by الشيخ جواد رياض | فبراير 12, 2024 9:17 ص
إنه لمن الضروري أن نحاول التقريب بيننا نحن المسلمين في ظل وجود القوى المترابطة لأعدائنا، وفي ظل القوى المترابطة لغير المسلمين في العالم كله، وإنني أحاول في هذه الكلمات أن أتكلم عن كيفية التقريب بيننا.
ففي البداية، إن هذا التقريب لا بدّ وأن يقوم على البحث والدعوة إلى الأمور الآتية:
الأمر الأول: التقريب بيننا وبين مذاهبنا الإسلامية، كسنة وشيعة، ومذاهب وطرق داخل أهل السنة، حتى وإن كانت هذه المذاهب تمس جوانب سياسية، فالتقريب بيننا ضروري وحتمي، وقد سعت بعض المؤسسات الإسلامية لهذا التقريب ـ كدار التقريب بين المذاهب الإسلامية بالأزهر، وتجمع العلماء المسلمين في لبنان ـ كما سعت للوحدة بيننا، إلا أنه ما زال بيننا فرقة، وما زال بيننا بون شاسع ومسافات يسعى أعداء الإسلام إلى تطويلها، فببث الفرقة بيننا نجحوا في طريقهم.
فإلى متى سيظل بيننا ـ نحن المسلمين ـ هذا البون الشاسع؟ ومتى سنعي أن في فرقتنا الضياع للأمة، وأن وحدتنا فيها النجاة؟ ومتى سنعلم أن كلًّا منا يتميز بمزية ليست في الآخر؟ هذه المزايا تجعل الأمة تكتمل، وتجعل العدو يخشى أن يقترب، فكما كان الرسول (ص) ينصر بالرعب، فإن أمته كذلك إن توحدت، يلقي الله ﴿فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ﴾.
الأمر الثاني: العمل على صهر ما بيننا من حواجز تجعلنا نجتمع حول هدف واحد رئيسي أصلي، مع الاقتناع والتسليم بما بيننا من خلافات فرعية، فهذه الحواجز التي اصطنعها العدو، على مر العصور، لا بدّ أن تزال، وهذه الحواجز تعتبر معوقات أمام وضع منهج موحد لفهم الدين، لأن كل مذهب من المذاهب الإسلامية، السياسية أو الفقهية، سوف يتمسك بمنهجه ويدافع عن مسلماته وقضاياه، وسوف يطول الجدل بيننا فتكثر الحواجز وترتفع، والأمم من حولنا تتقدم وتتوحد.
الأمر الثالث: أن نبين للناس أن ديننا الإسلامي دين واحد، يدعو إلى إله واحد، ويستقبل أفراده قبلة واحدة، ويقر أفراده بنبي خاتم واحد، وبقرآن نزل من عند الله، يتعبدون كلهم بتلاوته ويعملون بما فيه من أوامر ونواه.
وإن هذه الأصول لا نختلف فيها، وندور كلنا في دائرة الإسلام، وأما ما بيننا من خلافات في أمور فرعية فإنها لا تؤثر على الأصول ولا تخرج أحدًا منّا عن دائرة الإسلام، واختلافنا في الفروع ضروري وحتمي، وأراد الله ذلك رحمة بنا.
فلا بدّ أن نزيل من عقول المسلمين الظن بأننا مختلفون في العقائد والأصول، وأن نبين لهم أن
الأصول عندنا واحدة.
الأمر الرابع: العمل على بيان الأسباب التي أدّت إلى اختلاف علماء الأمة في الفروع، وبيانها للناس، وأن ذلك الاختلاف بسبب اجتهاد علماء الأمة. وقد نشأ هذا الاختلاف في الرأي نتيجة لاختلافهم في مناهج البحث وطرقه، فقد يعتمد بعضهم من السنة ما لا يعتمده الآخر، وقد يعتمد بعضهم من أقوال الصحابة ما لا يعتمده الآخر، وقد يكون هذا الاختلاف نتيجة للأخذ بالقياس والإجماع، وقد يكون نتيجة لاختلافهم حول دلالات الألفاظ والأساليب الواردة في القرآن والسنة، فهناك العام والخاص، والمطلق والمقيد من الألفاظ، كما أن هناك الألفاظ المشتركة.
