الطريق إلى الدولة الاستعمارية

by فيروز سلامة | أبريل 9, 2024 7:20 ص

الطريق إلى الدولة الاستعمارية

من تنظيمات عسكرية إلى “جيش صهيوني- إسرائيلي”[1][1]

” النشأة والتكوين”

 مُقدمة

لا يمكن فهم العداء الصهيوني للأديان ومواجهة كل ما هو حي، بدون العودة وفهم كيفية تشكيل الجهاز العسكري الرسمي للكيان الزائل، وذلك من خلال فهم العلاقة بين اليهودية كدين وكيف استغلتها الصهيونية من أجل القتل والدمار والاستعمار. لذلك تسعى هذه الورقة إلى دراسة كيفية تكوين الجيش الصهيوني- الإسرائيلي، والظروف السياسية التي تمت في سياقها عملية التكوين. وذلك عن طريق دراسة المرحلة التاريخية التي أُنشئ فيها الجيش الصهيوني- الإسرائيلي. وتكمن أهمية دراسة هذا الموضوع، من علاقة الفكر القومي للحركة الصهيونية بتكوين الجيش الإسرائيلي، الذي لم يوجد بصورته الحديثة اليوم نتيجة الظرف اللحظي المُتمثل بحرب عام 1948، وهي السنة التي أعلن فيها عن الجيش كمؤسسة عسكرية رسمية للدفاع عن دولة إسرائيل حديثة النشأة[2][2].

وإنما بسبب التفاعل بين الظروف السياسية خلال الفترة 1920-1948 مع هدف الحركة الصهيونية بإنشاء الدولة اليهودية في فلسطين، وعلاقة ذلك بضرورة إنشاء قوة عسكرية لها[3][3]. والتي تمثلت بالمنظمات العسكرية الصهيونية في فلسطين قبل عام 1948 أهمها الهاغانا، التي شكّلت بعد حرب 1948 نواة الجيش النظامي الرسمي بتوريثه ما امتلكته من أدوات وخبرات[4][4].

فالهدف من هذه الورقة هو دراسة وتفكيك عوامل البيئة السياسية في فلسطين خلال الفترة 1920-1948 التي نشأت فيها الهاغانا كتنظيم عسكري صهيوني شكّل نواةً لجيش نظامي لاحقًا. وذلك لمعرفة نوعية وكيفية اتخاذ السياسات التي تم على أساسها بناء قوة عسكرية صهيونية قبل تأسيس الدولة، ومن خلال ذلك تتوضح مكانية الجيش في إسرائيل، الذي يجعلها تختلف عن الدول التي تجاورها ويحمي وجودها.

البداية: هدف الورقة وإشكاليتها التي تحاول دراستها

رغم وجود العديد مِن الاختلافات السياسية والثقافية بين اليهود المُستعمِرين بسبب اختلاف الأماكن التي قدموا مِنها للاستيطان في فلسطين، إلا أن الحركة الصهيونية استغلت العامل المُشترك بينهم لتوحيدهم وهو الدين اليهودي مِن أجل تحقيق مشروعها القومي بتأسيس دولتها على أرض فلسطين. ومن أجل ذلك عملت الحركة الصهيونية على تأسيس وبناء قوتها العسكرية، فشكّلت المنظمة العسكرية “الهاغانا” عام 1920، وتم تعبئتها بالقوة البشرية من قبل يهود المُستعمرات في فلسطين، فكانت عملية التعبئة هذه هي صهر الاختلافات بين اليهود وجعل تركيزهم نحو الدفاع وحماية وجودهم في فلسطين. وعلى الرغم من الانشقاقات التي حدثت في الهاغانا ونشوء تنظيمات عسكرية أخرى غيرها، إلا أن الانتصار العسكري في حرب 1948، وإعلان الدولة دفع نحو تأسيس الجيش الصهيوني- الإسرائيلي كإطار عسكري رسمي وحيد للدولة الناشِئة، شكّلت الهاغانا نواته الأساسية ودُمجت فيه التنظيمات الأخرى. وعليه، فإن دراسة كيفية نشوء هذه التنظيمات العسكرية تقود إلى فهم كيفية تكوين ومتانة الجيش الإسرائيلي بِصورته اليوم، ودوره كأداة صهر للاختلافات بين المجندين فيه. وبذلك تحاول الورقة الإجابة عن تساؤل رئيسي يتمثل بــــ: كيف أثّر الفكر القومي للحركة الصهيونية على تكوين الجيش الصهيوني- الإسرائيلي؟ وذلك بافتراض هذه الورقة المتمحور حول: أن الدراسة تفترض بأن حالة الاختلاف والتوتر التي كانت بين التنظيمات العسكرية الصهيونية قبل حرب 1948، لم تحل إلا بتحقيق الحسم خلال حرب 48، ما قاد إلى تأسيس إطار ناظم لهذه التنظيمات العسكرية وهو “مؤسسة الجيش”. ولكن المسار هذا لم يكن ليتمّ لولا الفكر القومي للحركة الصهيونية، الذي كان يغذي سلوك التنظيمات خلال الحرب 48، القائم بدوره بشكل رئيسي على عنصر الدين اليهودي.

مراجعة ونقد الأدبيات والدراسات التي عالجت موضوع الدراسة

تنقسم الأدبيات التي تُعالج إشكالية الدراسة إلى توجهين، يُوضح التوجه الأول الظروف السياسية والكيفية التي نشأت فيها التنظيمات الصهيونية العسكرية المُكونة للجيش الصهيوني- الإسرائيلي عام 1948، والآلية التي عملت بها هذه التنظيمات على بناء قوتها العسكرية التي ساعدتها على إنشاء دولة إسرائيل بعد حرب 1948. أما التوجه الثاني، فيوضح دور العوامل الثقافية في تعزيز متانة وحدة المجندين في الجيش ودوره في دولة إسرائيل باعتباره الأداة العسكرية التي تهدف إلى الحفاظ على وجود الدولة وتحقيق أمنها والدفاع عنها ضد الأعداء.

