رواية “سمرقند” لأمين معلوف (الرواية، التاريخ، الالتباس)
القراءة
أبدأ من القراءة وأعتبرها شديدة الأهمية والخطورة، قد تحطّم القراءة المقروء أو تفسده، وقد تفتق أكمامه وتزيد من خصوميّته وقابليّته على التعدّد والاستمرار. كما أنّه لا بدّ من التحذير من تغلّب بعض تقنيات في قراءات محدودة، ما يخرّب جماليّة النصّ المكوّنة من احتمالات كثيرة. “فالخطر آتٍ من القراءة ” كما يقول تودورف (Tzvetam todorov la literature en teril) في كتابه “الأدب في خطر”.
لا نستطيع أن نقرأ رواية “سمرقند” لأمين معلوف 1988 (attes) (Samarcande- Amin maalouf – Ciedition) ترجمة الدكتور عفيف دمشقية، دار الفارابي، الطبعة الأولى 1991 من دون أن تتوافد إلى ذهننا عناصر معرفيّة كثيرة على قسط كبير من الالتباس والتداخل. بعضها يتعلق بالرواية (كفنّ). جوهرها (هنا)، واقعها ومخيلتها. فهي رواية غارقة في بحر من حوادث تاريخيّة قديمة وقريبة، وتفاصيل وتفريعات كثيرة، وبعضها يتعلق بالتاريخ نفسه (كعلم ومصطلح): التاريخ الوسيط من مطلع الألفية الثانية وما بعده، والاستشراق الجديد (من القرن الثامن عشر حتى نهاية الألفية الثانية)… والبعض يتعلّق بالشعر والدين والدعوات الباطنيّة والفلسفة…
والالتباس هنا يُحمل على معنيين: الأول غموض الكثير من الشخصيات التاريخيّة الأساسيّة في الرواية (عمر الخيّام، نظام الملك، الحسن الصبّاح، جمال الدين الأفغاني…إلخ)، وغموض بعض الدعوات الدينيّة (الإسماعيليّة، الحشاشين (الفدائيين – الأساسيين les assassins).. وغموض بعض الأماكن مثل قلعة “الموت”، “أمثولة النسر”، والنهر الذي يشقّها (الشاه رود) الملقّب بالنهر المجنون، سمرقند نفسها، ونيسابور التي شهدت ولادة الخيّام وحضنت قبره… أقصد غموض الشرق.
هناك أيضًا حوادث قديمة مغموسة بالطقوس، حتى تكاد هذه الحوادث تنتسب للأسطورة أكثر من انتسابها للتاريخ…
والسبب الثاني لموقع الالتباس كون العصب أو الشريط الجامع لجميع هذه التواريخ والحوادث والأشخاص هو عصب حائر بين التقصّي والاستكشاف من ناحية، والشعر والرواية والحكمة من ناحية ثانية. هناك سرد تاريخي أو على صورة القصّ التاريخي لحوادث ووقائع تتكوّن من خلالها الدول ثم تندثر وينهض الأفراد ثم يموتون… ورباعيات عمر الخيّام ترافق فصول الرواية الأربعة كجرس وجودي يدق دقاته الحزينة عن تحولات الدول والأفراد.
نعم، بمثل هذه الالتباسات مجتمعة، تتقدّم رواية “سمرقند” لأمين معلوف، وهي بمثابة قراءة لهذه الرباعيات، وعملي على “سمرقند” قراءة للقراءة.
