في معنى لذة الموت وكراهة الحياة

في معنى لذة الموت وكراهة الحياة
 
عند باب الآخرة، تسكت لغة الواجبات، وتبدأ لغة الوله.
شحنة وقود العشق تغمر سحنته. ما أولهني إلى أسلافي.
تتصاعد أنفاسه في آخر رمق بيننا. فيتكلم بلغة العشق ولم يحن أوانها بعد.
كيف تجاوز مخط القلادة حتى أحاط بالموت ولم يحط به.
وكيف لابتسامته أن تلهم الصحب. فيبتسموا للموت.
وكيف يكون مذاق العسل. وطيب العناق. والأنس بالجوار.
 
تقدير الحياة الفردية
يبدو أنه وبمجرد الولادة، يولد معنا شعور عميق وراسخ بأننا قد امتلكنا فرصة ثمينة جدًّا في الحياة، وهذا الشعور العميق يحفّزنا بقوة – حتى قبل أن نعيه – إلى أن نغتنم ونعيش فرصة الحياة بكل لحظاتها وتفاصيلها. وأن نحرص عليها بشدة ونوليها فائق الاهتمام. لا شيء يضاهي قيمة الحياة بحيث يجعلنا نفكر – لوهلة – بالتنازل عنها. وبكلمة، التنازل عن الحياة يعني التنازل عن أنفسنا.
من هنا، يتحدّد الموقف الطبيعي للإنسان في أنه يتعلّق بالحياة حتى الرمق الأخير، ويفر من الموت، بل ويضرب المثل على ذلك بفراره من الأسد. فهل يمكن أن تنقلب الموازين الطبيعية في بعض الحالات، بحيث يتعلق الإنسان بالموت ويفر من الحياة؟
في الواقع لا يصل الإنسان إلى مرحلة الفرار من الحياة أو النفور منها، أو التخلّي عنها إلا لأسباب فائقة تتجاوز الأوضاع الطبيعية السائدة لدى البشر عمومًا، وهذه الأسباب لا يمكن فهمها إلا في الحالات التي يفقد فيها التواجد في الإطار الطبيعي للحياة معناه، سواء كانت الأسباب من طبيعة سامية، أو من طبيعة تتسم باليأس والإحباط.
والحياة نفسها تظهر لنا بأشكال مختلفة. ففي شكلها البسيط والمباشر هي شعور بلذة الطعام والشراب، والأمن الاجتماعي والاقتصادي، وهناءة العيش، واجتناب كل ألم. وفي شكلها المتقدّم هي تمثيلات حياتية مترفّعة عن ابتذالات عالم المادة، وهي تلازم الإنسان وتعطفه نحو سمو الحياة وامتدادها إلى ما هو أبعد من ركود الذات وحضورها في المأكل والملبس. وفي شكلها الأرقى هي صفاء المعنى، وخلوص المغزى، وبريق يتجاوز الاعتبارات التي تضفيها المادة والماديات والتي قد تستهلك قسطًا وافرًا من اهتمامات البشر الحياتية، قبل أن تتضح رسالة الحياة في الموقف والكلمة والعبرة، وربما في الشهادة؛ أي في المستوى الأعلى من مستويات تجلّي المعنى، وأسمى ظهور من ظهورات الحياة.
ونحن في الغالب لا نلتفت إلى الأهمية التي توحي بها فكرة توزيع الحياة إلى مستويات متفاوتة. كما قد لا نلتفت للتصنيف الذي يحظى به وجودنا الشخصي في سلّم الحياة. وحتى لو كنا نمتلك الوعي بذلك من الناحية النظرية، إلا أننا نكتفي في الغالب بالتعامل مع المستوى المعيوش بالفعل كما لو أنه المستوى الوحيد المتاح للحياة. وأكثر من ذلك، إننا نعيش في عصر تطغى فيه مبررات الانكماش في الحد الأدنى للحياة، أي الحد الذي لا يتجاوز المستوى النباتي والبهيمي، ومع ذلك تدعونا هذه المبررات للاكتفاء بهذا الدرك الأسفل بوصفه الغاية القصوى لكل حق واستحقاق، وتفرض نفسها علينا بوصفها من بديهيات العصر. ومن هنا، تغدو قضية الوعي والبصيرة من الضرورات التي تسبق أي جهد عملي يقع في طريق فهم الحياة، وذلك بسبب ما يثيره هذا الوعي على صعيد القيم المتفاوتة للحياة؛ الحياة الدنيا أو الحياة الأخرى.
