by الدكتور عفيف عثمان | فبراير 19, 2021 8:25 ص
استهلال
إسلام فرنسا” وليس “الإسلام في فرنسا”
الكتاب: الجمهورية، الأديان، الرجاء.
الكاتب: نيقولا ساركوزي.
الناشر: منشورات سيرف، 2004.
قد تكون عبارة توكفيل الافتتاحية في الكتاب حول ضرورة الدين في الجمهورية مدخلًا لفهم نوع العلاقة المنشودة بينهما، إذ يستغني الاستبداد عن الإيمان في حين أن الحرية بحاجة إليه.
الكتاب عبارة عن مقابلة طويلة مع نيقولا ساركوزي، السياسي الفرنسي الذي تولى مناصب وزارية عدة منها وزارة الداخلية (2002 ـ 2004) التي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بوزارة الشؤون الدينية، كما تولى وزارة المالية قبل أن ينصرف لقيادة حزب شيراك. وقد شاء ساركوزي وهو يتحضّر لمعركة رئاسة الجمهورية الفرنسية، (وقد حاز النصر في هذه المعركة وأصبح رئيسًا)، أن يعبّر عن اقتناعاته الشخصية في شأن مسائل خطيرة مثل الدين، وبالتحديد الدين الإسلامي وعلاقته بالعلمانية الفرنسية. فيجعل للدين موقعًا مركزيًّا في “داخل الجمهورية” التي تضمن علمانية مشتركة تسمح للأديان كافة بالعيش والتعبير وفقًا لقواعدها.
يؤمن ساركوزي بعلمانية إيجابية لا تعادي الأديان، بل تؤمّن لها إمكان الوجود وعيش إيمانها، والفصل بين الكنيسة والدولة شرط ضروري وحاسم من أجل السلام الديني. مهمة الجمهورية ضمان احترام الحريات الأساسية، وصون الحرية هو أساس القيم الجمهورية.
يعتقد ساركوزي بدور إيجابي للدين يؤديه في مجتمع الحرية، فإذا كانت الجمهورية تنظّم الحياة في بعدها الزمني، فإن الأديان تحاول أن تضفي عليها المعنى. يقرّ ساركوزي بأهمية “الفعل الروحي”، و”الفعل الديني” في حياة مجتمع اليوم، ويقيم حوارًا حرًّا مع المسؤولين الدينيين حول المجتمع الفرنسي في تناقضاته وإلزاماته. ويرى أن الأمل (الرجاء) أهم ما في الوجود الإنساني، والأمل في حياة أخرى عامل تهدئة وعزاء. يدعو الدين إلى احترام الحياة، ويدين العنف، وينبذ كل أشكال الاستغلال، ولا يشكّل تهديدًا أو خطرًا على المجتمع. وما التطرّف الديني إلا انحراف عن الإيمان، ولا يمكن بالتالي إدانة أولئك الذين يأملون باسم أقلية مدفوعة إلى الجنون باليأس والتلاعب، ما يفرض محاربة كل أشكال التطرّف الديني من دون ضعف وعقد. والاعتراف بالفعل الديني يذهب في اتجاهين: الأحسن هو السماح للأديان بالازدهار والتنظيم، والأسوأ ـ في مقابل الاعتراف ـ عدم التسامح مع المواقف التي تخرق قواعد الجمهورية متسترة بالغطاء الديني. إذ الجمهورية تضمن لكل واحد حق عيش دينه، ولكنها مصمّمة على الدفاع عن الجسم الاجتماعي وعن كل فرد ضد أشكال التطرّف، وعلى المظاهر الدينية أن لا تعكّر صفو “النظام العام”.
يشرح ساركوزي مساهمته أثناء وجوده على رأس وزارة الداخلية في إنشاء هيئة تمثيلية لمسلمي فرنسا حملت اسم “المجلس الفرنسي لشؤون العبادة الإسلامية” (MCFC) على خلفية انقسام بين إسلامين: إسلام رسمي يرعاه جامع باريس الكبير، وإسلام غير رسمي يمثله “تجمع المنظمات الإسلامية في فرنسا” FIOV 1983)). وعلى الأرض كانت تزدهر المساجد في الأقبية والشقق، ويترافق معها نشاط متطرّف. أي في نهاية المطاف كان هناك خمسة ملايين مسلم يعيشون في فرنسا بحاجة للاعتراف بحقّهم الأولي في ممارسة دينهم، وهذا الحق يجب أن تضمنه الجمهورية.
إذًا، كانت مسألة إدماج مسلمي فرنسا وتمثيلهم على غاية من الأهمية عند ساركوزي، فإنكار الإسلام في فرنسا هو إنكار لجزء من الهوية الثقافية لمواطنين فرنسيين. والشك في إمكان المواءمة بين الإسلام والجمهورية يقع في باب العنصرية، إذ يفترض أن الإيمان والممارسة الدينية عند المسلمين أفعال ذات خطورة على الجمهورية.
وحول سؤال تدخّل الدولة في الشؤون الدينية، وبالتحديد في تنظيم شؤون المسلمين، يجيب ساركوزي أن الدولة يجب ألا تتدخل في “العقيدة”، ولكن عليها عدم تجاهل الشؤون الدينية، فهي تُواجه كل يوم مسألة أمكنة العبادة، والأوامر والنواهي في مجال الطعام وطقوس الدفن، وكل يوم تجابه نتائج عدم قدرتها السابقة على استقبال مسلمي فرنسا ضمن المساواة في الحقوق والواجبات والكرامة مع بقية المواطنين. كما أن الدولة ـ كما يقول ساركوزي ـ لا يمكنها أن تبدي عدم اهتمامها بنماء إسلام سري، يسعى إلى خلخلة مبادئ الحكومة والقيم الأساسية. ومساعدة الإسلام على تنظيم نفسه حين حاجته إلى ذلك لا يضر في شيء الأديان الأخرى، ويخدم مصالح الجمهورية، ولا يخدش مبدأ العلمانية.