اتجاهات البحث
يبرز اتجاهان أساسيان من بين اتجاهات كثيرة قد تساعد على هذه المحاولة. الأول اتجاه أفقي سردي تاريخي تفرضه طبيعة الرواية (رواية تاريخيّة)، والثاني ارتوازي عمودي يتعلّق بالتأويل لنسمّه “حكمة الرواية”. وهو ما تفرضه عقدة رباعيات الشاعر والفلكي والحكيم الفارسي عمر الخيّام، وعليها ينعقد خطّ الرواية. ويبدو أن الاتجاهين متداخلان لا يمشي أحدهما عكس الآخر أو يعطّله… حتى لو ظهرت مقاطع كثيرة وصفية كأنها مأخوذة للتوّ من مظانّها من أصول التاريخ، أو أخضعها الكاتب لتحقيق علمي شبيه بتحقيق بعض المخطوطات القديمة… أو ظهرت صفحات وكأنها تقارير من مراسلي الصحافة المعاصرة. فالتاريخ كله، الصحيح منه المحقّق والمبتكر المتخيّل هو خدعة الراوي هنا أو حيلته وأداته لقول الرواية. يسمّى أمين معلوف هذه المسألة “التكييف”. وقد انتابني إحساس عارم في ختام الصفحة الأخيرة من الرواية بأنني قرأت رباعية طويلة من رباعيات عمر الخيّام، رباعية لم يكتبها الخيّام نفسه بالفارسية، بل كتبها بالفرنسية روائي لبناني معاصر اسمه أمين معلوف. لأنه، بسطر واحد في مطلع الرواية، وبجمل قليلة في صفحتها الأخيرة، يقدّم الروائي لنا زهرة روايته المزدحمة بالتواريخ والحوادث والأسماء. الزهرة المرّة للمغامرة: “في أعماق المحيط الأطلسي كتاب، وقصته هي التي سأرويها” (الصفحة 7). يغرق مخطوط الرباعيات (فخطوة سمرقند) في قاع المحيط مع التيتانيك في الليلة الرابعة عشرة من شهر نيسان (أبريل) 1912، وتختفي “شيرين” فجأة على رصيف نيويورك. يسأل (بنجامين .ع. لوساج) السارد الأساسي في الرواية، نفسه حول مصير حبيبته الغامض: “هل وجدت يا ترى؟ هل كانت شيئًا غير ثمرة كوابيس الشرقيّة؟” (الصفحة الأخيرة 336).
يقول الخيّام في واحدة من رباعياته:
تسأل من أين لنا نفحة الحياة، فإن كان ينبغي اختصار قصة طويلة.
قلت: إنها تنبثق من أعماق المحيط، ثم يبتلعها المحيط بغتة من جديدٍ (الصفحة 330، سمرقند). هذه الرباعية، كيفما أدرتها في الترجمات، فإنّ معناها واحد لعلّ رواية: “سمرقند”… في المقال الأخير، في التأويل، في الـتكييف، هي هذه الرباعيّة، وهو الزوال السريع والفارّ للحياة بين لحظتين: الولادة والموت. الحياة بجميع مظاهرها: الكلية والفردية. وسرعة التحوّل نحو الخراب طالما تفكّر فيها عمر الخيّام في رباعياته. وأدار المعنى من خلال أكثر من تشبيه ومثال سرعة ذبول الأزهار مثلًا أو سرعة تحوّلها إلى هباء، تحوّل قصر جمشيد إلى مسرح لأبن آوى، وبهرام صائد الوحوش يصطاده القبر،… إلخ. وسأل نفسه: لماذا الخراب السريع؟ لماذا تولد الأشياء وتذهب وكأنها لم تكن؟ العلم (الفلك) لم يكشف له جوابًا (وهو فلكي)، والحكمة أيضًا (الفلسفة) وكان يتعاطاها. والكيمياء أيضًا (وهو كيميائي).
