by الشيخ شفيق جرادي | مايو 27, 2024 12:53 م
*[1]
الإشكالية المطروحة اليوم هي أن المقاومة تقيم دويلة داخل الدولة، وما هو دور الثنائي الوطني، أو كما يسميه البعض الثنائي الشيعي؟
في البداية دعونا نؤسس للفكرة نظريًّا، ثم بعد ذلك ندخل إلى التعامل مع هذا الطرح، والذي لا أعلم مدى دقته العلمية، لكن دعونا نتعامل معه وكأن لأصحابه فكرة ما؛ أي نتعامل معه باحترام.
من الطبيعي أن أي دولة تمتاز بحدود جغرافية، وبشعب ضمن هذه الحدود هم المواطنون، وبمؤسسات، وأن يترأس هذه الدولة سلطات ثلاث: السلطة التنفيذية، والسلطة التشريعية، والسلطة القانونية. ومن المتعارف عليه أن يبقى على رأس هذه الدولة قوانين تنظّم العلاقة بين السلطات الثلاث، وبين رأس الدولة بما هو ممكن أن يكون رئيسًا للدولة، أو ممكن أن يكون أميرًا أو وليًّا للعهد، أو ممكن أن يكون ملكًا. على أي حال، مع الاختلافات التي يمكن أن تحصل في التسميات.
ومن الطبيعي أن القانون يجب أن يراعي هذه القوانين التي هي الأصل في العلاقة ما بين السلطات الحاكمة والشعب عبر جملة من الإدارات التي تخدم كافة أطياف الشعب.
سأنتقل الآن إلى مرحلة مقاربة حزب الله لهذه الفكرة؛ الدولة ووظيفتها بأن تكون خادمة لهذا الشعب، وأن تسن القوانين، وأن تقوم المؤسسات بما يلزم لتأمين احتياجات ناسها ومواطنيها بطريقة متساوية وعادلة، وبطريقة تحفظ وتحمي وتحفّز على التطور؛ تطور الأفراد إذا كانوا متميزين وأصحاب اختراعات، وأصحاب عبقرية معينة، وعلماء، وأصحاب كفاءات، وأن تراعي فيهم هذه الكفاءات. وحينما لا تقوم الدولة بمثل هذا العمل وتسعى ليكون الشعب في خدمتها تدخل في مرحلة ديكتاتورية الدولة، أو فساد الدولة؛ أي إما أن يكون هناك من يريد كل شيء لنفسه، بالتالي هو ديكتاتور جدي، أو أنه لا يريد ذلك، بل يريد أن يسعى إلى الفوضى والفساد حتى يستطيع أن يؤمّن لنفسه كل المستلزمات وذلك بفرض الضرائب على الناس، وبفرض قوانين ومراسيم عليهم ويعفي نفسه منها، يتسلل منها ويحتفظ لنفسه فيها، ويحصّن نفسه بجملة من القوانين وقواعد العلاقات.