أراد ساركوزي من “المجلس الفرنسي” الاهتمام بالشؤون العبادية، وأن يمثل الإسلام في فرنسا بمختلف مكوّناته. وتتجدّد التمثيلية هذه كل ثلاث سنوات بواسطة الانتخاب، ما يتوافق مع اشتغال الديموقراطية الفرنسية الحديثة. كما ينظم المجلس أمور المسلمين: الزكاة، وإدارة المدافن، وموعد العيد الكبير، وذبح اللحم الحلال، وإعداد الأئمة والبرنامج الديني صباح الأحد على القناة الثانية، وإدارة النزاعات اليومية.
يظنّ ساركوزي أنه من خلال إنشاء “المجلس الفرنسي” ومعهد إعداد الأئمة، وإدماج مسلمي فرنسا تمامًا في الجمهورية، وبالبرهنة على إمكان مصالحة قيم الديموقراطية الفرنسية مع الإيمان والممارسة الدينية الإسلامية، وبإعطاء مسلمي فرنسا بُنية تسمح لهم بالكلام بصوت واحد، فإن فرنسا يمكن لها أن تكون مثالًا لمجمل العالم الإسلامي، تحمل الحداثة إلى الإسلام، وتقدّم مقاربة أكثر علمية للنص القرآني.
وفي شأن الخلاف بين مكوّنات المجلس، فإن ساركوزي يرى أنه يوجد في فرنسا أنصار لإسلام متجذّر في الثقافة الفرنسية، ومتكيّف مع آدابها، ومحترم لقواعدها يقف في مواجهة من يعتقدون أن حديث الرسول الكريم لا يمكن تفسيره ولا مواءمته مع عصرنا. لذا، فإنه يقول بوجوب دعم التيار الأول وعدم منع التيار الثاني أن يكون ممثلًا في المجلس.
يفترض التعامل مع مسلمي فرنسا معرفة جيدة بهم وبوسطهم الاجتماعي، فيرى ساركوزي أنها جماعة “فتية” أكثر من المجموعات الأخرى، غير أن نخبها أقل تعلّمًا وانغراسًا في المجتمع الفرنسي، والسبب في ذلك أصولها العمالية المتواضعة التي قدمت إلى فرنسا بداية الستينات. ومرور جيلين أو ثلاثة يبدو غير كاف لبروز خرّيجين ومحامين وأطباء وأساتذة وعلماء. وأولاد هؤلاء المهاجرين يعيشون في جهتي المتوسط معًا: ليسوا جزائريين تمامًا (أو مغربيين)، وليسوا فرنسيين تمامًا. يتكلمون اللغة الفرنسية أفضل من آبائهم، ويتغذون من الثقافة الفرنسية، ولكنهم يرون في أعين الآخرين أنهم غير مقبولين. لذا، يعتبر ساركوزي من واجبه العمل على تحقيق اعتراف بالإسلام في فرنسا في أفضل شروط ممكنة من أجل السماح لكل مسلم عيش وممارسة إيمانه كما سائر الفرنسيين. وفي مقابل ذلك، يدعوهم إلى احترام القواعد الجمهورية التي هي قواعد مشتركة. وما يأخذه على “التمامية” رغبتها في عيش دينها بفرضه على الآخرين، ويجد ترجمته في عدم احترام هوية الآخر، فالتمامي يسعى إلى فرض قراءة للعالم والإنسان، وللعلاقة بين السياسة والتصرّف، الموقف الذي لا محلّ له في الجمهورية الفرنسية. فلا تسامح مع ما يتعارض معها والحرص على استفادة الكل من قيمها.
يدعو ساركوزي في المقام الأخير إلى إنشاء “إسلام فرنسا” ـ كما يقول ـ وليس “الإسلام في فرنسا”، ويريده غير تقليدي، ومنفتح، ومشبع بقيم الجمهورية. والرهان بالنسبة لهذا الإسلام التوافق مع قواعد هذه الأخيرة من دون إضعاف رسالته الروحية. وعلى الرغم من ذلك، فهو لا يرى ضرورة لوضع الحجاب في المدرسة، أو في المؤسسات الرسمية. لأن دلالته في فرنسا الديموقراطية مختلف عنه في البلدان العربية والإسلامية، إذ يعكس “رد فعل هوياتي”، ورد فعل على نظرة الآخرين العدائية لهم. ويعيد التذكير بحدود “المنع” المقتصر على المدرسة الرسمية ولا علاقة له بالمجتمع الفرنسي ككل ولا بالجامعة.
وفي شأن كونه تعبيرًا عن الحرية الفردية، فإن ساركوزي يرى أن التعبير يجب أن يتم في إطار التشريع الفرنسي والتقاليد والقيم التأسيسية ومنها العلمانية. ولا يجب التساهل ـ في رأيه ـ مع أي مبدأ رئيسي، خصوصًا المساواة بين الجنسين والاختلاط. وفي الدائرة العامة يجب احترام قواعد الجمهورية، وفي الدائرة الخاصة التصرف وفقًا للتطلعات الفردية.
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
Source URL: https://maarefhekmiya.org/12098/motala3a1/
Copyright ©2024 معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية unless otherwise noted.