ثم إن هذا الاختلاف لم يكن بين الأئمة الأعلام فحسب، وإنما كان أيضًا ـ وقبل ذلك ـ بين الصحابة أنفسهم، فقد اختلفوا في بعض الأحكام بعد أن لحق الرسول (ص) بالرفيق الأعلى، وهناك مواطن كثيرة تبين اختلافهم، ولكن قلوبهم كانت واحدة.
فمن نماذج اختلافهم: اختلافهم في المفقود، فقد قال علي [ع] بأنه لا تتزوج امرأته ـ وهو ما أخذ به الأحناف ـ بينما قال عمر: تتربص امرأته أربع سنين ـ وهو ما أخذ به مالك ـ.
ومن نماذج اختلافهم في حكم ترك التسمية في الذبح، فقال علي [ع] وابن عباس (رض): إذا كان ذلك عمدًا لا تحل الذبيحة، وإن كان نسيانًا تحل ـ وهو ما أخذ به الأحناف ـ وقال ابن عمر (رض): إن ترك التسمية ناسيًا يحرم عليه أكل الذبيحة ـ وهو ما أخذ به مالك ـ.
ومن نماذج اختلافهم؛ اختلافهم في الحامل إذا توفي عنها زوجها، فقال ابن مسعود وأبو هريرة: إن عدتها وضع الحمل، وقال ابن عباس (رض)، وعلي [ع]: إن عدتها أبعد الأجلين.
ومن نماذج اختلافهم؛ اختلافهم في حجب الجد للإخوة كالأب، فقال بالحجب الصديق وعائشة والحسن البصري، وقال بالمقاسمة بينه وبين الإخوة الأشقاء أو لأب عمر وعثمان وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم أجمعين.
وهكذا اختلف الصحابة، ولكن هذا الاختلاف في الفروع لم يجعلهم متفرقين يسب بعضهم بعضًا، ويرمي بعضهم بعضًا بالكفر أو الفسق، وإنما كانوا متحدين ضد أعداء الإسلام.
الأمر الخامس: الدعوة إلى عدم تكفير المخالف أو تفسيقه أو تبديعه، لأن ذلك يؤدي إلى أن يجنح العوام إلى العصبية، وأن يتمسك العوام بمذاهبهم بتعصب، وقد نهى رسول الله (ص) عن تكفير المسلم فقال: “من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما إن كان كما قال وإلا رجعت عليه”. فالكفر أمر صعب، ولا يطلق إلا على من أنكر وجود الله سبحانه وتعالى ـ والعياذ بالله ـ أو جحد أسماءه، أو أنكر شرعه، أو كذب الله تعالى فيما أخبر به، أو جحد نبوة رسول الله (ص)، أو كذب بالقرآن، أو بكلمة منه أو حرف، أو أنكر البعث أو القدر، أو جحد معلومًا من الدين بالضرورة، أو أشرك بالله في ربوبيته، أو استهزأ بالله أو آياته أو رسوله.. إلى غير ذلك.
الأمر السادس: العمل على ترك التعصّب لمذهب معين، فكل المذاهب الإسلامية تجتهد وتحاول أن تصل إلى مراد الله ومراد رسول الله (ص)، والمجتهد مأجور، وعلى العوام أن يتبعوا أحد المجتهدين دون تعصب، ودون أن يدعي كل واحد منهم أن مذهبه هو الحق، وأن غيره غلط، وخارج عن نطاق العمل.
فقد اشتهر على ألسنة العلماء الأئمة الأعلام قولهم: رأينا هذا صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيرنا خطأ يحتمل الصواب.
والمشكلة تنشأ من تعصب العوام والمتبعين للمذهب.
الأمر السابع: العمل على بيان فضل العلماء الأولين الذين أسسوا الفقه وسجلوا المسائل والاجتهادات، وأسسوا العلوم الشرعية، ولم يتركوا لمن بعدهم إلا قليلًا من التنقيح والتحقيق والترتيب والتنسيق والتعليق والشرح وقليل من الاجتهاد.
فهؤلاء العلماء اتفق الناس في كل عصر على اتباعهم، وعلى الاقتداء بهم، وعلى أنهم مجتهدو الأمة بإطلاق، ولا تجتمع أمة المسلمين على ضلالة.
واتفقوا على أنه لم يكن فقيه من لم يطلع على كتبهم، ويتتلمذ على علمهم.