إلا أن هذه الأدبيات عانت مِن إشكاليتين رئيسيتين، الأولى: باعتبارها شكّلت أداة- سرد معلوماتية تراتبية للكيفية التي تكوّن بها “الجيش الإسرائيلي”. أما الإشكالية الثانية، والتي لا تنطبق على جميع المواد المطروحة هنا، -وإنما الأجنبية منها تحديدًا- وذلك بمعالجتها موضوع التنظيمات العسكرية الصهيونية وتكوين الجيش كحدث تاريخي- طبيعي بدون التعمق لطبيعة البعد الأمني الاستعماري الذي نشأت به، وإن تمت الإشارة في بعض المواقع باعتبار سلوك التنظيمات الصهيونية إرهاب، إلا أنها لم تقم بوضعها في سياقها بشكل معمّق ومفصّل. فاعتبار هذه التنظيمات أقيمت في بدايتها لأغراض دافعية ثم تحولت إلى عسكرية، هو أحد الجوانب الذي يعزز هذه الإشكالية. فالدفاع بالنسبة لهذه التنظيمات هو جزء من السلوك العسكري الاستعماري اتجاه الفلسطينيين الذين جرى استعمار أرضهم. بالإضافة إلى ذلك فإن هذه الرؤية تعود إلى الخلفية الفكرية لأفراد هذه الدراسات، فكتابة يغال ألون على سبيل المثال، وبحكم موقعه السياسي والعسكري في المنظومة الاستعمارية الإسرائيلية لا يتم التعامل مع نصه فقط باعتباره أداة سرد معلوماتية، وإنما صوت إسرائيلي يقوم بعرض التاريخ وفق وجهة نظره الاستعمارية.

فعن التوجه الأول، شَكّل كتاب يغال ألون “إنشاء وتكوين الجيش الإسرائيلي[5][5]“، نصًّا حول سياق التاريخ السياسي الذي كَوّن الجيش الإسرائيلي، خلال ثلاثة فترات مُتعاقبة: الحكم العثماني، الانتداب البريطاني، حرب 1948. فقد شكّل الحسم خلال حرب 48 وإعلان “الدولة” مرحلة تكوين الجيش، عن طريق تحويل التنظيمات العسكرية الصهيونية التي أنشئت لحماية المستعمرات، وحاربت في الحرب وبشكل أساسي الهاغانا (التي تأسست وطورت قدراتها العسكرية خلال الفترة 1920-1939) إلى إطار نظامي واحد، وحل أي تنظيم عسكري خارج هذا الإطار.

ويأتي كتاب جوني منصور وفادي نحاس “المؤسسة العسكرية في إسرائيل: تاريخ، واقع، استراتيجيات وتحولات[6][6]” ليلتقي مع كتاب يغال ألون، بتوضيح كيفية نشأة الجيش الإسرائيلي، ولكن من خلال دور الرؤية الأمنية- العسكرية لديفيد بن غوريون على الانتقال من منظمات عسكرية تمارس في نمط قتالها أسلوب حرب العصابات إلى جيش نظامي. وخلال الفترة 1947 و1948 بدأت مرحلة الانتقال، فقد أصدر مرسوم إقامة الجيش بتاريخ 26.5.1948، وحدّدت علاقته بالمؤسسة السياسية وأهدافه، وكان إعلان تقسيم فلسطين المرحلة المفصلية في تكوين الجيش النظامي؛ وذلك لأن الإجراءات المتبعة للتجنيد اختلفت، فقد أصبح التجنيد عام لا سري، وعلني غير انتقائي، وحدّدت مراسم وطقوس جديدة.

تستكمل ورقة صالح عبد الجواد “المنظمات الصهيونية المسلّحة حتى العام 1948[7][7]“، استعراض نشوء المنظمات العسكرية الصهيونية وعلاقتها بالجيش الإسرائيلي، كما وضّحها كُلّ من يغال ألون، جوني منصور وفادي نحاس، إلّا أن عبد الجواد يُعالج هذه العلاقة من خلال إبراز العاملين الأساسيين اللذين أثّرا على قرار الحركة الصهيونية بتكوين أداة عسكرية قبل نشوء الدولة، وهما، الأول: داخلي يتمثل بتطور مجتمع الييشوف اليهودي في فلسطين وإنشاء منظمة هاشومير لحراسة المُستعمرات، وتم حلها بعد تأسيس الهاغانا. والعامل الثاني: خارجي يتمثل باستغلال الحركة الصهيونية للحرب العالمية الأولى وانتهاز الظروف التي خلقتها لتشكيل وحدات عسكرية يهودية وتعظيم قوتها لتُشكل جسم عسكري من أجل محاربة العرب الفلسطينيين. وبتفاعل كلا العاملين مع بعضهما البعض، تكونت التنظيمات العسكرية وتطورت بشكل موازي للتطور الديمغرافي، الاقتصادي، السياسي للمشروع الصهيوني. فتكونت الهاغانا، ثُم كل من أيتسل وليحي نتيجة الانشقاق عن التنظيم الأول وهو الهاغانا. إلا أن وجود العديد من التنظيمات لم يؤدِّ إلى اختلاف في الهدف الأساسي للحركة الصهيونية وهو إنشاء الدولة.

ومن الحديث عن النشاط الإرهابي للتنظيمات العسكرية الصهيونية تأتي دراسة جميس جون لويس بيك ((John Louis Peeke “اليهود-الإرهاب الصهيوني وإنشاء إسرائيل[8][8]” لتستعرض سبب نشوء المنظمات العسكرية الصهيونية ودورها بإنشاء دولة إسرائيل، وتتقاطع هذه الدراسة مع ورقة صالح عبد الجواد بتحديدها للعلاقة بين العامل الخارجي وسبب نشوء المنظمات العسكرية الصهيونية. ولا تخرج عما قُدِّم في مسح الأدبيات الأولى عن الكيفية التي تحولت بها هذه التنظيمات إلى نواة جيش نظامي.

وتعكس دراسة شاعيل بن أفرايم (Shaiel Ben Ephraim) “من السرد الاستراتيجي إلى الثقافة الاستراتيجية: الصهيونية العمالية وجذور الثقافة الاستراتيجية الإسرائيلية[9][9]” التوجه الثاني، من خلال عرضها العمل العسكري الصهيوني، الذي أسس الجيش الصهيوني- الإسرائيلي عام 1948 من خلال دراسة الكيفية التي تُبنى بها الاستراتيجية وتتحول إلى ثقافة استراتيجية، فالأولى تكون أكثر مرونةً من الأخيرة وذلك لاحتمالها الجدل الذي يدور بين النخبة الأمنية، بالإضافة إلى استخدامها في بدايات تأسيس الدولة من أجل كسب الشرعية لأي سلوك لاحقًا.

ووفق هذا التصور النظري للنخبة وتحول السردية، استعرضت ورقة شاعيل بن أفرايم سؤال رئيسي تمثل بكيفية تحول الحركة الصهيونية العمالية من الدفاع غير العسكري إلى نهج هجومي وعسكري؟ وبذلك وضح العلاقة بين نشوء المنظمات الصهيونية العسكرية قبل نشوء الدولة ومنها الهاغانا التي كانت منظمة غير عسكرية وإنما دفاعية في بداياتها، ثم تحولت إلى النهج العسكري لاحقًا. والكيفية التي انعكس فيها تكوين الجيش على مفهوم الحرب في الثقافة الاستراتيجية الإسرائيلية وتحولها إلى مكون أساسي، فالسبب في نجاح السردية الاستراتيجية، وتكرسها في الثقافة هو نجاحها الفعلي بأرض المعركة، وبسبب التفوق العسكري الإسرائيلي قبل نشوء الدولة وبعدها، أصبحت الحرب مكون أساسي في الثقافة الاستراتيجية الإسرائيلية.

