سيّدة الكساء
by الشيخ شفيق جرادي | فبراير 2, 2021 10:30 م
إنّ حديث الكساء، من الأحاديث التي تمّ التأكيد على ورودها سواء عند الشيعة الإماميّة، أو في الكثير من كتب علماء أهل السنّة، لكنّه يلقى اهتمامًا خاصًّا عند الشيعة. ويتراوح هذا الاهتمام بين شيء من الجدّيّة والعناية العقائديّة به، والمغالاة وليس الغلوّ، في بعض السلوك المتطرّف. فما من فعل يقوم به رسول الله محمّد (ص) إلّا وله هدفيّة، وبالتالي فإنّ ما يعكسه هذا الحديث من عناية واهتمام خاص للرسول، وارتباط وترشيد من الله جلّ وعلا، ينبغي أن يلفت انتباهنا إلى المقصد من هذا الاهتمام الزائد، بعيدًا عن القشور التي غالبًا ما تلقى اهتمامًا، ويغيب عنا الهدف الذي جمع رسول الله (ص) وأمير المؤمنين والزهراء والحسن والحسين (ع).
ولهذه الواقعة – والتي تُروى بروايتين، حيث تفيد الأولى بوجود السيّدة الزهراء (ع) في دار أمّ سلمة وطلب منها الرسول (ص) أن ترسل خلف أمير المؤمنين والحسن والحسين (ع)، في حين تشير الرواية الأخرى إلى حضور رسول الله إلى دار فاطمة الزهراء عليهما الصلاة والسلام – حوادث ومواقف سابقة شكّلت إشارات ممهّدة، حيث يروي المسلمون أنّ رسول الله كان يمرّ دومًا ببيت علي وفاطمة (ع) ويسلّم عليهما قائلًا: السلام عليكم أهل البيت.
كما ويرتبط هذا الحديث بنتيجته، بالآية القرآنيّة: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾[1][1]، ما يستفاد منه بأمور عدّة:
الأمر الأوّل: عامّ بخصوص الشيعة والمسلمين مفاده: ربط محمّد وآل محمّد بالقرآن الكريم، بحيث وكأن الحادثة تقول: إنّنا لا يعنينا ما يجري في الكثير من ظروف النبيّ إن لم تكن وثيقة الصلة بكتاب الله عزّ وجلّ، وما حياة محمّد وآل محمّد إلّا تلك الصلة الوثيقة بكتاب الله.
الأمر الثاني: أنّها تدعم رأي الشيعة الذي يقول: إنّ أهل البيت هم عليّ وفاطمة والحسن والحسين (ع).
الأمر الثالث: الحديث عن معنى الإرادة الإلهيّة في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ…﴾؛ أنها الإرادة التكوينيّة.
الأمر الرابع: هو خصوصيّة السيّدة الزهراء (ع)، حيث إنّ الكتب التي تحدّثت عن العصمة تناولت الأئمّة بما هم أئمّة وأصحاب عصمة. ولكن، لعلّ المورد الأكثر وضوحًا في الإشارة البيّنة لعصمة السيّدة الزهراء إنّما يتمثّل بحديث الكساء.
لذا ينبغي استغلال هذه المناسبات لنثبّت فيها بُعدًا عقائديًّا نعيشه ونؤمن به، وهو عمق الارتباط بالسيّدة الزهراء (ع)، فالحديث حول أنّ النبيّ قصد فاطمة وكان متعبًا وكأنه، (ص)، كان حين يتعب يقصد السيّدة الزهراء (ع)، ليرتاح في حنوّها وعطفها، حتّى أسماها “بأمّ أبيها”، لما يشعر به من راحة لديها.
أما في ما يتعلق بموضوع العصمة، فإن الإرادة الإلهيّة تقسّم إلى قسمين:
القسم الأول: الإرداة الإلهيّة التشريعيّة، أي ما ينبغي فعله وتركه، والحلال والحرام، حيث إنّ الناس مخيّرة بإرادتها بين أن تلتزم فعل الحلال وكذلك الحرام، وفيما يخصّ الإرادة التشريعيّة، فإنّ كلّ الناس سواسية، فالحكم في الحِلّية أو الحُرمة يصدق على كلّ الناس وأوّلهم المعصوم. وإضافة إلى الحلال والحرام، هنالك الحقوق أيضًا، كالحقّ في الحياة، والحقّ في الدفاع عن النفس، والحقّ في الهداية.. وغيرها، فالطبيعة البشريّة مبنيّة على جملة أمور ترك الله بها المجال مفتوحًا كحقوق لها، فكما أنّ الصلاة والصوم والعبادة هي واجب على المسلم، فالاطمئنان لمطلق كامل هو الله حقّ لهذا المسلم العابد. ومن حقوق الناس أيضًا، موضوعة العدالة، الذي وبالرغم من أنها تصلح في كلّ الأحكام الشرعيّة، إلّا أنّها تمتلك ميزة في قابليّة التطبيق على كلّ السنن الإلهيّة والقواعد الإلهيّة التي زرعها في كلّ الخلائق والكون وعند كلّ الناس، لذلك وارد عندنا “بالعدل قامت السماوات والأرض”.