الفكرة المخيفة في قاع الرباعيات أو الراية السوداء التي ترفرف على جميع موائد الخمرة والحب في أشعار الخيّام هي الموت، غموض ما قبل الولادة وغموض ما بعد الموت وأنّه قهر مطلق الإنسان. والإشارات كثيرة، إلى اعتقاده بأننا نأتي من عدم ونمضي إلى عدم، فـ “واغتنموا الفرصة بين العدمين”، كما يقال. ما ينتهي به إلى اعتبار التاريخ نفسه حصيلة عناكب. ولعلّ هذا المعنى في سرعة الهلاك ملحوظ قرآنيًّا في مواقع عدة، كما أنه ليس بعيدًا عن نظرات فكريّة قديمة ومعاصرة وعوالم روائية حديثة أيضًا. يقول نجيب محفوظ: “الزمان عدو لدود للورود”، ويقول بلسان بطل روايته “خان الخليلي”: “الحياة مأساة والدنيا مسرح مملّ، ومن عجب أن الرواية مفجعة ولكن الممثلين مهرجون، ومن عجب أن المغزى محزن في ذاته ولكن لأنه أريد به الجدّ فأحدث الهزل، ولما كنّا لا نستطيع في الغالب أن نضحك من إخفاق آمالنا فإننا نبكي عليها فتخدعنا الدموع عن الحقيقة ونتوهّم أنّ الرواية مأساة، والحقيقة أنها مهزلة كبرى… (وصمت أحمد عاكف بطل الرواية قليلًا متفكّرًا متهجم الوجه منقبض الصدر ثم نهض قائمًا في وثبة عنيفة)، وقال بشيء من الحدة: إلى الكهف المظلم، كهف الوحدة والوحشة إلى القبر البارد.
في أكثر من آية من الذكر الحكيم سرعان ما يصوّر القرآن القرى والأماكن الآهلة بأنها ﴿خاوية على عروشها﴾ (البقرة، آية 259). ﴿واضرب لهم مثلًا الحياة الدنيا كماءٍ أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيمًا تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرًا﴾ (الكهف 48). يلاحظ في الآية الكريمة سرعة الانتقال إلى الهلاك. خلاصة نظرة الخيّام لناحية التحوّل هي أنّ الوجود يقتات بنفسه. يأكل بعضه البعض بلا فارق بين عنصر نفيس فيه وعنصر مرذول. وهو من خلف الظواهر يرى عمق هذا التحول (changement) فيحذّر مثلًا من أن تكسر قدحًا أو إناءً للخمر فإنك تكون قد كسرت عينًا حوراء لإمرأة أوفًا لملك، هذا ما كان سبقه إليه قبل خمسين عامًا فيلسوف المصرة صاحب غير مجدٍ حين نصح، ساخرًا، الناس بالسير في الهواء، بهدوء، لا بالاختيال على رفات العباد، وبتخفيف الوطء على أديم الأرض المصنوع من أجساد البشر.. هؤلاء البشر بالذات، قائلًا بيته المخيف التالي فيهم: “رب قبرٍ قد صار قبرًا مرارًا ضاحكٍ من تزاحم الأضداد”
وبسبب العجز عن فهم أي سرّ من أسرار ما وراء الطبيعة، الموت، القدر، المصدر، المصير… فإن الخيّام انتهى إلى عدمية ديونيزيسيّة تسعى إلى تعطل العقل بالخمرة، وإلى إملاء النفس القابلة للفناء كل لحظة باللّذة. حتى ليظهر أحيانًا وكأنه مصنوع من ألم العقل وعبادة اللذّة. شقاء عمر الخيّام مثل المعرّي وشوبنهاور أساسه ميتافيزيقي ونتائجه كأبي نواس وديونيزسيوس حسيّة لذّيذ. إلاهه من ثلاثة أقانيم: الخمرة، المرأة، السماع، وهذا المعبود وإن كان يظهر بمظاهر متعيّة حسيّة، إلّا أنه ناتج قهر ميتافيزيقي. يقول في إحدى رباعيّاته: “ستموت إن تشرب وإن لم تشرب”، هذا ما لم يظهر جليًّا في رواية أمين معلوف أو على الأقلّ ما لم يكن في الأساس المعرفي لروايته حيث ظهر الجانب التاريخي غالبًا فيها على الميتاتاريخ.
