المبعث النبوي بداية للحياة الطيبة
إنّه نداء السماء إلى من دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أودنى، ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾[1]. إنها رحمة الشمولية العامة لكل الوجود، وعليه أن يصدع بما يؤمر، والحرص على نشر هذه الرسالة العالمية التي تهدف إلى صناعة الإنسان، بل إلى صناعة الوجود وإيصاله إلى كماله المنشود.
ومن هذه الرحمة الإلهية انبثقت كل الديانات، وأصبحت منهجًا لكل الأنبياء إلا أنها في الدين الإسلامي تجلّت بأكمل صورها وأبهاها وأجلّها.
وقد تعرّض يوم مبعث رسول الإسلام (ص) للاختلاف من حيث التعيين والتحديد، فهو مثل یوم ولادته ويوم وفاته (ص) غير مقطوع به، من وجهة نظر المؤرخين وكُتّاب السيرة النبوية.
فلقد اتفق علماء الشيعة على القول بأن رسول الله (ص) بُعث بالرسالة في السابع والعشرين من شهر رجب، وأن نزول الوحي عليه قد بدأ من ذلك اليوم نفسه. بينما اشتهر عند علماء السنة أن رسول الإسلام قد أوتي هذا المقام العظيم في شهر رمضان المبارك.
ففي ذلك الشهر الفضيل كُلِّف النبيّ محمد (ص) من جانب الله تعالى بهداية الناس، وبُعث بالرسالة.
وأشار السيد حعفر مرتضى إلى ذلك بقوله: إن بعثة النبي (ص) كانت في السابع والعشرين من شهر رجب، وهذا هو المشهور، بل ادعى المجلسي الإجماع عليه عند الشيعة، وروي عن غيرهم أيضًا [2].
فيوم المبعث هو اليوم الذي بُعث النبي المصطفى محمد (ص) بالنبوة، وهو يوم السابع والعشرين من شهر رجب قبل الهجرة النبوية المباركة بثلاثة عشر عامًا، وبعد عام الفيل بأربعين عامًا، وبعد الميلاد بـ 610 سنة، وهو يوم عظيم ويعد من الأعياد الإسلامية المهمة.
عظمة البعثة النبوية.
إن أهمية المبعث النبويّ عظيمة جدًّا، وهو واقعة عالمية، إنّه عهد وميثاق أخذه الله تعالى على كل الأنبياء ﴿واِذ أخَذ اللهُ ميثـاقَ النَّبِيّينَ لما آتَيتُكُم مِن كِتبٍ وَحِكمَةٍ ثُمَّ جاءَكُم رَسولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُـم لَتُؤمِنُنَّ بِه وَلَتَنـصُرُنَّه﴾[3]، وخصائص هذه البعثة كانت موجودة في الكتب السماوية السابقة فضلًا عن الخصائص لهذا النبي العظيم: ﴿اَلَّذي يجِدونَه مَكتوبًا عِندَهُم فِي التَّوريٰةِ وَالاِنجيل﴾[4].
وقد عرف الرسول (ص) بالصادق الأمين بين قومه، وكان يختلي بغار حراء يعبد الله تعالى، ويتفكّر في كل الوجود، وحينما بلغ الأربعين من عمره الشريف، آتاه نداء السماء، في غار حراء، وتفيد الروايات أنّ أوّل آيات القرآن الكريم التي قرأها جبرائيل على نبيّنا (ص) هي: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الّذِي عَلّمَ بِالْقَلَمِ * عَلّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾[5].
وبعد تلقِّيه ذلك البيان الإلهي، وتحميله هذه الأمانة الإلهية العظيمة، عاد إلى منزله وتدثرّ في فراشه، متأمّلًا فيما أوحيّ إليه، جاءه الوحي ثانية، وأمره بالقيام وترك الفراش، والبدء بالدعوة والإنذار، ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾[6].
وقد أشار الإمام علي (ع) في نهج البلاغة إلى ذلك: “اِلى اَن بَعَثَ اللَهُ مُحَمَّدًا رَسُولَ اللَهِ صلّى الله عليه وآله لِاِنجازِ عِدَتِه وَتَمامِ نُبُوَّتِه مَأخُوذًا على النَّبيينَ مِيثاقُه”[7]؛ أي إنّ الله تعالى أخذ من الأنبياء عهدًا وميثاقًا، وأوصاهم بأن يتعاملوا معه على هذا الأساس.
