النهج الفاطمي

by الشيخ شفيق جرادي | فبراير 10, 2021 9:37 ص

تطرقنا سابقًا إلى موضوع التأسي، وقلنا إنّه علينا أن نبحث كثيرًا في كل ما يرتبط بخصوصيات السيدة الزهراء (ع) من أجل أن نتبعها ونقتدي بها، فهي بالنسبة إلينا تمثّل الأسوة التي ينبغي أن نهتدي بها ونقتدي بها.

التأسي بالسيدة الزهراء (ع).

للتأسي ثلاثة مستويات:

المستوى الأول: الالتزام بالعبادات سواء كانت من الواجبات أو المستحبات. وذكر تسبيح الزهراء (ع) يتعلق بالأخلاق المبنية على الرحمة، فالسيدة الزهراء هي مدرسة النبي محمد(ص)، ودين النبي قائم على الرحمة، إذن، فالأصل هو الرحمة.

الزهراء (ع) حينما كانت تدعو الله كانت تبدأ بالناس، ثم أهل بيتها هم آخر من يمكن أن تذكرهم، ويقول الإمام الحسن(ع) “لم أسمعها مرة تدعو لنفسها”. إنّ هذا الجانب الأخلاقي في التعاطي مع الناس، والإحساس بهم، كان موجودًا عندها.

والأخلاق موجودة في كل جزء من أجزاء حياتنا، أخلاق الأسرة، وأخلاق المجتمع، وفي النظام وتطبيق أحكامه توجد الأخلاق النظامية في السلطة والقانون. حتى أنّ العنصر الأساسي في الجهاد في سبيل الله هو أخلاقي، والأخلاق الجهادية لها أبواب واسعة. ينبغي في كل ذلك أن نتأسى بالسيدة الزهراء(ع).

المستوى الثاني: التأسي يكون أيضًا في أن يتخذ الإنسان من السيدة الزهراء أسوة، وأن يشعر في عقله وقلبه ووجدانه حالة الود لها ولأهل البيت. يجب أن يكون الحال قابلًا لأن يكون متأسيًا بالسيدة الزهراء.

حين يصبح الاستغفار أمرًا مرافقًا للإنسان، وجزءًا منه ومن تكوينه، وحياته ومعاشه ونومه ويقظته، وفي كل شأن من شؤونه هو في حالة استغفار، يكون التأسي بالسيدة الزهراء (ع) في أعلى مستوياته. ينبغي أن نربي أنفسنا على التأسي بها (ع).

المستوى الثالث: المواساة، هي أن تُدخل الأنس إلى قلب وروح من تواسيه، وهي تختلف عن التأسي الذي يعني الاقتداء. يصل الإنسان في لحظات الألم الشديد، أو الغضب الشديد، أو الابتلاءات الشديدة جدًا، إلى مرحلة قد لا يستطيع سماع كلمة واحدة من شخص آخر، لأنّه في وضع نفسي استثنائي جدًا، إلا أنّ من أكثر الأمور اسثنائية إذا نزلت البلايا العاطفية الشديدة؛ أي الموت، فلا يوجد أصعب من موت عزيز على الإنسان. وكربلاء هي النموذج الحي أمامنا، كانت الأم تدفع ابنها إلى القتال وتوصيه أن لا يعود وأن يبيّض وجهها بين يدي فاطمة الزهراء (ع).

عندما عاش مجتمعنا في مدرسة بُنيت كلها على الولاء لله ومحمد وآل محمد (ص)، أصبحنا نرى كرامات استثنائية، وعندما تودع الأم ابنها الشهيد تقول له: (بيض الله وجهك كما بيضت وجهي عند سيدتي فاطمة)، وترضى عنه لأنّه دفع عنها ضريبة كبيرة. وفي أقصى حالات الشدة  كان حال هؤلاء الأمهات هكذا لأن الزهراء حاضرة في وجدانهم وكيانهم، والسبب في ذلك هو قدرة الولي على التأثير في القلوب. حين تكون أم الأولياء جميعًا (ع) تجمع دموع الباكين وآلامهم وشكواهم على ابنها الحسين (ع) ليكونوا رصيدًا لهم، وعندما يدافع هؤلاء عن الولاية بكل ما يمتلكونه من بيوت وأموال ونصيب من الحياة الدنيا، ويبذلون أبناءهم وأزواجهم في سبيل الولاية، من الطبيعي أن يبرز سر من أسرار فاطمة الزهراء. هذه هي المواساة؛ أن تعيش داخل مدرسة السيدة الزهراء(ع)، وأن تشعر بكل ما حدث معها ومع أبنائها.

المواساة مسألة حساسة ومهمة جدًا. والسيدة الزهراء التي قلبها بين يدي ربّها لا تحتاج منّا إلى مواساة بل هي تتلقاها وتحفظها. من معايير صدق الولاء أن تتبع كل إمام وأن تدخل إلى عمق الابتلاءات التي مرت معهم، ويجب أن نربي أنفسنا على أن تكون كل حياتنا مواساة للسيدة الزهراء (ع).

