نور على نور..
by بتول إبراهيم معتوق | يناير 14, 2021 6:26 م
تلك التي شرع الإله بذكرها حين علّم آدم الأسماء، زرعوا في صدرها مسمار
تلك التي حُملت في ظهر النبوة بين معراجٍ وإسراء، أحرقوا بغيًا عليها الدار
تلك التي وقف الأمين بباها متفكّرًا كطه في غار حراء، عُصرت بين باب وجدار
أخرج الله تعالى آدم (ع) من الجنة وأهبطه إلى الأرض بعد أن أكل من شجرة الخلد، وحمل محمد (ص) الجنة معه وهبط بها حين أكل من شجرة طوبى. فتكونت الحوراء الإنسية في الأرحام المطهرة حتى ألقى الله على رسوله قولًا ثقيلًا، فأزهرت فاطمة (ع) عطيته من الله تعالى، وجرى الكوثر بين يديه وكان أول من ارتوى من عذبه خير النساء: آسيا، وسارة، وكلثم، والعذراء.
نهلت بضعة رسول الله (ص) لبنًا لم يتغيّر طعمه من السيدة التي رُزق النبي حبّها وأول نساء هذه الأمة تصديقًا له، وزُقّت البتول العلم زقًّا من بيت النبوة، وعاينت قوله (ص): “ما أوذي نبيّ مثل ما أوذيت”[1][1] في حياته وبعد وفاته. تناوحت الريح على بيت النبوة، وعصفت بأم الرسالة ونصيرها في عام الحزن، فأطفأت قبسًا في فؤاد الرسول وريحانته، ولكن لم تُخمد همّته ولم تُخبِ عزيمته في تعليم الكتاب والحكمة وإتمام مكارم الأخلاق.
تكاثفت أنوار الزهراء (ع) يومًا بعد يوم حتى اجتازت عاطفة البنوة والأبوة وأصبح رسول الله (ص) يجلّل ويعظّم فاطمة (ع) التي يرضى الله لرضاها ويغضب لغضبها، حتى قال (ص): “فداكِ أبوكِ، كما كنت فكوني”[2][2]. بعد أن سرى الرسول (ص) بأهله ومن آمن معه إلى يثرب حيث وتّد خيمة الإسلام، وشدّ أطنابها، وأصبحت مركزًا للدعوة، حان وقت الجمع بين سيف الإسلام وغمده، فعُقد قران سيدة نساء العالمين على الصدّيق الأكبر في السماء قبل أن يلتحما في الأرض. كان مهرها السرمدي (ع) من الله تعالى الشفاعة لمحبيها، ومهرها الدنيوي درع عليٍ (ع).
كان عليٌ وفاطمة ركنان لبيوتٍ أذن الله أن ترفع، تضاء بزيتٍ نوره لدنّي لا يحتاج إلى النار. إنه البيت الكامل جُمع فيه أصل الرسالة وتمامها. كان عليٌ (ع) يساعد فاطمة (ع) على تجرّع مرّ الدنيا للحصول على حلاوة الآخرة، وقد نحل رسول الله (ص) ابنته أربعًا وثلاثين شمسًا، وثلاثًا وثلاثين قمرًا، ومثلها من الكواكب لتخرق بها الحجب السبعة، وأصبح تسبيح الزهراء (ع) عقب كل صلاة خيرُ ما يُعبد الله فيه من التسبيح والتمجيد.
لا يشكو رسول الله (ص) إلى غير من نفسه بيده، لكنه عندما وجد في بدنه ضعفًا قصد بيت الزهراء (ع) لتغطيه بالكساء اليماني حتى تلألأ وجهه كأنه البدر في ليلة تمامه وكماله. وكان لذلك الوجود الملكوتي الذي يتدلّى فوق هذه الدنيا رائحةً طيبة تدل عليه. فما لبث أن اجتمع ثقل الرسالة تحت الكساء فكيف لم يمل الكوكب! اجتمعت فاطمة وأبوها وبعلها وبنوها ليحققوا إرادة الله تعالى بتطهيرهم.