في واقع الأمر، إذا أردنا أن ننظر إلى الدولة اللبنانية، فإنها قد تأسست على الميثاق الذي قام بين شخصين باعتبار لفظي، وأظن أنه إلى الآن لم يدوّن؛ لأن الأصل فيه هو هذا التعهد الذي حصل بين طرفين: بين رئيس وزراء معني عن الأمور التنفيذية، وبين رئيس الدولة آنذاك، واتفقوا على أن ينظموا الشأن العام لهذه الدولة، وأن يكون هناك تعبير عن العلاقة مع الجوار العربي، وامتدادات غربية؛ لأن بعض الأطراف في لبنان تعتبر أن لبنان سيحرم من الغنى إذا لم نوافق على الامتداد، خاصة في المنطقة البحرية التي تمتد من لبنان إلى أوروبا. وحصل هذا التثبيت وعبّروا عن علاقات الشعب فيما بينهم وما بين الدولة بتعبيرات أخذت بالأول طابعًا رمزيًّا، ثم فيما بعد حفرت عميقًا في تركيبة لبنان؛ أن الطوائف في لبنان ينبغي أن تكون ممثلة بناسها، وبالتالي هؤلاء الناس هم الشعب. إذًا، الطائفة في اعتبارهم كانت هي الوسيط ما بين الدولة، وما بين أفراد الشعب، بل وعموم الشعب. حتى الأحزاب التي أُنشئت، وهذا يجب أن يكون في الحسبان جيدًا، لطالما كانت تنشأ بذهنية تنسجم مع الحداثة التي تجتاح العالم. ولتمارس هذه الأحزاب دورة عملها المجتمعي، وأن يكون عندها تمثيلها بالبرلمان أو بالإدارات أو بالوزارات، وأن تعمل بفعل الحداثة، عليها أن تتجاوز بُعد الطوائف، وأن تكون ممتدة إلى بقية الطوائف. هكذا بدأ اليسار وبعض اليمين. من اليمين مثلًا نأخذ نموذج بيار الجميل الجد، ولنأخد نموذج كميل شمعون أيضًا الذي كان لحزب الكتائب وحزب الوطنيين الأحرار انتشار يتجاوز حدود الطائفة، وكان له أوساط مع بقية الطوائف. كمال جنبلاط مثلًا أول ما بدأ بذهنية أن هذا الحزب علماني، وينبغي أن يراعى حتى بالمؤسسين فيه هذا الامتداد الوطني للمنتمين إلى الفكرة لا إلى الطائفة، وللحزب التقدمي الاشتراكي. وبالمناسبة هناك جملة من الأحزاب التي تأسست بفعل التيارات العالمية مثل النزعة القومية للأحزاب القومية؛ النزعة القومية العربية لأحزاب لها هذا الطابع، ولن أدخل بالأسماء، أيضًا كان هناك نزعة دولية، على سبيل المثال الحزب الشيوعي، وتقسيمات الحزب الشيوعي.
بعد ذلك تبين أن الأحزاب تتعامل مع هذا الواقع بشكل أو بآخر، ولسبب أو لآخر على غير معايير الحداثة التي تلحظ المواطنة. تتعامل وفق فكرة قائمة على مركزية الطائفة التي ينتمي إليها رئيس الحزب. وحزب الوطنيين الأحرار وحزب الكتائب، بالأصل هم تعبير عن المارونية، له بعض الامتداد المسيحي، ويمكن أن يلتحق فيه من يلتحق فيه، وكذلك الحزب التقدمي الاشتراكي كما تعلمون جميعًا.
وحتى لا نفصّل تاريخيًّا كثيرًا، فقد خفتت الأحزاب ذات النزعة القومية مع سقوط التصاعد القومي، أيضًا خفت الحزب الشيوعي وبعض فصائله بشكل كبير بسبب المعادلات التي حصلت، ولم يلق استجابة واسعة بمعنى التركيبة الطائفية التي تنفد على التذرع بالجانب الديني في مواجهة هذه التيارات وهذه الحالات. بقي أن العناصر الفعلية الحاضرة هي التي تحمل سمة الطائفة، ليكون بالواقع أن الحزب الفعلي لأي من هذه الأحزاب هو الطائفة. بمعنى لم نعد أمام تركيبة حداثوية يسمونها علمانية، إنما نحن أمام تركيبة طائفية. قد تراعي الامتداد في نصوصها الأساسية وفي أعمالها التأسيسية، لكنها وصلت إلى التحصّن في الطائفة.
وبدأ كل حزب من هذه الأحزاب، وكل طائفة من هذه الطوائف يستفيدون من جانبهم الطائفي لمعالجة شأن الدولة. وهذا الأمر وصل حتى في التسميات، مثلًا الموارنة لهم رئاسة الجمهورية، وإن كنت لا أعلم إذا يوجد بالدستور أو بالقانون هكذا أمر، السنّة لهم رئاسة الوزراء، والشيعة لهم المجلس النيابي. ويبدأ توزيع الحصص على وِفق كم لهذه الطائفة بقيادة الجيش، وبالإدارة الفلانية والفلانية. إذًا، الطبخة كلها طبخة طوائف. ولإيجاد صيغة نظرية للجمع بين الطوائف ركّبوا تركيبة هجينة عجيبة غريبة اسمها الديمقراطية التوافقية؛ أي هناك ديمقراطية، وهناك حرية، لكن بين الطوائف، وفي مسار هذه الطوائف، وأصبحوا يتعاملون على هذا الأساس.