ففي حين يستكين أغلب البشر إلى خدر الطبيعة وحضنها الدافيء، ويميلون تلقائيًّا إلى حشر القيمة القصوى للحياة في حدّها الأدنى، إلى درجة لا يعود هناك مجال للتنبّه طرح سؤال الحكمة: هل ينبغي أن يفعل؟
هنا، تأتي قضية الحياة في حدّها الأعلى كصفعة خفيفة، وربما دامية. لتعيد تنبيهنا إلى وجود نمط متفاوت في القيمة عما نعيشه فعلًا من أنماط الحياة. نمط يُنعِش فينا الشعور بالسمو الذي يخامر حياتنا العميقة، ويجعلنا لا نتردّد أبدًا في طرح سؤال الحكمة، بل وأن نسمع دوي صراخه وهو يردّد في ذواتنا: ما الذي ينبغي فعله لكي نعيش حياتنا الراقية؟
لا شك أن الموت والحياة هما من الوضعيات التي لا تدخل في نظام الإرادة والاختيار، إذًا، ماذا يعني سؤال الحكمة في مجال الموت والحياة؟ نحن نمتلك أن نحيا حياتنا بكيفية ما، بمستوى ما، وبالتالي يكون باختيارنا تحديد كيفية حياتنا وكيفية موتنا. ولكن ليس بالمعنى الذي يجعلنا نتحكّم باحتساب أسباب الفعل ونتائجه بدقة صارمة، أو أن نقرر توقيت الولادة والوفاة، وإنما هي كيفية نوعية ترتبط بنمط العبور الآمن من وإلى الحياة. والعبور الآمن بوصفه نتيجة العمل، يرتبط صميميًّا بإرادة الإنسان واختياره. وهو ما يضفي المعنى على أصل الوجود في مضمار الحياة الدنيا، والغرض منه، والتدقيق في نظام التحكّم والحكمة يفيد أن العبور الآمن هو نفسه نمط للحياة. فما هو هذا النمط؟
في الواقع، إنّ فهمنا للطبيعة البشرية وانعكاسات هذا الفهم على الطبيعة الوجودية للعالم، وما يتضمنه من حياة وموت، سوف يضعنا على مسار محدّد في سلّم القيم.
كل إنسان منا موجود على مسار معين في حياته الأرضية، ويتحدّد هذا المسار بحسب فهمه لطبيعة وجوده ورسالته، والخلفية الثقافية التي يتحرك على أساسها.
يمكن أن نحدّد مسارات متنوعة لحياة الإنسان على الأرض بحسب تنوع الثقافات والحضارات وما تحمله من قيم ودلالات غائية.
وإذا ما صحّت النظرية وتطبيقاتها، أي إذا ما أمكن لنا القول بتعدد المسارات الحياتية للانسان، وأمكن لنا أن نحدّد تلك الطبقات التي تتوزع عليها تلك المسارات. فإن ذلك من شأنه أن يفتح البصيرة أمامنا على طبيعة الخاتمة المحتومة التي تنتظرنا في نهاية النفق، وحينئذ قد ندرك سر الابتسامة العميقة التي تعلو سحنة البعض وهم يلفظون آخر رمق من حياتهم على الأرض.
في المستوى الأدنى والدرك الأسفل من الحياة، تتجلّى المواجهة في قضية الحياة والموت في أشد صورها مأساوية. مع أننا نتحدّث عن مستوى هابط من الحياة، مع مستوى جرى التعبير عنه في آي القرآن الكريم “بالحياة الدنيا”، إلا أن مستوى الاشتباك هنا يكون أعمق، وما ذلك إلّا لأن الموقف السلبي في هذا المستوى ينعكس سلبًا على سائر المستويات الحياتية.