القسم الثاني: الإرادة التكوينيّة: وهي السنن والقواعد الإلهيّة، ومن هذه السنن الإلهيّة التي نعتزّ بها، أنّ الله خلق الإنسان على طهر. أي أنّ الأصل أنه لا ذَنْبَ ولا رجس في نفسه، وذلك خلافًا لبعض الأديان التي تقول: إن الإنسان مفطور على الخطيئة، فمقتضى خلق الله لك أن تكون طاهرًا. وكذلك أراد الله سبحانه، بإرادته التكوينيّة أن يقوّي هذا المقتضى عند بعض الناس، بحيث إنّ الطهارة وأصول الفطرة التي ولدوا عليها لا يتخلّون عنها أبدًا، فهم ليسوا ملزمين بعدم الوقوع في الحرام، ولكن هذا المقتضى الموجود فيهم يعلو بأنفسهم حتى يجعلهم يبتعدون عن الوقوع في الخطأ حتّى وليس المعصية فقط.
وهذا الأمر الخاصّ بمحمّدٍ وآل محمّد صلوات الله عليهم أجمعين، هو كذلك حقٌّ لنا جميعًا، وأمّا من يقول بالاقتصار على الحلال والحرام فقط، فهذا صحيح، ولكنّه بذلك يقوم بصناعة شخصيّة هي أشبه بالأغنام والعبيد قائمة على إفعل ولا تفعل، ولكن شخصيّة الناس الذين كرّمهم الله، هي التي جعل فيها الفطرة والصلاح، بحيث إنهم إذا أرادوا أن يرقوا إلى المستوى الذي فطرهم الله عليه فهذا حقّهم، وحتى لا يَضِلّوا الطرق، جعل لهم من يتأسّون بهم ليسلكوا دربهم، وينتهجوا نهجهم الذي يقرّبهم إلى الله، وما هذا الدرب والنهج إلّا عصمة وهداية محمّد وآل محمّد صلّى الله عليهم أجمعين.
فالمناسبة إذن، هي فرحة بولادة السيدة الزهراء (ع)، وفرحة بأن يقول الله تعالى بأنّه اختصّهم كأهل البيت، وأبلغنا بأنّهم الأسوة التي يمكن أن نقتدي بها لنصل إلى مدارج الكمال التي من حقّنا الوصول إليها، فهي إذن، محفّز للعلوّ والارتقاء.
أمّا في الجانب العمليّ، فهناك مستويين في إحياء هذا المناسبة:
المستوى الأوّل: وهو إقامة الولائم والعزائم والتبرّك بالسيّدة الزهراء وبحديث الكساء، هذا أمر مقبول، ولكن يصبح خطأً عندما يتحوّل الحديث إلى اليقينيّات في النتائج، فمن أكل، على سبيل المثال، من مائدة، أو شرب من ماء تُلِيَ عليه حديث الكساء، فسيشفى يقينًا من المرض ويفرّج عنه الهمّ والكرب ويُقضى الدين.. إلخ. هذا تضييع للهدف وتلهّي بالقشور، لأن الهدف في قناعتنا، هو أن تُوجِد هذه المرويات فينا الحافز للتمسّك بولاية محمّد وآل محمّد، لنتقدّم نحن ونترقّى على المستوى الروحيّ.
أمّا المستوى الثاني: الذي ينبغي أن ندعو إليه، هو أن نفهم بأنّ فرحة الشيعة بهذه المناسبة وهذا الحديث، إنّما تتمثّل بالثبات الواضح في البيّنة، في المعتقَد بولاية محمّد وآل محمّد صلوات الله عليهم، وأن تكون الأيام كلّها مغمورة بحبّ محمّد وآل محمّد، مثل هذه الفرحة في الولاية والانتماء والثبات تظهر كل ّمعالم عظمتها حينما تثقل علينا الدنيا بالمكروهات والمصاعب والدواهي والآلام والأوجاع والصعاب وكلّ سُبل الضغط، ويبقى قلبنا دون أن يتزلزل معترفًا ومواليًا بحبّ محمّد والزهراء صلّى الله عليهم وعلى ذرّيتهم.
[1][2] سورة الأحزاب، الآية 33.
Endnotes:- [1]: #_ftn1
- [1]: #_ftnref1
اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
Source URL: https://maarefhekmiya.org/11896/ladyfatima2/
Copyright ©2024 معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية unless otherwise noted.