الكتابة على تخوم التقاطعات
يكتب أمين معلوف رواية “سمرقند” على تخوم التقاطعات التاريخيّة. ولكنه أيضًا يكتبها على تخوم التقاطعات الشعرية. ما يحصل للرواية سطحًا سرديًّا إخباريًّا من ناحية، وقاعًا إحساسيًّا وفكريًّا من ناحية أخرى، فصراع الهويات والأعراق والمذاهب يمتد على فصول الرواية الأربعة. حوادث حوالي ألف عام من تاريخ شرقي متداخل ومن علاقات غرب / شرق تتحرك على امتداد 336 صفحة (من العام 1072 تاريخ ولادة الرباعيّات الأولى للخيّام وعمره 24 سنة، حتى غرق “مخطوط سمرقند” مع الباخرة تيتانيك العام 1912 في عرض مياه الأرض الجديدة). لكنّ استشراق الرواية لا يغلب عليه المنحى الافتراسي لاكتشاف الغرب للشرق حيث كل شيء كان موضوعًا في خدمة الإمبريالية الناهضة المفترسة. لقد اكتشفت أوروبا ومن ثم أميركا فارس والهند وما وراء النهر وجزيرة العرب… لا لكي تساعدها على التعّرف على ذاتها وتنهض من ركود جهل الذات إلى ضوء المعرفة بها، بل كانت كمن يرى الحمل ليأكله، وقد اعتبر أدوارد سعيد أنّ أصل الرواية الحديثة في الغرب جاء تلبية لحاجة إمبرياليّة… كالاستشراق جميعه كما رأى إليه في كتابه الشهير: المعرفة، السلطة، الإنشاء.
استشراق أمين معلوف، وإن كان يرسم ملامح استغلال أوروبي لإيران (الشرق) في نهايات الألفيّة الثانيّة من خلال بلجيكا وروسيا القيصريّة وإنكلترا… وعلاقتهما بالشاه وثورة 1906… إلّا أنّه يميل إلى هويّة جديدة (مزجيّة) بين عنصرين كانا متنافرين في الاستشراق التقليدي، وباتا في الرواية الراهنة متآلفين بل متعاشقين. ففي مجريات الكتاب الثالث من الرواية وهو بعنوان: (نهاية الأعوام الألف)، والكتاب الرابع (شاعر تائه)، وهما الفصلان اللذان يتحدث فيهما بنجامين.ع. لوساج عن نفسه ومغامرته، أنّ هذا السارد الرئيسي مكوّن من نماذج هويتين هما هويته الأميركية وهويته الشرقيّة الفارسيّة، ظهر ذلك من خلال حبه لشيرين (حفيدة الشاه)، ومن خلال شغفه بالكشف عن كنز فارسي شعري هو رباعيات عمر الخيّام الأصلية (مخطوط سمرقند)، والأهم (بحسب الرواية)، من خلال انخراطه في صراع سياسي في داخل إيران (في تبريز ومن ثمَّ طهران)، وانضمامه (هو المواطن الأميركي المولود في أنابوليس في الميريلند) إلى حركة “أبناء آدم” السياسيّة الإيرانيّة التي تشكلّت ضدّ الشاه للمطالبة بالدستور في العام 1906، إن اسمه بالذات ينطوي على هويته الجديدة، فهو بنجامين .ع. لوساج. إن “ع” في وسط الاسم هي الحرف الأول من اسم عمر، وهو من أم فرنسية وأب أميركي (تداخل في الأصول). أضف أنّ أصل اقتران أمّه بأبيه جاء من خلال حاضنة خيّامية (فارسيّة). يقول: كانت في الثامنة عشرة وكان أبي يكبرها بعشر سنوات…كانت (أثناء لقائهما الأوّل) تضمّ كتابًا إلى ثوبها. فسألتها: ماذا كانت تقرأ؟ في هذه اللحظة بالذات دخل الخيّام حياتي بل ينبغي أن أقول: إنه أنجبني. فلقد كانت أمـي قد حصلت على رباعيات الخيّام وقد ترجمها عن الفارسيّة .ح.ب. نيقولا الترجمان الأوّل السابق في السفارة الفرنسية بفارس، وطبعت عام 1867 في المطبعة الإمبراطوريّة، وكان في متاع أبي “رباعيات الخيّام) بالإنجليزيّة، لأدوارد فيتز جرالد طبعة 1898” (الصفحتان 181 – 182).