ويتحدّد جانب مهم من جوانب الحكمة العملية في محبوبات الإنسان ومرغوباته. وتتحدّد محبوبات الإنسان في مرتبتين: مرتبة البدن في جلب المنافع وتحقيق رفاهية العيش. ومرتبة الفطرة في تحقيق قيم العدالة والصدق والعبادة والتواضع. إلا أن الأساس في العمل الحكيم يتحدّد من خلال نوعية الهدف؛ فيقال إن العمل الذي يهدف إلى تحقيق متطلبات مرتبة الفطرة يكون حكمة. فالحكمة تقتضي أن يلازم الإنسان ما فيه سبب سعادته، ويجتنب ما فيه سبب شقائه، وتتجلى الحكمة في هذا المقام من الاشتباك في الخوف الرادع؛ “رأس الحكمة مخافة الله”. ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى* فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾[1].
ولكن ماذا عن أولئك الذين لم ترتدع أنفسهم عن ارتكاب الهوى؟ فهم أيضًا يخافون الموت، بل وخوفهم يفوق على خوف الآخرين من الموت.
وفي هذا المجال، عادة ما يقال: إن الإنسان يفر من الموت لأسباب سلوكية. وعلى سبيل المثال: إن الإضبارة السوداء لحياة الإنسان العملية سوف تلاحقه إلى يوم الحساب، أو أن انهماك الإنسان في عمارة دنياه سوف يصرفه عن آخرته؛ ولا أحد يحب أن ينتقل من دار عمّرها إلى دار خرّبها!
ويفترض هذا التقرير أن ذوي الصفحة البيضاء والأعمال الطيبة سوف لن يجدوا في الموت كثير مؤونة وعناء، كيف وهم مقبلون على تسلّم الجائزة والمكافأة والمجازاة على أعمالهم الطيبة.
ليس من الحكمة في شيء التراخي في مقتضيات هذا الخوف والاستئناس بأسباب رفاهية العيش، والخلود إلى المنافع الآنية بما يؤدّي إلى نسيان ذكر الموت، والخلود إلى الدنيا والتثاقل إلى الأرض. فإن هذا الركون والتقاعس يفضي إلى الانتكاس في الرؤية والبصيرة ويردي صاحبه ويودي به في المهالك.
يعيش الإنسان صراعًا في سبيل تقدير الذات يبلغ به درجة تحوير الاعتقاد بما يناسب رغبة النفس ورضاها، ومع أن الاعتقاد لا يغيّر من حقيقة الواقع شيئًا، إلا أن الإنسان وبتأثير من مطرقة الواقع وسندان تقدير الذات يلجأ إلى تغيير هذا الاعتقاد. وقد سمعنا كيف أن البعض يقوم بتغيير هويته الدينية لمناسبات تتعلّق بشدة الحساب وهول الآخرة، وهكذا يتم التعامل مع الأديان كما لو أنها مطروحة كخيارات يمكن الانتخاب من بينها.
والبعض الآخر يصل إلى مرحلة من التعلّق الدنيوي لا يعود يقبل معها أي اعتقاد يتنافى مع تقدير الذات؛ ﴿وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا﴾[2] فـ “ما يملكه الإنسان في حياته الدنيا من الأموال والأولاد وهي زخارف الحياة وزيناتها السريعة الزوال والفناء التي تتزين بها للإنسان فتلهيه عن ذكر ربه وتجذب وهمه إلى أن يخلد إليها ويعتمد عليها، فيخيل إليه أنه يملكها ويقدر عليها، حتى إذا طاف عليها طائف من الله سبحانه فنت وبادت ولم يبق للإنسان منها إلا كحلمة نائم وأمنية كاذبة”[3].
وكقوله تعالى في مورد آخر: ﴿وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ﴾[4] فـ “ما يراه لنفسه من الكرامة واستحقاق الخير كأنه يقول: ما ملكته من الخير لو كان من الله فإنما هو لكرامة نفسي عليه، وعلى هذا فإن قامت الساعة ورجعت إلى ربي كانت لي عنده العاقبة الحسنى. وليس لأحد أن يمنعني عما أفعل فيه ويحاسبني عليه وما أظن الساعة – وهي يوم الحساب – قائمة، وأقسم لئن رجعت إلى ربي وقامت ساعة كانت لي عنده العاقبة الحسنى لكرامتي عليه كما أنعم علي من النعمة”[5].
