنها بكل بساطة لا تريد تقبّله إلا إذا كان على القياسات التي تفرضها.
قد تكون هذه الحملات طيلة أكثر من ثلاثين عامًا قد آتت أكلها لدى المسلمين، فانكفؤوا على أنفسهم، وأغلقوا أنفسهم في أحياء خاصة بهم، لا يختلطون فيها ببقية أقرانهم الفرنسيين، ترتفع فيما بينهم نسبة الجريمة، وتجارة المخدرات، والعنف… الأمر الذي يذكّر للأسف بوضع الأميركيين من أصول أفريقية.
إلا أنه رغم كل ذلك، أصبح الإسلام بحجاب نسائه، وأحيانًا بزي رجاله الذين يرتؤون الحفاظ على الزي التقليدي، وعبر إطلاق اللحى، بل وبلهجتهم الفرنسية الخاصة بهم، أصبح واضحًا للعيان في المشهد الفرنسي أكثر فأكثر فيما سمّي بالفرنسية la visibilité de l’islam؛ أي رؤية الإسلام، وهو أمر يؤرق دوائر القرار أيضًا…
تحاول هذه الأخيرة تصدير قلقها عبر الحملات الإعلامية المغرضة إلى الرأي العام، وهذا الأخير بات أيضًا تحت وطأة الدراسات والأرقام التي ترصد نظرته إلى الإسلام والمسلمين في بلده؛ وهي نظرة متقلّبة على وقع الحملات الإعلامية على ما يبدو.
عام 2016 كانت أغلبية الفرنسيين تعتبر أن الإسلام يتعارض مع قيم المجتمع الفرنسي، إلا أنه بعد عامين بلغ 56 % الذين يعتبرون العكس، بحسب دراسة قام بها المعهد الفرنسي للرأي العامIFOP المشهور بدراساته ذات الصدقية. نشرت نتائجه مجلة JDD. وعلينا أن نرصد اليوم ما آلت إليه الأرقام بعد الحملة الحالية.
وبحسب دراسة أجراها المتخصّص في شؤون أفريقيا والهجرة جان-بول غوريفيتش Jean-Paul Gourévitch والذي تعتبر دراساته الأكثر جدية، هناك 8 ملايين ونصف مسلم في فرنسا، أغلبيتهم ينتمون إلى الجيل الثالث والرابع، من بينهم 3 ملايين ونصف من الملتزمين دينيًّا.
ما بين 70 ألفًا إلى 160 ألفًا هم من الراديكاليين…
لا بدّ وأن تتحمّل فرنسا جزءًا كبيرًا من مسؤولية ميل هؤلاء نحو التطرف، نتيجة الحملات التحقيرية التي تعرّض لها المسلمون الفرنسيون. فكرهوا البيئة التي نشؤوا وتربوا فيها. وهو عامل إذ يتفاعل مع عوامل أخرى من ارتفاع لنسبة البطالة في صفوفهم، ونسبة التسرّب المدرسي ونسبة الجريمة، لا بدّ وأن يؤدّي إلى الانفجار، وبذريعة هؤلاء، يتم التصويب الدائم على المسلمين وكأنهم دومًا متهمون وعليهم تقديم صك براءة.
من الواضح أن فرنسا عالقة في حلقة مفرغة!
المسلمون المتدينون في فرنسا يناضلون لوحدهم، نادرًا ما يتدخل أقرانهم من العالم الإسلامي لمساندتهم أو دعمهم، فقط عند التعرّض لشخص الرسول الأكرم محمد (ص)، كما حصل عدة مرات مع الرسوم المسيئة. ربما اهتم بهم المغرب العربي- الأمازيغي أكثر، لأن أغلبيتهم ينحدرون منه، إلا أن المشرق العربي والإسلامي قد لا يعرف ما الذي يحصل معهم.
لا شكّ أيضًا أن العلاقة بين فرنسا والمسلم المغربي أو الأفريقي مختلفة عنها مع المسلم المشرقي (لبنان، سوريا، إيران، تركيا). قد يعود الأمر إلى اختلاف نوعية الاستعمار الفرنسي الذي مورس على كل منهما. لا تزال العقلية الفرنسية لدى دوائر السلطة تنوء تحت وطأة نظرتها السلطوية تجاه القارة الأفريقية.
وقد يعود أيضًا إلى أنّ المسلمين المشرقيين يأتون عامّة من بيئات اجتماعية أعلى من البيئات التي جاء منها المسلمون المغاربة والأفارقة، والذين وفدوا من بيئات ريفية فقيرة ينخرها الفقر والأمية. للصراع أيضًا وجه طبقي مؤكّد، إذا ما استعرنا المصطلحات الماركسية.