لعلّ أمين معلوف هنا، ينسجم في هذا التلفيق الروائي لأسماء وحوادث تاريخيّة أو تظهر بمظهر تاريخي، وترتيب أعراق وزواجات مختلفة، مع فكرته حول الهويات من خلال كتابه “الهويات القاتلة”، فالهويات القاتلة هي تلك الصافية عرقيًا أو دينيًا، وهي تنهش بعضها البعض، وهذا وجه من وجوه الاستشراق المفترس. بالطبع. نموذج الهوية النقيض هو بنجامين .ع.لوساج. وهو نموذج روائي يمتّ بصلة للشعر أكثر من الواقع. وقد جاء وليد مخيّلة كاتب مبدع. إنّه نموذج الهويّة – الحلم على كل حال. ونكاد لا نتعرّف عليه على خريطة صراع معولمة يشرشر منها الدم.
ملاحظة أخرى تتصل بالسياق التاريخي للرواية. هو سياق كثير ومتفرّع ودقيق لحدود التحقيق. وفي الإمكان تتبّع ذلك في مضانّه وأصوله سواء في التواريخ العامة أو كتب الأمهات وسواها كابن الأثير في الكامل في التاريخ مثلًا 628 هـ، والإمام الجويني في تأريخه للفتح المغولي. كما يمكن تتبع السيرة التاريخيّة للسلاجقة وللإسماعيليين الحشاشين وقلعة “الموت”، وسيرة عمر الخيّام نفسه الغامضة والمتناثرة في نزهة الأرواح للشهرزوري (حوالي 600 هـ)، والقنطي في تاريخ الحكماء (640 هـ)، وزكريا القزوي في آثار البلاد وأحوال العباد ( 674هـ)، ورشيد الدين فضل الله المتوفي 718 ه في “جامعة التواريخ”، وتاريخ كزيدة لحمد الله قزوين (730هـ)، وتذكرة الشعراء لدولت شاه بن علاء ألفة 892، هـ حيث ترد حكاية التلاميذ الثلاثة الذين اجتمعوا في نيسابور وكانوا زملاء دراسة على الإمام الموفّق، وهم نظام الملك الطوسي وعمر الخيّام من نيسابور، والحسين بن علي الصبّاح من مرو، وتعاهدوا على أن من يصل إلى الحكم منهم يساعد رفيقيّه … إلخ، وهي رواية ينتقدها أكثر الباحثين في تاريخ الخيّام لفارق السن الكبير بين كل من نظام الملك وعمر الخيّام وصاحبه الحسن الصبّاح…
هذا لناحية التواريخ الوسيطة. أما لناحية الوقائع الحديثة المرويّة في الرواية لجهة علاقات الغرب بإيران والدولة العثمانية والعلاقات الأميركية الإيرانية لغاية غرق التيتانيك (في 14 أبريل نيسان 1912) فموجودة في مظانّها القريبة، كل ذلك أي التاريخ الوسيط والتاريخ الحديث قرأه الكاتب على الأرجح في طور التهيئة أو الإعداد لكتابة روايته. لكن لا يبدو من خلال المقارنة وتأصيل الأصول التاريخيّة للرواية، أن أمين معلوف يقحم أمرًا تاريخيًّا غير موثّق في روايته، بل لعلّه يلجأ أحيانًا في خصوص بعض المسائل الإشكاليّة إلى نوع من التحقيق في متن الرواية نفسها، مثلًا (صفحة 87. تحقيق حول صحة واقعة اجتماع الأصدقاء الثلاثة في نيسابور)، كذلك في صفحة 136 وصفحة 137، التحقيق حول تسمية جماعة الحسن بن علي