ومن صناعة الثقافة الاستراتيجية الإسرائيلية ومركزية الحرب فيها، تستكمل دراسة Hanne Eggen Roislien “الدين والتجنيد العسكري: حالة جيش “الدفاع” الإسرائيلي”[10][10]، إضافة عنصر آخر للثقافة الإسرائيلية له علاقة بوحدة المجندين في الجيش، وهو الدين. فـ Hanne Eggen Roislien يوضح في دراسته التجنيد الإلزامي في الجيش الإسرائيلي، ويفحص ذلك من خلال عامل الدين باعتباره عنصر توحيد اجتماعي وثقافي يشكل الأساس في حياة أفراد المجتمع، واستعرض الكاتب ذلك من خلال مقابلات أجراها مع مجندين في الكتيبة 50 ليرى دور الدين في الماكينة العسكرية. فقد تم توضيح الازدواجية التي يتم التعامل بها مع الدين اليهودي، باعتباره لاهوتًا وثقافة في ذات الوقت، وذلك لصهر المجندين ضمن إطار واحد وهو الدين اليهودي الذي يعمّق بدوره شعور “نحن” بينهم.

مَدخل: النشأة: تأسيس التنظيمات العسكرية الصهيونية بعد الحرب العالمية الأولى

يُمكِن التأريخ لِبداية نشأة التنظيمات العسكرية الصهيونية عام 1920، وهو العام الذي أُعلن فيه عن تأسيس مُنظمة الهاغانا[11][11] والتي انشقت مِنها المُنظمات العسكرية الأخرى لاحقًا. إلا أن الحديث عن تأريخ البداية، لا يعكس التاريخ الذي تم في زمَنِه تشكُل مُنظمة عسكرية صهيونية ستكوِّن لاحقًا نواة جيش نظامي. فالتأريخ هو تحديد الحَدث/ المعلومة، بينما الذهاب نحو دراسة تاريخ النشأة هو رؤية في البنية الاجتماعية الصهيونية في فلسطين (التي تكونت بداخلها الهاغانا) خلال الفترة 1920- 1948 التي تُشكّل مجموعة عوامل تتفاعل مع بعضها البعض في صيرورة مُستمِرة بِبُنية زمنية مُحددة، مؤدية إلى صناعة زمَان[12][12]. هذه البنية وانتقالها مِن مرحلة زمنية إلى أخرى مُكونة بذلك تاريخها.

يأتي تشكيل مُنظمة الهاغانا “منظمة عسكرية صهيونية” كَجُزء مِن المجتمع الصهيوني الموجود في فلسطين – أي البنية الاجتماعية التي تتم دراستها في هذه الورقة-، استنادًا إلى عوامل السياق السياسي في الفترة السابقة واللاحقة مِن تشكيل الهاغانا، ففي عام 1909 تم تأسيس منظمة هاشومير من أجل حراسة المُستعمرات الإسرائيلية من السرقة والاعتداء وأية هجمات قد تتعرض لها. إن هذه المنظمة بما لديها من موارد بشرية سوف تورثها لما بعدها من تنظيمات[13][13]. ولم تتوقف المؤسسات الصهيونية في فلسطين عند هذا الحد، بل عملت على أن تكون فاعلًا مُستثمرًا نتيجة تطور المُجريات الدولية وقيام الحرب العالمية الأولى، إذ تم تشكيل كتائب يهودية للمشاركة في الحرب ضد الدولة العثمانية. وشكل انتصار بريطانيا عامل مُساعد لمشروع الحركة الصهيونية في فلسطين؛ إذ إن تقسيم تركة الدولة العثمانية بين الدول الاستعمارية ووقوع فلسطين تحت الاستعمار البريطاني شكّل بدوره حاضنة لتطور المشروع الصهيوني في فلسطين بموجب وعد بلفور[14][14].

 بهذا التفاعل والبناء المتمثل بالتعبئة البشرية واكتساب خبرة عسكرية، كانت بداية الطريق نحو الإعلان عن تأسيس الهاغانا بشهر نسيان عام 1920، بعد حل مُنظمة هاشومير بذات الفترة وتوريث ما امتلكته للمُنظمة الناشئة. إلا أن الدافع نحو هذا التحول كان بسبب مواجهة الفلسطينيين الثوار لليهود/ المُستعمِرين، فقد قاموا بالهجوم على المُستعمرات الموجودة في الشمال وقتلوا سبعة مستوطنين منهم ترومبلدور في تل حاي الاستيطاني. فبسبب عدم قدرة البريطانيين على تقديم المساعدة للمُستعمرة وعدم فاعلية منظمة هاشومير، تم التوجه نحو تأسيس منظمات عسكرية لحماية المُستعمرات[15][15].

إن التعمق في قراءة الدافع نحو تأسيس التنظيمات العسكرية الصهيونية في المجتمع الصهيوني في فلسطين لا تتم في إطار حماية المُستعمَرات مِن أي “اعتداءات”، بل في إطار المشروع الصهيوني الاستعماري الذي يعمل على تأسيس أدوات الدولة قبل تحقيقها، ومِنها: القوة العسكرية التي بدأت تتشكل كتنظيمات ثم تحولت إلى جيش نظامي.

 يُضاف إلى هذه القراءة، الدور الفلسطيني وموقعه خلال عملية نشأة التنظيمات العسكرية، فلا يُمكن تغييبه عنها؛ لأن فعل ذلك هو ارتهان للرؤية الصهيونية والتسليم بها، ومحوه كفاعل مؤثر من التاريخ، الذي لا ينفصل بدوره عن تاريخ البنية الاجتماعية الصهيونية التي تم تشكيلها في أرض فلسطين وأصبحت تتنامى فيها على حِسابه. فقد كان العربي- الفلسطيني واعيًا للمشروع الصهيوني مُنذ بداياته، ففي الفترة ما قبل سقوط الدولة العثمانية تمثل العمل السياسي الفلسطيني ضد المشروع الصهيوني بحركتين: الأولى، بتأسيس الحزب الوطني العثماني، الثانية كانت في مجلس المبعوثان في الآستانة، وكان المبعوثين من النواب العرب (منهم: روحي الخالدي، سعيد الحسيني،) فقد طالبوا البرلمان العثماني بتشريع يمنع الصهيونية من الهجرة وتملك الأراضي[16][16].