بناءً عليه، فلنقدّر أولًا أن الدولة بالمعنى الحديث للكلمة لم تأت إلى لبنان، ولم تهلّ في لبنان، ولم تظهر حينها في لبنان، بل عادت إلى جذور تحمل طابع الطائفة، ونظّر لها من نظّر لإيجاد علاقة ما بين الطائفة والدين. ودعوني أقول لكم وجهة نظرنا، بأنه لا علاقة للطائفة كطائفة بالدين. مفهوم الطائفة مختلف تمامًا عن مفهوم الدين. لكنهم ذهبوا ليقولوا: إن الدين هو فكرة مجردة على الطريقة العلمانية، وحتى يقف هذا الدين على قدميه، وكيف يتمثل هذا الدين على الأرض؟ وكيف يصبح وجودًا على الأرض؟ اعتبروا من خلال الطائفة. أيضًا تشبيه هجين لا يشبه الأديان بشيء في الحقيقة.
إذًا، هل لدينا دولة حديثة في لبنان؟ بتقديرنا الشخصي لم نستطع أن نشكّل دولة حديثة في لبنان.
كيف تم التعامل مع الطوائف؟ بالمسار الذي مر، وبالأمور التي مرت، وبكل صراحة دعونا نقول: إن الطوائف تقاسمت بشكل أساسي بين الثنائي، وحاليًّا عندما يعبرون عن مخاوفهم يقولون الشيعة يريدون الثلاثي. الثنائي؛ أي مسيحيين وسنّة. واستطاع الدرزي أن يفرض نفسه كوجود حاضر بسبب حضوره التاريخي بشكل معين، وبفعل ما استطاع أن يقوم به خاصة بالحرب الأهلية، وعبّر عن نفسه كبيضة قبّان؛ يعني إذا صار هناك توازن مع الطرف الثاني يأتي هو حتى يستثمر ذلك؛ أي إنه يملأ المكان، ويُوزن مع هذه الجهة دون تلك، ليضعِّف الجهة الأخرى. من هنا أخذ مدخليته.
الشيعة في لبنان، فيما كنا نلحظ، أنه منذ بداية تأسيسهم، كان هناك مقولة عند أحد الزعماء السياسيين الكبار في لبنان، بأن استثمار الشيعة بأي مجابهة مع بقية الطوائف، هو استثمار للمقاتل الشيعي أو للصوت الشيعي. وبالقتال ضرب المثل (الشعبي): “طالما في ناس عم تخبز لك وبتحرق أصابيعها فإنت شو صاير عليك لحتى تفوت عالمجمرة، كول خبز”. بتعبيرات أخرى، نحن نحتاج سواء عند كثير من الأحزاب، أو الطوائف إلى زيادة عددية، وأن الزيادة العددية يمكن توفيرها مع الشيعة. وبعضهم كان يعبّر أنهم بمثابة أكياس رمل نحتمي بهم، وأنتم تعرفون بالحرب الأهلية؛ أكياس الرمل كانت تعني السواتر.