ويصف الإمام أمير المؤمنين (ع) الحالة العامة للأمّة التي بُعث النبيّ (ص) إليها: “أرسله على حين فترة من الرُسُل، وطول هجعة من الأمم واعتزام من الفتن، وانتشار من الأمور، وتلظٍّ من الحروب، والدنيا كاسفة النور، ظاهرة الغرور، على حين اصفرارٍ من ورقها، وأياسٍ من ثمرها…”[8].
في مثل هذه الظروف والتحديات الصعبة، وفي وسط الظلمات انبثق نور المبعث النبويّ الشريف، هذه البعثة الهادفة إلى إخراج الناس من الظلمات إلى النور ومن الجهل إلى الهداية.
البعثة النبوية والدعوة إلى الحياة الطيبة.
لقد أشار سماحة السيد القائد (حفظه الله) إلى العلاقة المتلازمة بين دور الوحي والبعثة النبوية الشريفة في العديد من خطاباته منها:
إنّ دور الوحي والرسالة هو توضيح حقائق للبشريّة، وهذه الحقائق إذا ما آمنت بها المجتمعات البشريّة المتنوّعة وعملت على أساسها، ستحلّ عليها الحياة الطيّبة. ما معنى الحياة الطيّبة؟ إنّها الحياة الجميلة والمفيدة والمنشودة، الحياة الطاهرة، تتمثّل طهارتها بكونها مرغوبة وجميلة؛ لأنّها تساعد الإنسان في السير على صراط الكمال ونيل كلّ جمال وخير، سواء في الدنيا أو في الآخرة. إذا تعرَّفت القلوب بهذه المعارف والحقائق، وتعلّقت بها والتزمت بمتطلّباتها، فإنّ الحياة الطيّبة ستكون في انتظارها حتمًا .[9]
لقد أشار القرآن الكريم إلى الحياة الطيبة التي دعا إليها الرسول (ص)، ووعد الذين آمنوا واتبعوا المنهج المحمدي الأصيل، وعملوا الصالحات بهذه الحياة النموذجية فقال تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [10].
ولذلك عمل الرسول (ص) على نشر هذه الدعوة الإسلامية في كافة المستويات، وضمن منظومة قيمية عالية تضمن للإنسان سعادة الدارين.
ونظرًا لأهمية هذا اليوم، فقد خُصّ بعدة أعمال منها الصوم والإكثار من الصلاة على محمد وآل محمد، وزيارة الرسول الأكرم، وغيرها من الأعمال[11].
[1] سورة الأنبياء، الآية 107.
[2] جعفر مرتضى العاملي، الصحيح من سيرة الرسول (ص)، الجزء 2، الصفحة 244.
[3] سورة الأعراف، الآية 157.
[4] سورة الصف، الآية 6.
[5] سورة العلق، الآيات 1- 5.
[6] وسرة المدثر، الآيات 1- 4.
[7] نهج البلاغة، الخطبة رقم 1.
[8] نهج البلاغة، الخطبة 89.
[9] (*) كلمة الإمام الخامنئيّ (دام ظله) بمناسبة يوم المبعث النبويّ الشريف وحلول عام 1399 الهجريّ الشمسيّ بتاريخ 2020/03/22م
[10] سورة النحل، الآية 97.
[11] يراجع، الحر العاملي، وسائل الشيعة، الجزء 10، الصفحة 456.
المقالات المرتبطة
فاطمة الزهراء تجلٍّ للرحمة الإلهية المحمدية
الزهراء (ع) في حياة النبي محمد هي خير كثير. وفي حياة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)، وفي حياة أبنائها وبيئتها ومجتمعها هي خير كثير. ونحن نعتقد أنّ ما من خير نعيشه إلا في كنف السيدة الزهراء (ع).
في نقد الإلحاد السائد عربيًا
مع تفسخ وانحطاط معظم تجارب تيارات الإسلام السياسي في العالم العربي، ظهرت موجة من الإلحاد بدأت تسيطر على العقول كرد فعل على هذا الانحطاط
فلسفة جديدة للحوار الدينيّ
يقوم الحوار الإسلامي–المسيحي، كما يمارس حتّى اليوم، على خطأ مزدوج: في مقاربته وفي هدفه.