وبهذا فقد شكّل السياق السياسي المتمثّل بــالعوامل التالية: الحرب العالمية الأولى، الاستعمار البريطاني لفلسطين، المقاومة الفلسطينية للمشروع الصهيوني، مجموعة العوامل الأولى التي ساهمت في تَشكُّل التنظيم العسكري الصهيوني “الهاغانا”.

استمرار التَشكُل: الانشقاق والانقسام/ بروز تنظيمات عسكرية جديدة

بعد تأسيس الهاغانا وبداية عملها وفق هدفها الأساسي المُتمثل بخدمة الأمة والييشوف والدفاع عنهم ضد الأعداء، بدأ الصراع الكبير داخل التنظيم عام 1931 عندما تأزّم الوضع داخله حول توجهان في الكيفية التي يجب التعامل بها مع الفلسطينيين، وتحديدًا إثر أحداث عام 1929 “ثورة البراق”. ما دفع إلى انشقاق جماعة وتكوينها “هاغانا ب” التي فضّلت التوجه العنيف فقط في التعامل مع الفلسطينيين، وفي مُحاولة التنظيم الرئيسي “الهاغانا” التفاوض لإنهاء الانشقاق والعداوة إلى تكتل واحد، رفض جميع أفراد “هاغانا ب” العودة، فشكّل الذين رفضوا العودة تنظيم عسكري جديد[17][17].

تجلى الصِدام داخل الحركة الصهيونية خلال فترة الثورة الفلسطينية الكبرى 1936-1939؛ إذ عمل ديفيد بن غوريون بدفع تنظيم الهاغانا نحو سياسة ضبط النفس، مِن أجل عدم استنزاف الهاغانا مِن البِداية، وجعل القوات البريطانية الموجودة في فلسطين تتحمل عبء هذه الثورة. إلا أن هذه السياسة لم تكن مرغوبة داخل التيارات العسكرية الصهيونية المُضادة “هاغانا ب”، فحدث انشقاق بداخلها قاد عام 1937 إلى تأسيس منظمة أيتسل[18][18] وفق تصورات كل من جابوتنسكي ورئاسة روبرت بيتكر. خُطَّ المبدأ الأساسي لأيتسل “مصير الشعب اليهودي يحسم بقوة السلاح العبري فوق أرض الوطن”[19][19].

 إن هذا الشعار يُقدّم فهمًا لمدى عنف وإرهاب التنظيمات العسكرية الصهيونية، فتنظيم أيتسل بعد تأسيسه قام بمجموعة من العمليات الإرهابية ضد الفلسطينيين، واعتمدوا على المتفجرات كسلاح رئيسي في مختلف المدن والقرى. وشكّلت هذه الأعمال خطرًا على المشروع الصهيوني بسبب إمكانية تخريب العمل السياسي والعسكري الذي تُشرف عليه الهاغانا. وعلى ذلك شهدت هذه الفترة احتدام الصراع بين كل من الهاغانا وأيتسل[20][20].

إلا أن الخطر الأساسي تمثل عام 1939 بإعلان بريطانيا الكتاب الأبيض وتضمنه بنودًا لا تتوافق مع سياسة المشروع الصهيوني، مثل تحديد سقف هجرة اليهود إلى فلسطين، ومنع انتقال الأراضي من العرب إلى اليهود وتحديد عملية شرائهم للأراضي تحت إشراف الحكومة، يُضاف إلى ذلك تفسير عبارة وطن قومي للشعب اليهودي باعتبارها دلالة لا تنم عن تحويل الدولة الفلسطينية إلى دولة يهودية استنادًا لوعد بلفور؛ لأن ذلك يُخالف رغبة وإرادة سكان البلاد العرب. إن السبب في السياسة البريطانية خلال هذه الفترة هو هدفها بِضبط سيطرتها على هذه الجبهة نتيجة التوجه العالمي نحو حرب عالمية ثانية، إلا أن التنظيمات العسكرية الصهيونية رفضت هذه السياسة ودار خلاف حول كيفية التعامل مع الكتاب الأبيض، ولكن منظمة أيتسل اعتمدت خيار المواجهة المباشرة مع البريطانيين من أجل دفعهم نحو العدول عن هذه السياسة، بالإضافة إلى زيادة النشاط الاستيطاني وتنظيم عمليات هجرة اليهود إلى فلسطين كسياسة مضادة لأهداف الكتاب الأبيض. فقاموا بمظاهرات غاضبة ضد بريطانيا وسياسة الوكالة اليهودية نتيجة عدم حسمها موقفها من سياسة بريطانيا، وبشكل متوازي نظموا عمليات ضد ممتلكات الفلسطينيين. نتيجة لذلك قامت السلطات البريطانية باعتقال قائد المنظمة رازئيل، ولكن رد الأخيرة على هذه السياسة تمثل بالقيام بعمليات مسلحة ضد العرب والبريطانيين[21][21].

 ما أدى إلى تشديد القوة البريطانية ضد المجتمع الصهيوني في تلك الفترة، ولكن بمقارنتها بالقوة التي استخدمها البريطانيين لقمع الفلسطينيين عُدّت القوة الممارسة اتجاه الصهيونيين قوة معتدلة[22][22]. لم تتوقف عملية نشأة التنظيمات العسكرية الصهيونية عند حدود انشقاق ووجود منظمة أيتسل، فعام 1940 تم تأسيس منظمة ليحي بقيادة أبراهام ستيرن، وذلك بانشقاقها عن تنظيم أيتسل نتيجة السياسة التي اتبعها رزائيل بوقوفه إلى جانب بريطانيا وتحسين العلاقة معها باعتبار أن العدو في هذه الفترة أصبح ألمانيا بسبب ظروف الحرب. إلّا أن ستيرن لم يرى ذلك بهذه الصورة، بل اعتبر بريطانيا العدو في هذه المرحلة، ولا يجب وقف الحرب ضدها حتى في ظل حربها ضد ألمانيا النازية، وفيما يتعلق بنشاط ليحي ضد بريطانيا فقد تمثل بعدة هجمات ضدها ما دفعها إلى اغتيال ستيرن عام 1942 وتقييد تنظيم ليحي. استلم إسحاق شامير قيادة التنظيم بعد هروبه من السجن، وكان معه كل من نتان يلين مور ويسرائيل داد، كقيادة لتنظيم ليحي[23][23].