إذًا، منشأ هذا الأمر، أن التعاطي مع الطائفة الشيعية كان بإيجاد قطيعة مع الذاكرة، ليس فقط الذاكرة البعيدة، بل حتى الذاكرة القريبة، وذلك بتحويل أي عمل مقاوم، مثل أدهم خنجر أو الثائر البقاعي أبو علي ملحم قاسم المصري وغيرهم، وكأنهم قطّاع طرق لم يؤسسوا لفعل مقاوم، وهذا يحتاج منا إلى العودة للتاريخ لمعرفة دورهم، وبالتالي أن نتواصل مع هذه الذاكرة المقاومة. وأن العلم والفهم إلى آخره في لبنان في طائفة أولى، وفي بعض الطوائف الأخرى بأسمائها وبأرقامها، وأما البقية، يعني بكل بساطة نحن وبعض الطوائف الأخرى لا يوجد لدينا شيء. وهنا بتروا وأوجدوا قطيعة عن أهم حلقة ليست بعيدة كثيرًا، قبل السيد موسى، ومع السيد المرجع عبد الحسين شرف الدين الذي كان له دوره السياسي المعروف وتداخلاته السياسية المعروفة، في الوقت الذي كان مرجعية دينية للشيعة، أو السيد محسن الأمين كان أيضًا مرجعية دينية للشيعة. وعلمية السيد محسن الأمين وما أدراك ما السيد محسن الأمين، بل أطفأوا حتى تأسيس الشعائر الخاصة بالشيعة التي كانت متصلة بمنطقة جغرافية محددة، تحديدًا في النبطية من خلال قامة علمية كبيرة هي الشيخ عبد الحسين صادق الجد، وليس الحفيد الموجود حاليًّا، والذي ارتبط اسم حسينية النبطية بهذا الشيخ العالم الفاضل. أيضًا نتكلم عن آل إبراهيم ودورهم العلمي، والشيخ حبيب آل المهاجر، وآل شرارة وغيرهم. إذًا كانت المسألة في هذه الدائرة، وصارت القطيعة.
أيضًا كان هناك بالإعلام وبالصحافة وجوهًا إعلامية وثقافية وفكرية وغيرها كبيرة بهذا البلد، لكن حتى على مستوى العالم العربي وجدت هذه القطيعة.
وعلى المستوى المجتمعي صارت مناطقنا هي عبارة عن ثلاث أو أربع مناطق، إما الجنوب أو البقاع، والبعض منهم موجودين في جبيل وكسروان وأحزمة الحرمان التي هي الضاحية الجنوبية، وبعض المناطق الأخرى مثل منطقة النبعة وغيرها من أحزمة الحرمان. هنا تولّد عند الشخصية الشيعية إحساس عميق بالغبن؛ غبن حقيقي. بل أكاد أقول: إحساس بعدم الانتماء إلى الدولة التي لا يستفيد منها، لدرجة صار ممكنًا مثلًا الآن إذا دخلتم إلى بعض المدارس القديمة وسألت تلميذًا من رئيس دولتك؟ ممكن أن يقول لك جمال عبد الناصر، لا يقول إنه فلان؛ لأنهم لم يسمحوا له بأن ينتمي إلى البلد؛ أي كان متعمّدًا أن لا ينتمي إلى بلده وإلى إحساسه الوطني. وصارت الانتماءات ليست للدولة بمقدار ما هي للمناطق، مثلًا أنا ابن البقاع، أنا ابن الجنوب. وأحيانًا أوجدوا أزمات وشروخ مناطقية عميقة ليس بفعل ابن الجنوب، ولا بفعل ابن البقاع.
ثم يأتي دور سماحة الإمام المغيب السيد موسى الصدر ليقدم نموذج حركة المحرومين، ومن فترة قرأت شيئًا للأستاذ كريم بقردوني يقول: إنه كان يتدخل في بعض النصوص التي كتبت بميثاق حركة المحرومين. وأنا سمعت بشكل شخصي من المطران الأرثوذكسي جورج خضر أن السيد موسى الصدر كان يأتي إليه في بعض الأحيان ويختلي بنفسه، وكانوا يتناقشون بكثير من الأفكار أثناء صياغته لهذا الميثاق.