الصبّاح، بالحشاشين (Assasins)، صوابها وأساسها وترجيح إعادتها لمفردة الأساسيين، أي تلك التسمية التي كان يطلقها صاحب قلعة “الموت” على أصحابه… وهناك تفاصيل محققة حول تنظيم الحشاشين ورتبهم وتربية الفدائيين وأساليبهم وفعل المعتقد في تنشئتهم وجذور الإرهاب في كيفيات الاغتيال… إلخ. كما أنّ الصفحات 121 و 154 و 155 تنطوي على معلومات دقيقة حول قلعة “الموت” ومعناها في اللهجة المحليّة (أمثولة النسر). ووصف النهر الذي يشقّها بين الجبال المسمّى (شاه رود) (النهر المجنون)… كيف استولى عليها الحسن الصبّاح، وكيف نظّمها وحكمها وانطلق منها في غاراته المخيفة، وكيف دمرها المغول بعد ذلك.
أنت تجد في تضاعيف الرواية أيضًا وصفًا حيًّا للمدن في أوقات تاريخيّة مختلفة… أصفهان العام 1074 (يقول الفرس: أصفهان نصفي جهان؛ أي نصف الدنيا)، حجارتها وعشبها وهوائها والنهر الذي يجري بجوارها “زندروز” (نهر الحياة) (الصفحة 79). ويدقق في التسميات (تسمية نهر حيجون الصفحة 58)، وأصل الصغر (الصفحة 43)، العدد المجهول في كتاب الجبر أو الشيء… أنواع اللغات والعملة (الصفحة 81)…إلخ.
بمثل هذه المعلومات التاريخيّة الدقيقة والمحققة يعمر معلوف متن روايته والكثير من صفحاتها.
هذا هو التاريخ في الرواية، أو هذا هو الخطّ الأفقي لها. لكنّ السؤال هنا: هل ثمة خارج هذا التاريخ المسرود حقائيًّا، وبالكثير من التسويق والحنكة، ميتا تاريخ ويجعل من التاريخ رواية؟
الرواية التاريخيّة – التاريخ والميتاتاريخ
نتفق على أنّ رواية أمين معلوف هي رواية تاريخيّة… (roman historique)، وهو لا ينكر ذلك ويعترف بأنّ التاريخ هوايته والرواية هوايته وأنه يمزج بين الاثنين… ( من حوار معه أجراه عبده وازن ونشر في جريدة الحياة، السبت 11 مارس (آذار 2006). يضيف: “ما سردته في سمرقند هو رواية. حاولت ألّا أرتكب أي خطأ من الناحية التاريخيّة). لكنه يعترف بتحويل النسخة الفعليّة التي كانت بحوزة أحد الأثرياء الأميركيين على التيتانيك، وهي من ترجمة المستشرق فيتزجيرالد للرباعيات، مرصّعة بالذهب واللآلىء وقد غرقت مع السفينة، إلى حكاية كتاب أسطوري سماه “مخطوط سمرقند” صارت النسخة رمزيّة، كما يقول والتعديل على الواقع هنا طفيف. ويرى أنه “من الأساس كانت هناك علاقة بين الخيال والأدب والتاريخ… والألياذة، شكسبير…”، وهو ما يسميّه: “تكييف التاريخ”… إلخ.
في رباعية من رباعيات الخيّام، ترد عبارة “تكييف الأبد”: “أنا مهما رمت تكييف الأبد”.
خضت من أعماق إبريق وحامٍ (رباعيات عمر الخيّام – الفلكي الشاعر الفيلسوف الفارسي/ ترجمها نظمًا محمد السباعي / مطبعة الاستقامة بالقاهرة / الطبعة 5، الصفحة 91).