ووفق ما تم عرضه، فإن هذه الظروف مجتمعة، من ثورة البراق إلى الثورة الفلسطينية الكُبرى، والكتاب الأبيض كمتغيرات سياسية داخلية، إلى الحرب العالمية الثانية تشكلت الملامح الأولى للمشهد العسكري الصهيوني في فلسطين في خلال الفترة 1929-1942، فمِن تنظيم عسكري رسمي مُتمثل بالهاغانا، إلى كل من تنظيم أيتسل وليحي المتشكلين كل مِنهما بانشقاقه عن التنظيم الأول بالتتابع: هاغانا ب، أيتسل عن الهاغانا ب، ليحي عن أيتسل. وفي هذه المرحلة أيضًا يمكن قراءة أسس الفكر القومي للحركة الصهيونية بشكل واضح، كمشروع استعماري يسعى للسيطرة على فلسطين، وذلك من خلال شعار منظمة أيتسل الذي يرى بأرض فلسطين وطنه وإقامة الدولة العبرية فيه تكون من خلال القوة والنار، إلى النزعة العسكرية المُمنهجة ضد بريطانيا باعتبارها عدوًّا لدى بعض التنظيمات مثل ليحي. وهذه المُتغيرات مجتمعة تُشكل مجموعة العوامل الثانية في عملية نشأة وتطور التنظيمات العسكرية الصهيونية ضمن إطار عملية تكوين الجيش الإسرائيلي، فحركة الزمان الخاص بالمجموعة الأولى مِن العوامل أفضت بنتائجها بسبب التفاعل والترابط فيما بينها إلى مجموعة العوامل الثانية.

إن المرحلة التالية اللاحقة لتتابع الأحداث التي سبقتها، تمثلت بحدث رئيسي متمثل بحرب بين التنظيمات العسكرية الموجودة في فلسطين ضمن حركة المشروع الصهيوني. وقد تمت الحرب بقيادة الهاغانا من أجل تصفية المنشقين، وقد كان الخلاف بين التنظيمات بشكل أساسي حول العلاقة مع الحكومة البريطانية، فرغم وجود تعاون بين الهاغانا والبريطانيين خلال الحرب العالمية الثانية، إلا أن الهاغانا أشركت البلماح في هذه الحرب الداخلية لمساعدة قيادة الهاغانا على اعتقال المنشقين[24][24].

ورغم سلوك منظمة ليحي العسكري الذي شكل خطرًا على المشروع الصهيوني في فلسطين خلال فترة الحرب العالمية الثانية، بسبب اغتيال المنظمة لوزير المستعمرات البريطاني في مصر عام 1944 إلا أنه تم التعاون بينها وبين الهاغانا بعد إيقاف ليحي عملياتها ضد البريطانيين، وتم التعاون بينهما لمواجهة منظمة أيتسل. ويأتي سبب التعاون هذا بسبب إدراك الهاغانا لقوة تنظيم أيتسل العسكري مقارنة بتنظيم ليحي الأصغر[25][25].

وتمثلت الفترة خلال الحرب العالمية الثانية وحتى عام 1947 بصدامات عديدة بين التنظيمات العسكرية الصهيونية والقوات البريطانية، إذ اتفقت التنظيمات العسكرية الصهيونية على التحالف فيما بينها، ومواجهة بريطانيا وإلحاق أكبر ضرر بها، فتم الإعلان عن العصيان العبري وبدء مواجهة القوات البريطانية في فلسطين، وردًّا على ذلك قامت بريطانيا بحملات واسعة ضد المجتمع اليهودي في فلسطين عام 1946. عملت هذه الحملة على دفع منظمة أيتسل للانتقام، فقاموا بتفجير فندق الملك داوود في القدس بذات العام، فشكلت هذه العملية محورًا فاصلًا في تدهور العلاقة بين التنظيمات العسكرية الصهيونية وبريطانيا، وامتد أثرها ليعيد إلى الساحة مرة أخرى توتر العلاقة بين تنظيم أيتسل الهاغانا وإيقاف التعاون[26][26].

ومع قرار بريطانيا بالجلاء عن فلسطين وتسليم ملفها للأمم المتحدة[27][27]، وجّه عمل التنظيمات العسكرية الصهيونية نحو محاربة الفلسطينيين، إذ حث بن غوريون على ذلك بشكل حصري، وعمل على أمننة – جعل كل قضايا الييشوف أمنية-، وحث على وجوب قيام مؤسسة أمنية واحدة يتم استثمار كل الموارد البشرية والأسلحة المتاحة بداخلها، بدلًا من تشتيتها على عدة مؤسسات، وذلك لتحقيق مشروع الدولة[28][28]. وبدءًا مِن عام 1947 وبعد قرار التقسيم بدأت حرب التنظيمات العسكرية الصهيونية ضد القرى والمدن الفلسطينية في خطوة نحو تطهيرها من أجل السيطرة عليها لإقامة الدولة. وقد عمل بن غوريون على الاستفادة من كل من تنظيم ليحي وأيتسل في توجيه الضربات إلى الفلسطينيين وذلك لنفي المسؤولية عن الهاغانا باعتبار أن هذه الهجمات هي فعل مِن منشقين غير رسميين[29][29]، في الوقت الذي كان يدفع فيه بن غوريون جميع اليهود للدفاع عن أنفسهم وحماية “أرضــهم”[30][30].

واستمرت الحرب بين التنظيمات الصهيونية والثوار الفلسطينيين خلال عام 1948 التي تعرف بحرب النكبة، وبعد حسم الأمور عسكريًّا لصالح التنظيمات العسكرية الصهيونية تم بتاريخ 26-5-1948 بالإعلان عن تأسيس الجيش الصهيوني- الإسرائيلي كإطار ناظم رسمي عسكري لحماية والدفاع عن دولة إسرائيل. وقد عمل بن غوريون على بدء صهر جميع التنظيمات ضمن إطار الجيش الرسمي. وبتاريخ 19-9-1948 قام بن غوريون بصياغة البيان الرسمي من أجل تصفية كُل من تنظيم أيتسل وليحي في القدس[31][31].

إن مرحلة التحول مِن التنظيمات العسكرية الصهيونية إلى مؤسسة الجيش، ترتبط بشكل أساسي حول دافيد بن غوريون؛ إذ إن رؤيته الأمنية والعسكرية هي التي دفعته نحو الذهاب بخيار تأسيس جيش نظامي. فهذه الرؤية تتمثل بقيامه بأمننة المجتمع الصهيوني في فلسطين، وإدراكه بأن المواجهة لن تكون مع بريطانيا التي سوف ترحل عن فلسطين، ولا حتى مع الفلسطينيين بالشكل الذي قد يؤدي إلى ضرر جذري في صفوفهم؛ وذلك بسبب قلة مواردهم، وإنما كان تركيز بن غوريون على المواجهة مع الجيوش العربية النظامية. وعلى ذلك عمل على تأسيس الجيش النظامي، وذلك بتحديد زي عسكري رسمي يمثل تحديدًا لمن هو الجندي، وكجامع موحد بين المُجندين، التحول من تسمية التنظيم إلى جيش، تأسيس ميزانية ولجان لمؤسسة الجيش الناشئة، إقرار مبدأ التجنيد الإلزامي والعلني والعام لكل اليهود، وضع مراسم وطقوس خاصة بالجيش لكي تُعبر عن الانتماء والولاء له[32][32].