وأولهم أبو حنيفة الإمام الأعظم، الذي أخذ عن زيد بن علي (إمام الزيدية)، والذي أخذ عنه وعن تلاميذه الإمام الشافعي، وأخذ عنهم وعن الشافعي الإمام أحمد.
وكذلك الإمام مالك الذي أخذ عنه الشافعي.
وكذلك أصحاب أبي حنيفة، أبو يوسف ومحمد بن الحسن الذين شهد لهم العلماء في كل عصر بالتفوق والاجتهاد.
فإنه من الجحود أن ننكر أعمالهم، وأن ننكر اجتهاداتهم، وأن نمشي مع الذين يدعون أنه من الممكن أن نبدأ العلم بعدهم، فلا بداية بغير أساس، وهم أساس العلم والفقه.
الأمر الثامن: أن نبين للناس أن الخلافات المذهبية لا بدّ منها، لأن أدلة الأحكام ليست فى درجة واحدة من ناحية الثبوت، فهناك أدلة قطعية الثبوت، كآيات القرآن الكريم جميعها، والأحاديث المتواترة، وهناك أدلة ظنية الثبوت، كأحاديث الآحاد.
وأدلة الأحكام أيضًا ليست في درجة واحدة من ناحية الدلالة، فهناك أدلة قطعية الدلالة (أي ليس لها سوى معنى واحد) كآيات القرآن الكريم التي تتعرض للعقائد والتوحيد وفرضية الفرائض، وهناك أدلة ظنية الدلالة؛ (أي ليس لها معنى واحد متفق عليه، وإنما لها أكثر من معنى ووجه)، وذلك كثير في القرآن الكريم والسنة فيما يتعلق بمجال الفقه والشريعة والأمور العملية، وإنه يكفي في العمل الظن، ولا يكفي في الاعتقاد إلا اليقين، ولذلك فإن مسائل العقيدة مبنية على القطع واليقين، ولا يقبل فيها دليل ظني، بل لا بدّ من الأدلة القطعية اليقينية.
أما المسائل العملية (وهي المسائل الفقهية) فإنه يكفي فيها الظن لوجوب العمل، ولذلك أوجبت شريعتنا العمل بخبر الواحد، وهو ظني.
إذن، فالاجتهاد في الأحكام الشرعية يكون ظنيًّا في أكثر المسائل، لأن الأدلة أكثرها ظني من ناحية الثبوت، ومن ناحية الدلالة، وهذا ما جعل للفقه الإسلامي مرونة ليست في غيره من الشرائع.
ولا بدّ أن نبين للناس أن الخلاف في الأحكام الفرعية لا ضرر فيه مطلقًا.
الأمر التاسع: الدعوة إلى أن يكون الأزهر الشريف مؤسسة عالمية مستقلة ـ كما كانت قديمًا ـ.
فالأزهر الشريف لا يخص بلدة بعينها، وإنما هو ملك لجميع المسلمين يأتون إليه من كافة الدول الإسلامية والعربية ليتعلموا فيه أصول الدين والشريعة واللغة العربية وعلوم القرآن ليكونوا هداة للناس في كل مكان، وكذلك يأتون إليه مستفتين.
وقد حرص الأزهر في الآونة الأخيرة على أن يتشكل أعضاء مجمع البحوث الإسلامية (هيئة كبار العلماء) من جميع الدول الإسلامية (ثلاثون من مصر، وعشرون من البلاد الإسلامية الأخرى)، ونود أن لا يتقيد عدد الأعضاء في المجمع بعدد، إذ إن المجتهدين في العصور المختلفة قد يكثر عددهم وقد يقل، ولو أن المجمع حرص على أن يضم جميع المجتهدين بقدر الإمكان لكان ذلك خيرًا للأمة، إذ إن الأمة تحتاج إلى بيان الرأي فيما يجد من أمور.
الأمر العاشر: الدعوة إلى أن تكون مسؤولية التدريس والدعوة والإفتاء والخطابة بالحرم المكي والمدني مسؤولية عالمية، يقوم بهذه المهام علماء من كافة البلاد الإسلامية يمثلون المذاهب المختلفة.
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
Source URL: https://maarefhekmiya.org/16492/division-among-muslims/
Copyright ©2024 معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية unless otherwise noted.