لا يمكن أن يتخلّص الإنسان من تهويمات الذات والاعتقاد بالواقع إلا بالرجوع إلى المنطق الواقعي، والعودة إلى وعي الموت من الموقع الذي يتكافأ مع الاستعداد له، وأن يحصر فكره في مسألة أنه: إذا كان لا بدّ من ملاقاة المصير فما هو أنسب وسيلة لذلك؟
تقدير الحياة الاجتماعية
يُطرح الفرض السابق في الوضع الطبيعي على صعيد الأفراد، وقد تحوم حوله تساؤلات منطقية حين يطرح في مجال الجماعة البشرية؛ فإن العمل الطيب والإيمان الخالص وخوف الآخرة البنّاء يختص بفئة قليلة من الناس. وإلا فإن الأعم الأغلب من الناس منصرفون في الأعم الأغلب عن قضية الآخرة. فهل هذا الفرض يشير إلى فشل المشروع الإلهي، أم أن المشروع الإلهي يستهدف التحقيق البياني على الأرض وليس من مهامه التحقيق التطبيقي. الله تعالى تكفّل بيان الحق وأراد للإنسان أن يقيم الحق، وبهذا تكتمل شروط الحكمة ومقتضياتها في الإلهيات. ويبقى سؤال الحكمة مفتوحًا في مجال الإنسانيات، وأما إعادة طرحه في مورد الإلهيات فهو خلاف الحكمة نفسها.
وفي السياق الاجتماعي، قد ينشأ فرار الإنسان من الموت من أسباب ذات طابع اجتماعي تتعلّق بارتباطه بما هو معروف ومألوف لديه، وعدم ارتياحه من كل جديد مجهول لديه، فالإنسان اجتماعي بالطبع.
وفي المقابل، يكفي أن يتنبّه الإنسان إلى أن مواجهة الوضعيات الجديدة للحياة سوف تساعده على النضج والخبرة، وكشف مساحات واسعة من المجهول، واستيعاب المزيد من الألفة بواقع أسمى. وكم من الهجرات المؤلمة عادت على أصحابها بالمزيد من الغناء والنمو والخبرات والانتصارات، بل إن الموت في سبيل هدف راق هو في الصميم حياة للإنسان؛ لأن حياته الحقيقية لا تكون بالجسد، وإنما ببقاء الذكر وسموّه وتحوّله إلى رمز وأنموذج ومثال أسمى، وبالتالي تأثيره على صعيد مسار حياة الجماعة.
ولكن، هل من الحكمة أن يموت الإنسان استجابة لإغراء التحوّل إلى رمز من رموز الجماعة؟ وهل يمكن لمثل هذه الرمزية أن تفسّر لنا سر التلذّذ بالموت؟
تفترض الحكمة نمطًا من الأحكام التي تحدّد مسار العمل، وهذه الأحكام هي من إملاءات الضمير الكلي الذي يرسم مسار الحدث الإلهي (في الإلهيات)، ومسار الحدث الإنساني (في الإنسانيات). ويميل أصحاب هذا الاتجاه إلى ترسيم حركة الكون بوصفها مشيئة الله. الله تعالى هو الضمير الذي يندفع على أساسه تيار الوجود المنبثق.
وفي مقابل العقل الديني، هناك العقل المدني الفلسفي الذي يقوم على ضرورة نظام الاجتماع البشري، وهو بهذا ينشط في إطار حياة الإنسان الاجتماعية، وهو الحكمة العملية المشهورة بين العقلاء، والتي هي من صفات الفعل الإلهي لا الذات. ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾[6].
وهناك من يفترض أن العقل المدني هو تطبيق من تطبيقات العقل الديني؛ فإن صفات الفعل تنبع من صفات الذات؛ وما بالعرض لا بدّ أن يرجع إلى ما بالذات. وهذا التنوع يعود إلى مستوى الحياة الذي ينتخبه الإنسان لعيشه، وهو يعكس مستوى الوعي والبصيرة والخبرة لديه.
وفي الواقع، فإن العقلاء يمجّدون شهداءهم ويجعلونهم في مصاف الخالدين الذكر، ويحتفلون بهم عند كل مناسبة، وما ذلك إلا لأن هؤلاء وضعوا أنفسهم في مورد الشهادة والموت من خلال الدفاع عن الأرض والوطن والعرض. ولكن ذلك لا يفسّر لنا شيئًا من سر التذاذ الشهيد بالشهادة وإقباله على الموت بطيب خاطر، ورضًا باطني عميق.