وإلى جانب السلوك العسكري في عملية التكوين هذه، فإن الإطار الفكري الذي يصهر الاختلافات الموجودة في إطار الجيش يُشكل العمود الفقري له، فبدونه يفقد الجيش مركزيته ومتانته. وهذا الإطار الفكري يتمثل بالثقافة الصهيونية القومية التي شكلت رغم الصراع بين التنظيمات العسكرية قبل التكوين خطًّا ناظمًا لهم، فبالرغم من اختلاف وسائل كل تنظيم عسكري في سعيه إلى تحقيق هدف المشروع الصهيوني وهو الدولة، إلا أن الفكر القومي كان هو الأساس في تعبئة هذه التنظيمات من مُستعمر المجتمع الصهيوني والمهاجرين إليه ضمن التنظيمات العسكرية. والأساس الذي يستند إليه هذا الفكر هو الدين، فقد عملت الحركة الصهيونية على تحويل الدين من مجرد لاهوت إلى قومية لبناء مشروعها، فالدين اليهودي هو الجامع لكل القوة البشرية في التنظيمات العسكرية الصهيونية، وهو أساس إطارها الناظم بعد تكوينه، فهو يعرف بكونه جيش الدولة العبرية، أي إن التجنيد يستند إلى الدين اليهودي[33][33].

ولم يتم فقط الاكتفاء بالدين كلاهوت في الجيش الإسرائيلي، بل يتم التعامل معه باعتباره ثقافة للمجندين، فعدم التدين لا ينفي عدم الانتماء إلى اليهودية كثقافة، بالإضافة إلى تطبيق هذه الازدواجية لاحقًا بعد 1948 على العرب الذين يفرض عليهم التجنيد[34][34]. يَضاف إلى هذا العامل، عامل “الانتصار” الحسم في المعركة “حرب 48″، وتحويل هذا الحسم إلى ثقافة استراتيجية يشترك فيها كل المجندين في الجيش “المنتمين سابقًا إلى مختلف التنظيمات العسكرية”. فهذه الثقافة الاستراتيجية أصبحت رواية جمعية لأعضاء الجيش، والمجتمع الصهيوني ككل في تصورهم لذاتهم في الدولة التي تم إنجازها “إسرائيل، فالحرب أصبحت جزءًا رئيسيًّا من الثقافة الإسرائيلية”[35][35].

بالنهاية، فإن الظروف السياسية خلال الفترة التي غطاها هذا المحور، مجموعة العوامل الثالثة والمُتمِّمة لعملية الجيش الصهيوني- الإسرائيلي. فتفاعل هذه الظروف خلال فتراتها الزمنية كان استنادًا إلى زمن كل من عوامل المجموعة الأولى والثانية، وقد أدّى ارتباط المجموعات الثلاث فيما بينها إلى إتمام عملية التكوين منتجة بذلك الجيش عام 1948.

الخلاصة

توصلت الورقة إلى صحة فرضيتها المتمثلة بأن عملية تكوين الجيش الصهيوني- الإسرائيلي جاءت نتيجة  تغذية الفكر القومي للحركة الصهيونية القائم على الدين اليهودي، للتنظيمات العسكرية الصهيونية قبل 1948، فعلى الرغم من الاختلاف فيما بينها إلا أن يهوديتها شكّلت جامعًا فيما بينها قادها لتحقيق الحسم العسكري في حرب 1948 وقيام الدولة. ما دفع نحو دمج هذه التنظيمات العسكرية في إطار نظامي واحد يُسمّى الجيش. وقد تم إثبات ذلك من خلال العلاقة وتأثير الفكر القومي كمُحرك من أجل بناء أداة الدولة العسكرية، وهي الجيش، وفي سياق الورقة فإن الحديث هو عن دولة استعمارية “إسرائيل” أقيمت بالسلب والتطهير العرقي لسُكّان الأرض “الفلسطينيين” بواسطة أداتها العسكرية وهي الجيش، التي تُعد أيضًا أداةً استعمارية ما قبل تأسيس الدولة وذلك بوجودها على شاكلة تنظيمات عسكرية أدّت حرب النكبة عام 1948 إلى تفكيكها ودمجها بإطار واحد.

تجلى الفِكر القومي للحركة الصهيونية قبل عام 1948 بداخل المجتمع الصهيوني في فلسطين “المُستعمرات” كفِكر قومي يُمثل الجماعة “الأمة الاستعمارية داخل حدود فلسطين”، ففي جدلية العلاقة بين الأمة والدولة والقومية وفق تصور غلنر، فإن القوميات هي التي تولد الأمم لا العكس، والقومية باعتبارها الرابط بين الأمة والدولة، إلا أن هذا التصور في الحالة الاستعمارية الصهيونية يتمثل بالترتيب التالي: تم تأسيس فِكر قومي جامع وموحد لليهود في مُختلف أماكن وجودهم استنادًا إلى عُنصر الدين، حُوِّل هذا الفِكر إلى تطبيق ببدء تأسيس الأمة الاستعمارية في أرض فلسطين، أُنشِئت الدولة كحاضنة لهذه الأمة بعد عام 1948 مُشكلة القومية الرابط المؤسس بين الحاضنة وفاعليها.

وفي إطار الورقة وهدفها الذي سعت إلى دراسته، فإن التنظيمات العسكرية الصهيونية قبل عام 1948 شكلت الأداة العسكرية لحماية الأمة الاستعمارية التي تحمل الفِكر القومي الذي يتمحور حول عُنصر الدين اليهودي الذي شَكّل مادة الفكر القومي للحركة الصهيونية من أجل تحقيق مشروعها السياسي. والدين كمادة فكرة قومية تم التعامل معه كمخزون مولد للتنظيمات العسكرية الصهيونية التي تم تأسيسها بتعبئتها بشريًّا من يهود المُستعمرات الذين تم شحنهم بالتالي وتحفيزهم للانضمام إليها استنادًا إلى هدفهم القومي وهو تأسيس دولة اليهود. وبذات الإطار تم التعامل مع الدين كعنصر أساسي في التجنيد الإلزامي في إطار الجيش النظامي، واستخدم بشكل موازي كثقافة جمعية، وذلك لمنع بروز اختلافات بين المجندين؛ إذ لم يكن هنالك متدينين يهود، فتكون الثقافة اليهودية هي الجامعة.