ربما آن الأوان لكي يطل مسلمو الشرق على هذه المشكلة. ربما آن الأوان لكي يدلو بدلوهم من أجل مساعدة أقرانهم الفرنسيين في محنتهم، سواء كانت لأسباب ذاتية أو خارجة عن إرادتهم.
وكما يستنفر مسيحو الغرب من أجل حقوق مسيحيي الشرق والعالم الإسلامي عندما يشعرون أنها تنتهك، لا بد لنا أن نستنفر نحن المسلمون في هذا الشرق من أجل مسلمي فرنسا والغرب…
في الأمر مصلحة للإسلام وللمسلمين… ولمحور المقاومة… وللقيم التي قامت عليها فرنسا، عندما كانت دولة تنادي بالحرية والعدالة والمساواة؛ لأنها في الوقت الحالي تريد إدارته بعقلها الاستعماري، وإلا ربما أصبحت فرنسا جهنم المسلمين، بل وكل الفرنسيين.
(ملاحظة وتأكيد: اللوبي الموالي لإسرائيل يلعب دورًا أساسيًّا في تسعير الحملة على الإسلام في فرنسا عبر الحملات في وسائل الإعلام التي يسيطر على أغلبيتها، وعبر جوقة من المثقفين الذين تستضيفهم التلفزيونات المسيطرة. وكما قلت سابقًا هذا اللوبي يخشى تأثير المسلمين على السياسة الخارجية الفرنسية المتعلّقة بالصراع العربي الإسرائيلي. كما يعمل هذا اللوبي سرًّا وجهارًا حتى تكون فرنسا على غرار الولايات المتحدة الأميركية صهيونية بالكامل. لا شك أن هذا العامل هو الأكثر تأثيرًا من بين العوامل الأخرى المؤثّرة في المسألة الإسلامية في فرنسا وهو يجيد تسعيرها كلها. وإذا كان هناك خوفًا في ثمانينات القرن الماضي بأن تصبح فرنسا “مكة أوروبا”، هناك عمل دؤوب حتى تصبح بالأحرى “قدس أوروبا”، بالمعنى اليهودي، وليس الإسلامي لمدينة القدس، وهذا ما لن يقوله الإعلام الفرنسي).
مصادر.
-
«The Future of the Global Muslim Population» [archive], sur Pew Forum on Religion & Public Life [archive], janvier 2011 (consulté le 10 janvier 2012).
-
Jean-Paul Gourévitch, Les véritables enjeux des migrations, Éditions du Rocher.
-
Jean-Paul Gourévitch, Les migrations en Europe, Acropole, 2007.
-
Génération islam: ces jeunes convertis qui ont la rage et oublient la République [archive], Elisabeth Schemla, Atlantico, mai 2013
-
Kalmel Meziti, Dictionnaire de l’islamophobie, Bayard Jeunesse, 2013.
-
Olivier Roy, «L’islam européen n’est pas un islam civilisationnel» in Le monde des religions, no 37, septembre-octobre 2009.
-
L’image de l’Islam en France [archive], ifop.com, 25 octobre 2012.
-
L’image de l’islam se dégrade en France et en Allemagne [archive], lejdd.fr, 29 avril 2016.
-
Pour 56% des Français, “l’Islam est compatible avec les valeurs de la société française» [archive], lejdd.fr, 10 février 2018.
-
Emmanuelle Walter, «Le Point et “les musulmans”: les statistiques de la peur » [archive], sur Arrêt sur images.net, 24 septembre 2019.
-
Bernadette SAUVAGET, «Des imams du terroir, un vœu pieux?», Libération, 7 mai 2013.
-
«La Seine-Saint-Denis, département le plus criminogène» [archive], sur Banque des Territoires.
-
Claire Chartier, «Farhad Khosrokhavar: « L’islam majoritaire dans les prisons», L’Express, 15 mars 2004.
-
Gérard Courtois, «Les crispations alarmantes de la société française», Le Monde, 24 janvier 2013.
-
Article du Monde: Les Français jugent “trop importante” l’influence de l’islam, Reuters et lemonde.fr du 25 octobre 2012. [archive].
-
Marie-Christine Tabet, «Religion, famille, société: qui sont vraiment les musulmans de France », Le Journal du dimanche, 18 septembre 2016.
-
La croisade islamiste, 2011, sous-titrée “pour en finir avec les idées reçues”.
*[1] رئيسة تحرير موقع قناة المنار باللغة الفرنسية.
اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
Source URL: https://maarefhekmiya.org/11367/heijab-france/
Copyright ©2024 معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية unless otherwise noted.