فناء كل سافل في عاليه
الجميع يخافون من الموت، والحسن يخاف من الحياة؛ لأن هذه زراعة وذاك حصاد[7].
بعض التفسيرات المتقدّمة لحقيقة الموت، ترى أن موت الإنسان هو انقطاعه عن غيره، وارتقاؤه إلى بارئه المتوفّى إياه. إن النفس الإنسانية جوهر روحاني النسج والسوس، لا تفسد بفساد بدنه العنصرى، فالموت ليس بعدم وفناء، والإماتة ليست بإعدام وإفناء، بل هو تفريق صفة الوصل بين الروح والجسم، وتفريق بيننا وبين ما هو غيرنا. وفى الأثر عنه – صلى الله عليه وآله وسلم: “خلقتم للبقاء لا للفناء”. وفى آخر: “خلقتم للأبد وإنما تنتقلون من دار إلى دار”. وفى آخر: “الأرض لا تأكل محل الإيمان”. والتفريق مروى عن الإمام الصادق (ع) فى تحف ابن شعبة، قوله تعالى شأنه: ﴿اللهُ يَتَوَفَّى الأنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ[8]. الموت جار على جميع ما سوى الله، وهذا الموت بمعنى فناء كل سافل فى عاليه، وتوجه كل سافل إلى عال، ورجوع كل شيء إلى أصله، وعود كل صورة إلى حقيقتها. ثم من يخاف الموت فهو فى الحقيقة يخاف نفسه، والعاقل بمعزل عن تقية الموت، والله سبحانه لا يرضى بموت أحد سيما الإنسان إلّا لأجل حيوة أخرى مستأنفة فى وراء هذه النشأة[9].
قد يقال: إن فرار الإنسان من الموت ينشأ من أسباب معرفية تتعلق بتقدير خاطيء لقضايا من قبيل المرض والجهل والموت، كونها تشكّل الجانب السلبي لحقائق الصحة والعلم والحياة. من هنا، فالإنسان بطبعه يفرّ من العدميات. إلّا أن تقديرًا صائبًا عن الموت من شأنه أن ينتشل الإنسان من الدائرة العدمية للوجود الأدنى، ويضعه في مصاف الكينونة العليا، وبالتالي يخفّف ذلك من وطأة الموت على الإنسان، فكيف إذا ما أدرك أن الحياة التالية هي حياة ممتلئة سعادة وهناء؟ على ضوء ذلك يتحدّد السؤال: هل أن تقديم الموت على الحياة في بعض الحالات هو أمر مفهوم ومقبول؟ وهل هذا مما ينبغي فعله بأن يضع الإنسان نفسه في مورد التلف والموت؟ هل طرح مثل هذا السؤال يندرج في أسئلة الحكمة؟ مهما يكن، الحديث عن الفهم ينبغي أن يتخذ لنفسه شكلًا مختلفًا عن أشكال الفهم العرفي وحتى الفلسفي التي طالما امتهنها الإنسان في معاقرته للواقع. فلا ينبغي أن تنبع مسألة الفهم في بعض المسائل من تصورات ذهنية بحتة، فإن مثل هذه المعرفة لا تولّد لدينا اندفاعات عملية عميقة باتجاه قدر مصيري مثل الموت.
إنما تنبع من حدس وجودي يمكن أن يعيشه الإنسان حتى ولو لم يمتلك رؤية ثقافية بالمعنى العلمي.
وهذا الحدس الوجودي يدفع بالإنسان إلى الانتماء والولاء العميق الذي يتجاوز عوائق وعقبات الموت نفسه، وذلك من خلال الإيمان الذي يُدخِلنا في وثوق عميق يتجاوز حلقات العوالم.
حدس وجودي من شأنه أن يضع الإنسان في مواجهة مباشرة مع الواقع، وينتقل به إلى باطن الشيء، ويجعله يتحد بصفاته. ومن خلال هذا الانتماء العميق ضمن دائرة الوحي والإلهام الكلّي يشرف الإنسان على واقع تفصيلي للحياة، ويعمل على صياغة الإطار الكلّي لعالم الشهادة والاستشهاد، ويحدّد مسار الحياة في أعلى مستوياته المتوقعة.