والجميع يعلم أن السيد موسى الصدر طرح صيغة للمجالس الشرعية تحت عنوان: المجلس الإسلامي. بعد ذلك علم سماحته أن أحدًا آخر قد أسّس المجلس الإسلامي على طريقته، ولم يلحظ دور الشيعة، مما اضطره أن ينشئ المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى. بعدها رفع شعار الحرمان ورفع الحرمان، وأسس حركة المحرومين التي فيما بعد صار اسمها “أفواج المقاومة اللبنانية أمل”. أفواج “ألف”، المقاومة “ميم”، واللبنانية “اللام” (أمل) تعبير عنها. وقامت الدنيا ولم تقعد، لكن بقامته العالية أولًا استطاع أن يخترق النسيج الطائفي ليكون حاضرًا بين بقية الطوائف وبقوة. وثانيًا افتعلوا معه نوعين من المشاكل: نوع مع الإقطاع آنذاك، مع الذين تعرفونهم، ونوع مع البعد الديني، بحيث إنه كانت تموّل بعض الجهات الدينية حتى يكثر عدد العمائم، أي إنهم كانوا يضعون للناس عمائم، كي يدخلونهم على المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى وليأخذوا حصة الرئاسة، ولا يكون الرئيس هو السيد موسى. طبعًا لنكون موضوعيين، من حيث الشطارة لا يمكنهم أن يتشاطروا على شخصية مثل شخصية السيد موسى، ففشلت كل خططهم، وبدأ تصاعد حركة أمل مع السيد موسى الصدر للدخول إلى لبنان بعنوان كوننا لبنانيون. وبدأت نظريات أن لبنان هو وطن نهائي لجميع أبنائه، وهذه المقولة لعلماء شيعة مثل الشيخ محمد مهدي شمس الدين أحد أهم مطلقيها (رحمة الله عليه)، والسيد محمد حسين فضل الله (رض) كان له باع طويل في هذا الحضور أيضًا. إلى أن تأسس شيء بعد الاجتياح، والذي أتى بهذا الاجتياح هو قسم ممن يحسبون على اللبنانيين، وبفعل مجيئهم به، وبفعل تعاونهم معه أصبح هناك شيء اسمه “حزب الله”.
فإذا أردتم أن تبحثوا من أين أتى حزب الله؟ هناك بُعدين:
البعد الإيجابي: أتى حزب الله من دعم إيراني إسلامي لإنشاء مقاومة في لبنان تعبّر عن الطموح الذي لدى الشيعة برفع الغبن وبرفع الاحتلال.
والبعد السلبي: أتى بفعل ردة فعل؛ وهذا هو الإطار السلبي الذي هو أصل الاجتياح، وأن بعض اللبنانيين هم من استدعوا مثل هذا الاجتياح؛ لأنهم كانوا يريدون أن تصبح الدولة بتركيبة جديدة مختلفة عما كانت عليه تاريخيًّا. أنشأوا دويلتهم الفعلية، واستعراضاتهم العسكرية التي لا ينساها أحد، وأيضًا أعمالهم التي لا أحد ينساها، ثم قتلهم حتى لأبناء طائفتهم، ليوحدوا قواهم العسكرية تحت هذا العنوان، والذي لا أحد ينساه. هذا بالأفق العام.
إذًا، ما الذي نريده من لبنان؟ نريد لبنان أن يكون دولة لكل مواطنيه، فيه المسلم وفيه المسيحي، ولن نسمح أن نكون مغبونين في مثل هذه الدولة، وهذا حقنا؛ هذا حراك على الإطار السياسي والاستراتيجي. وأننا سنبقى نقاتل عوامل إنهاء لبنان التي إما تكون بفعل حرب أهلية، أو أن تكون بفعل اجتياح. وأن هذا السلاح يتوجه بالدرجة الأساس لمنع أي عدوان على لبنان، بل لحفظ استقلالية لبنان، وأن يكون قادرًا، ولإيجاد العدالة في لبنان. بالتالي، قد تم طرح ثلاثة أمور: دولة مستقلة، قادرة، وعادلة. أن يكون عادلًا فلا تأكل طائفة أي طائفة أخرى، بل أن نعيد النصاب إلى البعد الوطني، مع الحفاظ على كل الخصوصيات التي أساسًا أسسها السيد موسى الصدر عندما قال: إن الطوائف هي غنى، لكن الطائفية هي الجرثومة التي يمكن أن تبتلع وأن تقتل كل شيء.