وبشكل موازي لذلك، فقد تم بناء الرواية السردية الخاصة بالجيش باعتبارها جزءًا من الطقوس والمراسم من أجل متانة وحدة الجيش، بالإضافة إلى تعزيز الانتماء لدى المجندين وتحديدًا من لم يخدم عسكريًّا في التنظيمات قبل تأسيس الجيش. وتم استمداد السردية القومية للجيش من خلال سلوكه في حرب النكبة 1948 فتم تحويل “انتصارهم” إلى رواية البطولة كجزء من “نضالهم/ كيفما يرون أنفسهم” الذي حقق وأنجز “دولتـهم”. ويتسم فكرهم القومي بالعنف والإرهاب، فهذا الفكر الذي أسس تنظيمات عسكرية للدفاع عن المُستعمرات، كانت موجهة ضد الفلسطينيين، وتتبع سلوك هذه التنظيمات اتجاه الفلسطينيين خلال فترة نشأتها توضح مدى عنف الفكر الاستعماري الصهيوني.

 إضافة إلى ذلك، فهذا التتبع يُشكّل توضيحًا لإرهاب الجيش الإسرائيلي المُمارس اليوم، فهذا العنف هو تاريخي متأصل في عقيدتهم منذ بداية مشروعهم. وتاريخ تكوين مؤسسة الجيش لم تكن لتتم لولا التفاعل بين العوامل التي استعرضت في كُل قسم بالورقة، فكل مجموعة كان لها زمانها الخاص الذي تفاعلت بِه، وتفاعل حركة أزمنة المجموعات الثلاث ساهم في حركة البنية الاجتماعية الصهيونية – أي تاريخها- الذي وضح تحولها مِن مُجرد أمة استعمارية إلى دولة استعمارية تربط بينها القومية، وتم إنجاز ذلك استنادًا إلى القوة العسكرية التي وجدت في البنية الاجتماعية الصهيونية قبل الدولة، التي نمت بدورها كقوة عسكرية بفعل العوامل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وما تم تغطيته خلال هذه الورقة هي العوامل السياسية.

قائمة المصادر والمراجع

[1][42] إن استخدام ووضع كلمة “دفاع” التالية في هذه الورقة ليس تماهيًا ولا قبولًا مع التسمية الرسمية للمنظومة الاستعمارية الإسرائيلية. وإنما تم التعامل معها كتسمية “هم” وضعوها كاسم لجهازهم العسكري – الجيش- أثناء البحث في عملية تكوينه، وليس قبول لطرحهم بأنه “دفاعي”، فهو تنظيم يُمارس ويوجه سلوكه الاستعماري القائم على القتل- العنف اتجاه الفلسطينيين المُستَعمَرين. وعليه تم توضيح هذه النقطة للابتعاد عن سوء الفهم الذي قد يحدث جراء استخدام “المصطلح” خلال الورقة. بالإضافة إلى الإشارة إلى استخدام الباحثين الذين كتبوا عن الموضوع ووضعهم كلمة “دفاع”، وتم وضعها بين هلالين صغيرين “-“.

[2][43] أمر جيش “الدفاع” الإسرائيلي بتاريخ 26 مايو 1948. أرشيف جيش “الدفاع” الإسرائيلي، https://bit.ly/3kC7pTs[44]

رابط الوثيقة في الموقع: https://bit.ly/3eYbqk2[45]

*ملاحظة: قد لا تعمل الروابط المرفقة وذلك حسب المنطقة وشبكة الإنترنت التي تُفتح منها.

[3][46] وليد الخالدي، “بناء الدولة اليهودية، 1897 -1948: الأداة العسكرية”، مجلة الدراسات الفلسطينية، العدد 39، صيف 1999، الصفحتان 1-2 https://bit.ly/3pz3ef4[41]

[4][47] إيغال ألون، إنشاء وتكوين الجيش الإسرائيلي، ترجمة: عثمان سعيد، بيروت: دار العودة،1971، الصفحتان 134-135.

[5][48] إيغال ألون، إنشاء وتكوين الجيش الإسرائيلي، مصدر سابق، الصفحات 61-135.

[6][49] جوني منصور، وفادي نحاس، المؤسسة العسكرية في إسرائيل: تاريخ، واقع، استراتيجيات وتحولات، رام الله، مدار المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية، 2009، الصفحات 85-132.  

[7][50] صالح عبد الجواد، “المنظمات الصهيونية المسلحة حتى العام 1948″، مسودة ورقية غير نهائية، وزعت على طلاب ماجستير الدراسات العربية المعاصرة، في جامعة بيرزيت، (30.9.2001).

[8][51] John Louis Peeke, “Jewish-Zionist Terrorism and the Establishment of Israel.” Master’s Thesis, Naval Postgraduate School, 1977.

[9][52] Shaiel Ben Ephraim, “From strategic narrative to strategic culture: Labor Zionism and the roots of Israeli strategic culture.” Comparative Strategy, 39, no.2 (2020): 145-161. https://doi.org/10.1080/01495933.2020.1718988[37]

[10][53] Hanne Eggen Roislien, “Religion and Military Conscription: The Case of the Israel Defense Forces (IDF).” Armed Forces and Society 39, no. 2 (April 2013): 213–32. https://doi.org/10.1177/0095327X12449429[40]

[11][54] أنس محمد مسلم أبو عرقوب، منظمتا أيتسل وليحي: من النشأة إلى الاستيعاب في جيش “الدفاع” الإسرائيلي، رسالة ماجستير غير منشورة، القدس، جامعة القدس، 2012، الصفحة 14.

[12][55] لا يتماثل الزمان في بنيته وحركته، بل يختلف فيهما وعلى أساس هذا الاختلاف يتكون التتابع للبنى الاجتماعية.

[13][56] إيغال ألون، إنشاء وتكوين الجيش الإسرائيلي، مصدر سابق، الصفحتان، 62، 63.

[14][57] وليد الخالدي، “بناء الدولة اليهودية، 1897 -1948: الأداة العسكرية”، مجلة الدراسات الفلسطينية، العدد 39، صيف 1999، الصفحة 7.

 https://bit.ly/3pz3ef4[41]

[15][58] صبري جريس، تاريخ الصهيونية 1862-1948 “الجزء الثاني: الوطن القومي اليهودي في فلسطين 1918-1939″، رام الله، مركز الأبحاث، منظمة التحرير الفلسطينية، الطبعة 2، 2017، الصفحة 33.

[16][59] بيان نويهض الحوت، القيادات والمؤسسات السياسية في فلسطين 1917-1948، بيروت، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1981، الصفحة 43.

[17][60] جوني منصور، وفادي نحاس، المؤسسة العسكرية في إسرائيل: تاريخ، واقع، استراتيجيات وتحولات، مصدر سابق، الصفحة 32.