حدس وجودي يسهم فيه المؤمن بما يقتضيه إيمانه من فراسة وحدس باكتشاف مكامن الولاء للنبي (ص) ولأهل البيت (ع)  بما يتجاوز الأطر الضيقة للانتماءات العرفية، ويعيد معه تشييد ركائز القيم وفق موازين الحق والباطل: قيمة الحياة تتحدّد حصرًا في حياة الطاعة وموت المعصية.
وفي هذا المجال يتحدّد الدور الحقيقي لعاشوراء في تثقيف الحدس الوجودي لدى الإنسان، بالنحو الذي يرتقي بعملية الفهم إلى مستوى يكون تلذّذ الإنسان بالموت والشهادة مفهومًا ومعقولًا.. الإنسان الكربلائي وهو يتحول من مجرد مسافر بين عوالم إلى شاهد على العوالم بالحق.
ولا شك أن ابتسامة الموت لها جذر أعمق من مجرد اهتمامات جماعية واسترشادات عقلائية. جذر يمتد إلى فطرة الإنسان.
جذر يرتبط به الإنسان بعلاقة خاصة وحميمية مع صميم الوجود ﴿يحبّهم ويحبّونه﴾[10].
جذر تُستصغر عنده دواعي الحياة الدنيا وهواجس الممات فيدعونا من الداخل لنستشعر بهاء اللقاء ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً[11].
جذر تهبّ من خلاله نسائم الأنس الأبدي ﴿وَرِضْوَانٌ مِنَ الله أكْبَرُ[12]. ﴿فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ[13].
وهذا الجذر الفطري فكرته بسيطة جدًّا، فـ “الدّنيا مزرعة الآخرة”[14]. و”اليوم عمل بلا حساب وغدًا حساب بلا عمل”[15]. ومن ثم ﴿وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً[16].
إنّ شعاعًا من هذا الوجدان وذاك الحضور قد انعكس على صفحة وجه الشهيد فاعتلته ابتسامة، ولا مجال يسعفنا في فهم هذا السر إلا محاولة اقتناص ذلك من بيانات أصحاب الأسرار الشاهدة.
سر الحياة الأرقى
لنلتقي مع الشهيد وهو يتكور بابتسامة سلام في جنّة اللقاء؛ إذ يستهل عتبة السلام الأبدية ﴿وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ[17].
وفي لحظة انجلاء كسوف النفس بانجلاء حدود البدن والطبيعة والمادّة والجسم عن قرصها. وعند تلاشى ميل الطبيعة الحاجب وسطوع ميل الفطرة الكامن، ماذا يمكن أن تقول النفس لنفسها؟ وماذا يمكن أن تطلب الروح لروحها؟ يقول أصحاب البيانات الأسرارية أن المواجهة الأولى بين العوالم تظهر لنا بصورة انجذاب عشقي: “أنا محبّ كمال البحت وجمال الصرف” ﴿يحبّهم ويحبّونه﴾. “وليعرف العاشق طريق الوصول إلى معشوقه يتوسل الرابط بين الخالق والخلق في كل زمان ودهر وهو النبي والولي”. ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ[18].
وإذ تعلو البسمة صفحة الوجه عند اللقاء الأول، تتكشف له النواصي؛ لم يكن وجودي باختياري، ولم يكن كمالي باختياري. لم تكن حياتي وموتي باختياري. ثم لم يكن رجوعي باختياري. ها أنا أباشر الحقيقة في حدس وجودي نادر. ففي لحظة استشراف الموت يتجلّى افتقاري إلى من لا يفتقر إلى أحد، واحتياجي إلى من لا يحتاج إلى أحد. وتعلّقي إلى من لا يتعلق بأحد، وارتباطي إلى من لا يرتبط بأحد ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ[19]. و ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ[20]. ولأن الفقر من صفات ذات الإضافة؛ يشرئب القلب إليه بنداء: أضفني إليك فالكل موجود بك.