ورد عن الإمام الباقر (ع) أنّه قال: “ولقد كانت عليها السلام مفروضة الطاعة على جميع من خلق الله”، كأنّما لها نحو ولاية تكوينية، وطاعة تكوينية على جميع خلق الله من الجن والإنس والطير والملائكة. وفي بعض الروايات ورد “كانت إذا أرادت أن تصلي برز عمود من نور من مكان صلاتها إلى بطنان العرش، وأنّ الملائكة المقرّبين كانوا يحفّون سائلين رضا فاطمة الزهراء (ع)”. هذا المقام العبادي والمعنوي خاص بها (ع)، لذلك من أطاعها التحق بالملائكة، وبكلّ من سلّم أمره للباري سبحانه وتعالى، وبسرّ الزهراء (ع).

تحتاج مسألة (الطاعة) إلى تفصيل، ويمكن أن نستنتج كيف تكون طاعة الأئمة وأولياء الأمر على ضوء الطاعة الولائية للنبي محمد (ص). ومعنى (الطاعة) أن تقرّ وتلتزم عن وعي وإرادة حرة. وفي الآية القرآنية ﴿لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ﴾[1][1]. فيكون التذكير هو وظيفة بعض الأعمال، كموضوع الاستخارة، التي تربي على عقلية أنّ الذي يفصل في أمورك هو الحاكم عليك ومرجعك الذي هو الباري عز وجل، وهذا يعني أنّ الطاعة تحمل بُعدًا تربويًّا.

يجب أن تثق بمن تطيع وأن تعتمد عليه. بالتالي، كيف نحقق الطاعة للسيدة الزهراء (ع) التي استشهدت من أجل الولاية؟

كان تثبيت الولاية وحفظها أهم رغبة لدى الزهراء(ع). ومن يمثّل هذه الولاية في زماننا هذا، هو القائم من آل محمد الحجة المهدي (عج). بناءً عليه، ينبغي التسابق لحفظ هذه الولاية، وقداسة هذا الولي الأعظم. لقد رُسم هذا النهج بتفاصيله وكلّياته على يد الإمام الراحل روح الله الموسوي الخميني. والولاية اليوم ليست أمرًا مفصولًا عن الولاية المرتبطة بولاية الله ومحمد بن عبد الله وأمير المؤمنين والقائم بالحق، بل هي رشحة خير من تلك الولاية التي استشهدت من أجلها السيدة الزهراء، واستشهد من أجلها الإمامين الحسن والحسين، والتي استشهد على طريقها شهدائنا. لذلك علينا أن نعمل بكل جهدنا لتثبيت أركان هذه الولاية.

روي أنّ رسول الله (ص) يلتفت إلى أمير المؤمنين (ع) ويقول له: “يا علي أنت إمام أمتي وخليفتي عليها من بعدي، وأنت قائد المؤمنين إلى الجنة، وكأني أنظر إلى ابنتي فاطمة قد أقبلت يوم القيامة على نجيب[2][2] من نور عن يمينها سبعون ألف ملك، وعن يسارها سبعون ألف ملك، وخلفها سبعون ألف ملك تقود مؤمنات أمتي إلى الجنة”، وفي رواية أخرى يقول له: “يا علي أنت قسيم الجنة والنار”. لقد أهدى النبي (ص) لأمير المؤمنين علي (ع) مفاتيح الجنة والنار التي أهداه إياها جبرائيل، وقال له: “يا علي أنت قسيم الجنة والنار”.   

 ويدل الحديث على أنّ كل هذا العدد من الملائكة عن يمين الزهراء وشمالها ومن خلفها، إلا أنّه لا أحد أمامها، ولعل السبب أنّ رسول الله محمد (ص) هو نفسه سيكون أمامها. ويُفهم من الرواية أنّ المؤمنين هم عائلة واحدة، فالأب الولي لهذه العائلة هو أمير المؤمنين علي، والأم الولي لهذه العائلة هي سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء (ع).

تخيلوا أنّكم في جنة وليّكم وأبوكم وأمكم فيها علي وفاطمة، لذا ينبغي علينا أن نتسابق لنكون بطاعة وأسوة وتأسي وإخلاص وولاء متبعين هذا النهج الفاطمي، الذي ندعو أن يحيينا عليه وأن يميتنا عليه.

[1][3] سورة النساء، الآية 65.

[2][4] النجيب من نور؛ هو الإبل أو الناقة ذات الحسب، ولكن من نور.

Endnotes:
  1. [1]: #_ftn1
  2. [2]: #_ftn2
  3. [1]: #_ftnref1
  4. [2]: #_ftnref2

اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

Source URL: https://maarefhekmiya.org/11949/nahj/