قد قال فيها رسول الله (ص) وما هو إلا وحيٌ يوحى: “فاطمة قلبي وروحي التي بين جنبيَّ”[3][3]، وقال صنوه عليٌ (ع):” فَلَقَدْ وَسَّدْتُكَ فِي مَلْحُودَةِ قَبْرِكَ وَفَاضَتْ بَيْنَ نَحْرِي وَصَدْرِي نَفْسُكِ”[4][4]. إذًا فاطمة (ع) كانت روح النبي والوصي في آنٍ معًا، فحوت النبوة والإمامة، ويُشهد لها بذلك في نص الزيارة حيث يقول الزائر مخاطبًا الله تعالى: “وأرخيت دونها حجاب النبوة” [5][5].
أفلت شمس خير الأنام، وهُجر رسول الله (ص) في فراشه بعد أن اتّهم أنه هجر! ووأدوا الرسالة قبل دفن نبيهم. وسردوا عنه أحاديثًا ما أنزل الله بها من سلطان ليسخرّوها لمصالحهم، ويغصبوا بها حق الزهراء (ع). فوقعت الخطبة الفدكية كالصاعقة، فجعلوا أصابعهم في آذانهم، كأن لم يتدبروا القرآن وعلى قلوبٍ أقفالها. كانوا يصرون على الحنث العظيم، فجمعوا حطبًا ليحرقوا بجهنمهم باب الجنان والبيت الذي جمع خير من أقّلت الغبراء، وربما زعم البعض أن أنصار أهل البيت (ع) هم من المجوس لأنهم وكأنهم كلما ذكروا المصاب توسلوا بالنار أن لا تحرق دار فاطمة (ع). حرفان هزّا عرش الرحمان، فحين قال الفاسق “وإن”، حزن رسول الله (ص) بحيث ضاق الكون وأُخفي بين بابٍ وجدار. رفس الباب متناسيًا أي روحٍ تحتوي تلك الضلوع التي كسرها، وهتك حرمة الله، وتتطاول على الوجه الذي كان يقبله رسول الله (ص) وأسقط ثمرة الزهراء (ع)، وعليٌ (ع) مقيدٌ بحبل الوصية. إلى أن حانت وفاتها وقد أوصت أن تدفن سرًّا، ويُخفى قبرها، ربما لأنها كانت تعلم أنه سيهدم كما باقي قبور البقيع، فلم تُرد أن تجمع على قلب رسول الله (ص) مصيبتين، أو لتكون حقيقة قبرها حجة. غابت الزهراء (ع) عن عين وجسم أمير المؤمنين ولكنها لم تغب عن قلبه.
إن البتول (ع) لم تُعوّض بعد أن قُتل ابنها كما آدم (ع)، ولم تدعو على قومها كما فعل نوح (ع)، ولم تُجعل النار التي أحرقت باب الدار بردًا وسلامًا كما نار إبراهيم (ع)، ولم يُفدى المحسن بكبشٍ عظيم كما إسماعيل (ع)، ولم يُسمح لها بالبكاء على والدها كما بكى يعقوب (ع) على ولده حتى ابيضت عيناه، ولم تنتصر من السامري كما فعل موسى (ع)، ولم يلن المسمار لها كما لان الحديد لداوود (ع)، ولم يحمل بيتها آصف كما حمل عرش بلقيس لسليمان (ع)، ولم تُرفع كعيسى(ع) قبل الهجوم على دارها، لكنها حملت الرسالة، وتحمّلت الأذى في جنب الله، وأوذيت كما لم يؤذى نبي قط فكانت وريثة محمدٍ (ص).
[6]1 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، الجزء 39، الصفحة 56.
[7]2 مقتل الحسين للخوارزمي الحنفي، الصفحة 66.
[8]3 فرائد السمطين: 2 / 66.
[9]4 الإمام علي، نهج البلاغة: 319 ـ 320 من كلام له (عليه السلام) رقم: 202.
[10]5 إقبال الأعمال، الصفحة 166.
Endnotes:- [1]: #_ftn1
- [2]: #_ftn2
- [3]: #_ftn3
- [4]: #_ftn4
- [5]: #_ftn5
- : #_ftnref1
- : #_ftnref2
- : #_ftnref3
- : #_ftnref4
- : #_ftnref5
اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
Source URL: https://maarefhekmiya.org/11691/sayyedafatima/
Copyright ©2024 معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية unless otherwise noted.