وفي خطوة خاطفة، يعبر من دنس الدثور إلى قدس الدهور. من عالم يتآكل تحت أقدامنا إلى مستقر ومقيم. فيردّد: حين تأخذ بيدي ينقطع خيط الزمن ويزول مع تصرّمه كل قلق. فأولى بي أن أبتسم على مفترق عالم البقاء والخلود ﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً[21]. خلقتم للبقاء لا للفناء”[22]. ونصدح بكل قلب الوجود: أضفني إليك. حتى تصحّ بذلك حياتي الأبديّة.
واحدة من تلك البيانات تشير إلى سر الراحة الذي هو تجلّي الاسم المرتاح. فقد يبدو من المنطقي جدًّا وبدرجة كبيرة أن تبتسم للموت حين تكتشف أنك وضعت قدمًا على عتبة الراحة الحقيقية و”التي لا تمازجها مشقة، والتي لا يشوبها ألم ونقمة هي معشوقة الجميع، وكانت هذه المعشوقة المفقودة لدى كل إنسان مقصورة في شيء، لذلك فهو عندما يحب شيئًا يتصور محبوبه فيه، مع أن مثل هذه الراحة المطلقة لا وجود لها في كل أرجاء العالم وزواياه. إذ ليس من الممكن أن تعثر على راحة غير مشوبة بالألم. إن جميع نِعم هذا العالم يصاحبها العناء والعذاب المضني، وما من لذة إلا وفيها ألم. إن العذاب والتعب والألم والحزن والهم والغم تملأ أرجاء الأرض. وعلى امتداد حياة الإنسان لن تجد فردًا واحدًا يتساوى عذابه وراحته، ونعمته توازي تعبه ونقمته، ناهيك عن الراحة الخالصة المطلقة. وبناء على ذلك، فإن معشوق الإنسان لا يوجد في هذا العالم الدنيوي. إن العشق الفطري الذي جبل عليه أبناء البشر لا يكون من دون معشوق موجود فعلًا”.
فما يجعلك تبتسم لحظة العبور الأبدي هو أنك في لحظة حدس مباشر مع “دار التحقّق وعالم الوجود. عالم لا تشوب راحته شائبة من ألم وعذاب وتعب، راحة مطلقة لا يخالطها شيء من العناء والشقاء، سرور دائم خالص لا يعتوره حزن ولا هم. ذلك العالم هو “دار نعيم الله”، عالم كرم ذات الله المقدسة”[23].
وأنت على عتبة العالم تشع فيضًا، وتمتليء حكمة وتحكّمًا فيما يشبه امتلاك عالم الوجود “ولما كانت مواد هذا العالم وما به من العسر والضيق مما يستعصي على حرية الإنسان وإرادته”، ففي تحليقة أولى تباشر فيها حريتك نحو “عالم آخر تكون للإرادة فيه كلمة نافذة، ولا تستعصي مواده على إرادة الإنسان، ويكون الإنسان في ذلك العالم فعّالًا لما يشاء والحاكم بما يريد، حسبما تقتضيه الفطرة”[24].
وها أنت تطفيء نار عشقك بتذوقك الأمان الّذي لا يشوبه خوف ولا حزن. ﴿بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ[25]. وتعرف أن طريق وصول العاشق إلى معشوقه هو الكاشف التام المعصوم في كل دورة وكورة ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً[26]. ﴿لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً[27].
فكيف لا تبتسم للعزّة التي لا ذلّ بعدها أبدًا، وأنت تطفيء نار العشق من الجنّة الجسمانية إلى الجنّة الروحانيّة فجنّة اللقاء؛ حيث تصحّح هناك حيواتك الملكوتية والجبروتية بالولاية التّامة.
تزدهر البيانات الأسرارية بلغة العشق واللقاء والبقاء، والتي يغدو معها الموت مجرد معزوفة في الطريق، لا شيء يدعو فيها للتلذذ والابتسام إلّا أن نبلغ حد الحكمة بالموت؛ وحد الحكمة هو الإعراض عن دار الفناء، والتولّه بدار البقاء.