والمعنى الذي يقصده الخيّام هو التالي: “إني مهما حاولت تفسير معنى البقاء والفناء حمقًا مني وجهلًا بواسطة الأعداد والموازين، أي الآلات المستعملة في تجارب الرياضيين والكيميائيين، ومهما حاولت وصف الروح وتعريفه، فلا أزال في علمي وبحثّي جاهلًا، ولم أتعمّق إلّا في أكواب الخمرة (تعقيب السباعي على الرباعية، الصفحة 91).
“تكييف التاريخ” هو الذي يصنع الرواية وإلّا وقع الروائي في المؤرخ. وهنا نسأل: هل يحتاج الروائي إلى التاريخ ليكتب رواية؟ لكنّ المسألة ليست بهذه البساطة. إن ثمة روائيًّا يستعمل التاريخ ليصنع منه. وهذه حقيقة، وإنّ ثمة مؤرخًا (بالمعنى العلمي للكلمة) ينجح أحيانًا نحو المخيّلة. وهذه حقيقة أخرى، كيف؟
إنّ التقاطعات هنا دقيقة وخطيرة، إن رحلة المؤرخ نحو الماضي هي رحلة وعرة. شبيهة برحلة بنجامين .ع. لوساج بحثًا عن “مخطوط سمرقند”. والماضي بغموضه يدفع المؤرخ أحيانًا إلى استنفار مخيلته أو حكمته العقلية لردم ثغرة في الماضي لم يستطع البحث ردمها، أو لرسم صورة لم تتمكن أدواته المتاحة له من رسمها كما هي عليه، فالتاريخ ثوب كثير الفجوات… ولعلّه ثوب مرّقع. وهكذا، بدلًا من أن يكون عمل المؤرخ استكشافًا للماضي أو كشفًا له، يتحوّل إلى مغامرة تنتهي بصاحبها إلى “تأليف الماضي” من جديد، ويتشكّل حول التاريخ الحقيقي أو الذي حدث بالفعل تواريخ أخرى عديدة متخيّلة أو مؤلفة لا تستطيع الادعاء بأنها الأصل بعينه أي الماضي كما كان حقيقة. بتعبير زعيم النظرة التاريخيّة الموضوعيّة في العصر الأخير “ليوبولد فون رانكه”، ولعلّه يصدق على مثل هؤلاء المؤرخين ما قاله ناميير (Namier) في جماعة المؤرخين الذين ظهروا في أوروبا 1920 بعدما ألف (بوري) كتابه “نكرة التقدّم”: “إنهم يتخيلون الماضي ويتذكرون المستقبل”. (جوزيف هورس /قيمة التاريخ. ترجمة نسيب وهيبة الخازن. دار مكتبة الحياة.1964 الصفحة 56).
لذا يقول بعض المؤرخين المحدثين عن يأس: “لننسى الماضي” (طريف خالدي، بحث في مفهوم التاريخ ومنهجه، دار الطليعة، الطبعة الأولى، الصفحة 8).
هذا الالتباس، هذا التكييف، قد يستثير لدى البعض روح الشعر. يرى جورج ماكولي تريفيليان في تمهيده لكتاب “إيمري نف” “المؤرخون وروح الشعر” إن روح الشعر في تدوين التاريخ ليست خيالًا يطوف في الفضاء، بل خيال يقتفي أثر الحقيقة ويلتصق بها، هذه الحقيقة التي تجمع سرّ الحياة والموت والزمن” (نف، إيمري، المؤرخون وروح الشعر، تمهيد جورج ماكولى تريفيليان، ترجمة الدكتور توفيق اسكندر، مراجعة وتقديم محمد شفيق غربال، دار الحداثة، بيروت الطبعة 2، 1984). وهي روح تستدرج المؤرخ إلى الافتراض والخيال، وتدخل العنصر الذاتي في العنصر الموضوعي فيهتم بالأمرين معًا… (كار. أدوار. ما هو التاريخ. الصفحة 19).