وهذا السلاح من المؤكد، والكل يعلم، أنه إلى الآن ولولا وجوده، هناك جهات في لبنان لكانت أعادت مناخ الحرب الأهلية منذ أن انتهت الحرب الأهلية لأكثر من مرة ومرة في الأجواء اللبنانية، والتي نتمنى أن لا تعود إلى غير رجعة.
سنتكلم الآن بشكل سريع عن بعض الأمور:
يعبّر حزب الله عن دوره كحراك مجتمعي ناشط؛ لأن الدولة بهذا المستوى من التفكك والاهتراء لا تخدم شعبها. على الأقل يقدّم إلى المواطنين الذين يمكن له أن يتواصل معهم، ويقبلوا بأن يتواصل معهم، الإمكانيات التي يستطيع هو أن يوفرها، فهذا اسمه حراك مجتمعي.
إذًا، لماذا لا نسميه دويلة؟ لأنه في الحقيقة، النص السياسي، والسلوك السياسي في هذه الدولة يشي بأنه لا يبتغي إقامة دويلة: أولًا، هو لا يبتغي الدولة على طبق من فضة، نحن لا نريدها؛ لأن الشرط عند الفقه الشيعي لإقامة دولة وفق نهج الإمام هو إرادة الناس، ومشروعية أي دولة تكون بإرادة الناس. إذا وصل الناس إلى الإلحاح وأنه لا سبيل إلّا أن تحكموا، حينها يتم الحكم باسم الإسلام، دون ذلك لا جواز لإقامة مثل هذه الدولة. وتجربة الجمهورية الإسلامية بإيران ماثلة، فعندما اجتاحت الناس الشوارع، أصبح هناك ضرورة أن يحكم الولي الفقيه. كم مرة طلبوا من الإمام علي (ع) أن يحكم، وعندما وافق، قال لهم لأنكم أنتم طلبتم مني ذلك، وألقيتم علي الحجة بأن أستلم الحكم.. إذًا، إرادة الناس هي الأصل. ثانيًا: في فقهنا بأن مراعاة القوانين والإجراءات التي تتخذ في أي قانون لدولة من الدول واجب شرعي. بالتالي إذا أخطأ بعض الناس فهذه مشكلتهم. مثلًا تقول لأحدهم أن الكذب حرام، وعند انتهائه من الصلاة كذب كذبة، هذا ما علاقته بالدين؟ هذا له علاقة بطبيعة الشخص بأنه كاذب. بالتالي يجب مراعاة القوانين والإجراءات؛ مراعاة أمر الكهرباء، الماء، الإشارة الحمراء، وغيرها. فعلى المستوى الشرعي بفتوى الإمام الخامنئي يجب عليك أن تلتزم بهذه الضوابط والقوانين، وإلّا لا يجوز لك تخطّي هذه القوانين حتى لو لم يكن معك أحد.
مثلًا بعد عام 2000 ألم يكن بإمكان حزب الله أن يتصدى لمسألة ترسيم الحدود وعلى طريقته؟ لكنه صرّح بأن ما تحدده الدولة اللبنانية هو يلتزم بالدفاع عنه لتحريره. وإلا عمق قناعة حزب الله بأن القرى السبع هي لبنانية، لكن الدولة اللبنانية إذا لم تصرّح بذلك لا يمكنه هو أن يتصدى. لكنه حتى هذه الحجة لم يتمترس بها، فهو أعاد الأمر إلى قوى الدولة، وصرّح بأنه خلف الدولة.
أود الإشارة إلى نقطة مفادها: الجميع يعلم أن السيد حسن نصر الله شخصيًّا إذا قال للإيراني الآن أنشئوا لي مفاعلًا نوويًّا في لبنان، فإيران مستعدة فورًا أن تنشئ له مفاعلًا نوويًّا في لبنان.