ولكن هل تكشفت لنا أسرار الابتسامة الحمراء؟ من المجازفة أن تدّعي الحكمة أنها بصدد الكشف عن هكذا سر، فنحن ما زلنا ندور في حلقة مفرغة، لاستطلاع كيف يمكن أن نبتسم للموت قبل أن نباشر عالم الخلود؟ وأن نحمل الصحب على أن يبتسموا للموت بلا تردد؟
ودائمًا سوف نفترض أن وراء هذه الابتسامة سرًّا يمكن كشف النقاب عنه بواسطة العقل النظري أو العملي. وهو افتراض يصعب أن يتماسك فلا يتبدّد حين نلتفت إلى أن الأمور لا تسير وفق إرادة الإنسان وعقله فقط، لا تسير الأمور من خلال الوعي والتنبّه والاستنتاج فحسب. هناك ما هو أعظم من مجرد استنتاج. هناك قوة تأسرنا في دواخلنا وتجتذبنا من الأعماق، وتطبع على وجوهنا بسمة الهدوء والرضا العميق حتى ولو كانت تعترضنا في المقابل أصعب العقبات وأشد المشكلات.
ربما تدفعنا الفطرة للميل إلى هدوء أبدي ونعيم دائم، ولكن هناك أيضًا ما يجتذبنا من خارج أسوار الوجود الأرضي. وقد لا نفكر فقط في الراحة الأبدية لأنفسنا، وإنما نعشق الجمال السرمدي عشقًا لا تحرقنا معه نيران جهنم. فما يحرقنا في الحقيقة هو جهنم البعد عن المعشوق. وفي هذا سر آخر لا يكشف النقاب عنه إلا من هو أهل له، إلّا من ينطق بلسان ما عبدتك خوفًا من نارك ولا طمعًا بجنتك، وإنما وجدتك أهلًا لأن تعبد فعبدتك، وهو طور آخر ليس للعقل معه مجال في الخوض والاستفهام.
[1]  سورة النازعات، الآيتان 40 و 41.
[2] سورة الكهف، الآية 36.
[3]  الطباطبائي، الميزان.
[4] سورة فصلت، الآية 50.
[5]  الطباطبائي، الميزان.
[6]  سورة الجمعة، الآية 2.
[7]  مناجاة منسوبة للشيخ حسن زاده آملي.
[8]  سورة الزمر، الآية 42.
[9]  حسن زاده الآملي، عيون مسائل النفس، الصفحة 23.
[10]  سورة المائدة، الآية 54.
[11]  سورة الكهف، الآية 110.
[12]  سورة التوبة، الآية 72.
[13]  سورة القمر، الآية 55.
[14]  ابن أبي جمهور الأحسائي، عوالي اللآلي، الجزء 1، الصفحة 267.
[15]  الديلمي، إرشاد القلوب، المجلد 1، الصفحة 191.
[16]  سورة الكهف، الآية 49.
[17]  سورة يونس، الآية 25.
[18]  سورة آل عمران، الآية 31.
[19]  سورة فاطر، الآية 15.
[20]  سورة البقرة، الآية 28.
[21]  سورة النساء، الآية 57.
[22] عبد الواحد الآمُديّ التميمي، غرر الحكم ودرر الكلم، ش2291.
[23]  الإمام الخميني، الأربعون حديثًا، الفطرة.
[24]  المصدر نفسه.
[25]  سورة البقرة، الآية 112.
[26]  سورة البقرة، الآية 119.
[27]  سورة آل عمران، الآية 124.



المقالات المرتبطة

الأنثروبولوجيا التعريف، الهدف، الاتجاهات النظرية

يقدم الباحث الدكتور أحمد ماجد في مقاله عرضًا موجزًا ومجملًا، للأنثروبولوجيا من بداية ظهورها واختلاف تلقياتها بين الأنظمة المعرفية،

حدود الفلسفة ولوامع العرفان (بين الفلسفة والعرفان)

الهدف من الفلسفة الإلهية، فيما يختص بالإنسان، هو جعله – من حيث النظام الفكري – عالمًا عقليًا مضاهيًا للعالم العيني. وأما الهدف من العرفان، فيما يتعلق بالإنسان، فهو وصول الإنسان بكل وجوده، إلى حقيقة الله، والفناء في الله،

الحرب العالمية على جبهة القيم

من الملاحظ أن الشعوب التي أخذت قرارًا حازمًا بمواجهة الهيمنة الأميركية الأحادية على العالم قد اكتشفت أن مواجهة أمريكا على

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<