على أنّ ثمة مؤرخين محدثين ينتهون بهذه المسألة الجدالية إلى نهايات ذات خيال شعري طاغ. فلا يرى رومانس (romains) في كتابه (les hommes de bomme volute) (الرجال ذوو النيات الطيّبة) في المشهد النهائي للتاريخ سوى “فراغ مزدحم”، أي رباعية من رباعيات الخيّام. أو رواية نتيجتها الصفر، وهو المجهول والموت أو الفراق.
هوامش:
- يقول الخيّام في هذا المعنى رباعية:
“إن تفصل القطرة من بحرها ففي مداه منتهى أمرها
تقاربت يا رب ما بيننا مسافة البعد على قدرها
وإنما الدنيا خيال يزول وأمرنا فيها حديث يطول”
(رباعيات عمر الخيّام. ترجمة أحمد رامي، (دار المدى، الطبعة الثالثة 2013) الصفحة 198.
- “أما ترى الأزهار فيها عبثت يد الصبا
ومن جمالها غدا البلبل يشدو طربا
فبادر الزهر ودع عنك الأسى والكربا
فهذه الأزهار كم زهت وكم عادت هبا”
رباعيات الخيّام، ترجمة أحمد الصافي النجفي، الصفحة 56.
- إنّ ذاك القصر الذي ضمّ جمشيد
وفيه تناول الأقداحا
ولدت ظبية الغلا خشفها فيه
وأمسى إلى ابن آوى مراحا
يا لبهرام كيف كان يصير الوحش
من قبل عدوة ورواحا
فانظر الآن كيف قد صاده القبر
وأمسى لا يستطيع تبرحا
رباعيات الخيّام، تعريب أحمد الصافي النجفي، الصفحة 67.
- أديب التقي في مقالة شعر الخيّام وفلسفة. رباعيات عمر الخيّام، الصفحة 37.
- عن حوار أجراه معه سمير الصايغ مواقف 69.
- كان أبو العلاء المعري يعاني من ألم في العقل، شأنه شأن عمر الخيّام. وهو أشد وطأة من ألم الجسد أو النفس. يقول الخيّام في إحدى رباعياته: “لم أشرب الراح لأجل الطرب، أو ترك ديني وأطراح الأدب، رمت الحياة دون عقلٍ لحظة، فهمت بالسكر لهذا السبب”، ترجمة أحمد الصافي النجفي، الصفحة 57.
- أنظر حسابك ما أتيت به وما تغدو به من بعد مهما تذهب أتقول لا أحسد الطلا خوف الردى؟ ستموت إن تشرب وإن لم تشرب”، ترجمة النجفي، الصفحة 59.
المقالات المرتبطة
قراءة في كتاب “العدل الإلهي” للشهيد مرتضى المطَّهري
بطاقة الكتاب: 1-اسم الكتاب: العدل الإلهي. 2-اسم الكاتب: الشهيد الشيخ مرتضى المطّهري. 3-الترجمة: عرفان محمود. 4-الإعداد: مؤسّسة أمّ القرى للتحقيق
قراءة في كتاب مفاتيح الرحمة
سورة الحمد مدرسةٌ في العقيدة ومنهاجٌ في الحياة، تربط الحاضر بالمستقبل، وتصل المخلوق بالخالق، وتضع ميزانًا في الفكر والمشاعر والسّلوك.
قراءة في كتاب: تأسيس الحضارة الإسلاميّة في فكر الإمام الخامنئي (دام ظلّه)
المقدّمة يتساءل المؤمن دومًا، أين تلك الحضارة الإسلاميّة التي نهضت أيّام رسول الله، (ص)، وأين تلك الإنجازات التي ظهرت آنذاك