[18][61] وتسمى أيضًا بالأرغون.

[19][62] صالح عبد الجواد، المنظمات الصهيونية المسلحة حتى العام 1948، مصدر سابق، الصفحة 8.

[20][63] جوني منصور، المؤسسة العسكرية في إسرائيل…، مصدر سابق، الصفحة 52.

[21][64] صبري جريس، تاريخ الصهيونية 1862-1948، “الجزء الثاني: الوطن القومي اليهودي في فلسطين 1918-1939″، رام الله، مركز الأبحاث، منظمة التحرير الفلسطينية، الطبعة 2، 2017، الصفحات 398- 401.

[22][65] إيلان بابه، التطهير العرقي في فلسطين، بيروت، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2007، الصفحة 34

[23][66] أنس محمد مسلم أبو عرقوب، منظمتا أيتسل وليحي: من النشأة إلى الاستيعاب في جيش “الدفاع” الإسرائيلي، رسالة ماجستير غير منشورة، القدس، جامعة القدس، 2012، الصفحات 69- 82.

[24][67] John Louis Peeke, “Jewish-Zionist Terrorism and the Establishment of Israel,” (Master’s Thesis, Naval Postgraduate School, 1977),106-112

[25][68] صالح عبد الجواد، “المنظمات الصهيونية المسلحة حتى العام 1948″، مصدر سابق، الصفحتان 15و 16.

[26][69]أنس محمد مسلم أبو عرقوب، منظمتا أيتسل وليحي: من النشأة إلى الاستيعاب في جيش “الدفاع” الإسرائيلي، مصدر سابق، الصفحتان 100و 101.

[27][70]Shaiel Ben Ephraim, “From strategic narrative to strategic culture: Labor Zionism and the roots of Israeli strategic culture.” Comparative Strategy, 39, no.2 (2020),153-154

 https://doi.org/10.1080/01495933.2020.1718988[37]

[28][71] دافيد بن غوريون، يوميات الحرب: 1947-1949، ترجمة: سمير جبور، بيروت، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1993، الصفحة 258.

[29][72] صالح عبد الجواد، “المنظمات الصهيونية المسلحة حتى العام 1948″، مصدر سابق، الصفحة 21.

[30][73] دافيد بن غوريون، يوميات الحرب: مقاطع من كلمة أمام اللجنة التنفيذية الصهيونية بتاريخ 6-4-1948، ومقطع من الرد على النقاش بتاريخ 7-4، 1948، الصفحات 254- 260.

[31][74]المصدر نفسه، الصفحات  333 – 537.   

[32][75] جوني منصور، وفادي نحاس، المؤسسة العسكرية في إسرائيل: تاريخ، واقع، استراتيجيات وتحولات، مصدر سابق، الصفحات 90- 101.

[33][76] Hanne Eggen Roislien, “Religion and Military Conscription: The Case of the Israel Defense Forces (IDF).” Armed Forces and Society 39, no. 2 (April 2013),214

  https://doi.org/10.1177/0095327X12449429[40]

[34][77] Ibid, 216-219

[35][78] Shaiel Ben Ephraim, “From strategic narrative to strategic culture: Labor Zionism and the roots of Israeli strategic culture.” Comparative Strategy, 39, no.2 (2020),155

https://doi.org/10.1080/01495933.2020.1718988[37]

Endnotes:
  1. [1]: #_ftn1
  2. [2]: #_ftn2
  3. [3]: #_ftn3
  4. [4]: #_ftn4
  5. [5]: #_ftn5
  6. [6]: #_ftn6
  7. [7]: #_ftn7
  8. [8]: #_ftn8
  9. [9]: #_ftn9
  10. [10]: #_ftn10
  11. [11]: #_ftn11
  12. [12]: #_ftn12
  13. [13]: #_ftn13
  14. [14]: #_ftn14
  15. [15]: #_ftn15
  16. [16]: #_ftn16
  17. [17]: #_ftn17
  18. [18]: #_ftn18
  19. [19]: #_ftn19
  20. [20]: #_ftn20
  21. [21]: #_ftn21
  22. [22]: #_ftn22
  23. [23]: #_ftn23
  24. [24]: #_ftn24
  25. [25]: #_ftn25
  26. [26]: #_ftn26
  27. [27]: #_ftn27
  28. [28]: #_ftn28
  29. [29]: #_ftn29
  30. [30]: #_ftn30
  31. [31]: #_ftn31
  32. [32]: #_ftn32
  33. [33]: #_ftn33
  34. [34]: #_ftn34
  35. [35]: #_ftn35
  36. https://bit.ly/3fkVCIa: https://bit.ly/3fkVCIa
  37. https://doi.org/10.1080/01495933.2020.1718988: https://doi.org/10.1080/01495933.2020.1718988
  38. https://bit.ly/37dfVDZ: https://bit.ly/37dfVDZ
  39. https://bit.ly/2KzpvJH: https://bit.ly/2KzpvJH
  40. https://doi.org/10.1177/0095327X12449429: https://doi.org/10.1177/0095327X12449429
  41. https://bit.ly/3pz3ef4: https://bit.ly/3pz3ef4
  42. [1]: #_ftnref1
  43. [2]: #_ftnref2
  44. https://bit.ly/3kC7pTs: https://bit.ly/3kC7pTs
  45. https://bit.ly/3eYbqk2: https://bit.ly/3eYbqk2
  46. [3]: #_ftnref3
  47. [4]: #_ftnref4
  48. [5]: #_ftnref5
  49. [6]: #_ftnref6
  50. [7]: #_ftnref7
  51. [8]: #_ftnref8
  52. [9]: #_ftnref9
  53. [10]: #_ftnref10
  54. [11]: #_ftnref11
  55. [12]: #_ftnref12
  56. [13]: #_ftnref13
  57. [14]: #_ftnref14
  58. [15]: #_ftnref15
  59. [16]: #_ftnref16
  60. [17]: #_ftnref17
  61. [18]: #_ftnref18
  62. [19]: #_ftnref19
  63. [20]: #_ftnref20
  64. [21]: #_ftnref21
  65. [22]: #_ftnref22
  66. [23]: #_ftnref23
  67. [24]: #_ftnref24
  68. [25]: #_ftnref25
  69. [26]: #_ftnref26
  70. [27]: #_ftnref27
  71. [28]: #_ftnref28
  72. [29]: #_ftnref29
  73. [30]: #_ftnref30
  74. [31]: #_ftnref31
  75. [32]: #_ftnref32
  76. [33]: #_ftnref33
  77. [34]: #_ftnref34
  78. [35]: #_ftnref35

اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

Source URL: https://maarefhekmiya.org/16644/way/