وعندما قال السيد حسن بالتوجه شرقًا وعرض الخدمات الإيرانية وتفعيلها، لم تقبل الدولة، لكن أمر المازوت كان استثناءً، لأن الأمور وصلت إلى ما وصلت إليه، لكنه لم يُفعِّل مثلًا مسألة الكهرباء داخل المناطق سواء بالبقاع أو بالجنوب أو بالضاحية؛ لأن في هذا تحدٍّ لحق الدولة على أرضها. لكن في نفس الوقت حينما تتحرك على المستوى الاجتماعي، لا ينتظر الجائع أن تستفيق الدولة من فسادها الذي دخل في نفوس كثير ممن هم فيها، حتى تمنوا طاعة الرزق. هنا لن ينتظر ليأمنوا الأكل والشرب ومستلزمات الحياة التي يمكن لك أن تؤمنها كقوى مدنية، وضمن دائرة المجتمع الذي يتفاعل معك، وأن تقدم لهم ما أمكنك؛ من طبابة، من أكل، من شرب، وغيرها من مستلزمات حياتية. بالتالي هذا المجال مفتوح لكل الناس.
إذًا، ماذا نفعل إذا بقية الطوائف وزعمائها؛ الزعماء الذين لا يقاتلون إلا إذا كان هناك كلام عن منصب وكرسي ورئاسة وزعامة، ويريدون الناس لهم، وليسوا هم للناس؟ ماذا نفعل إذا تركيبة زعاماتكم مهترئة لهذه الدرجة؟ وإلا كل هذه الأمور التي يقوم بها الآن حزب الله في بيئته، أنتم قادرون أن تقوموا بها أيضًا. المشكلة عندكم، وليست عند أحد آخر.
وكل هذا الوفاق الذي يوجد حتى الآن في الوسط الشيعي الموحّد (الحمد لله)، وسيبقى كذلك (بإذن الله)، يمكن لكم أن تقوموا به. لكنك أنت “تحسبهم جميعًا وقلوبهم شتى”. المشكلة عندكم، وليست عند حزب الله، ولا عند الشيعة.
بالتالي، هذا فهمنا للدولة، بل انطلاقًا من البيان الوزاري رافع الشعار: حزب الله بحفظ السلاح والقتال، بل حتى فتح الجبهة؛ لأنه عندما يقول بالبيان الوزاري عن هذا الثلاثي الذهبي: “جيش ومقاومة وشعب”، الحزب ملتزم بالبيان الوزاري، وهو يؤدي خدمته بهذا المجال، ويقوم بما لا يمكن للدولة أن تقوم به، بل هو من يتصدى له.
المسألة إذًا، ليست مسألة دويلة، ولا في ذهنه هذا الأمر أصلًا. كثيرون يأخذون على حزب الله أنه طالما أنت لهذه الدرجة صاحب سلطة، لماذا لا تتدخل بتفاصيل التفاصيل؟ إذا حزب الله لا يتدخل بتفاصيل التفاصيل وقلتم عنه إنه يريد الدولة، ويريد أن يمسك الدولة. فكيف لو تدخل؟ رغم ذلك هو مقرر من الأساس أنه بالمقدار الذي يمكن أن يقوم به دون أن يحرج أحدًا سيقوم به. والباقي يتصدى به في المعركة.
وبدليل شيعي بحت أيضًا، أنه حتى في التفاوضات التي تأخذ الصفة الرسمية للدولة كمقاومة، يعتبر حزب الله أن هذه المقاومة العسكرية الميدانية يؤديها كمقاومة إسلامية، وأن الذي يمثل هذه المقاومة السياسية في مواجهة الاتصالات أو في التصدي لموضوع الاتصالات والمباحثات، وحيثية الدولة هو الأستاذ نبيه بري، باعتباره بكل صراحة رئيسًا في حركة أمل، والأمر الأساس أيضًا رئيس مجلس النواب. فحتى في هذا المستوى من يريد دويلة لا يتصرف بمثل هذا المسلك.
إن من يظن إمكانية وجود دولة من دون حراك مجتمعي فاعل، فهو مهووس. الذي نقوم به كشيعة هو الأصل، ونحن نجبر ما انكسر من الدولة نفسها، ولسنا بديلًا عنها. فالمحل الذي تقصر فيه الدولة نحن نعمل على سده، ولا مرة شكونا وقلنا أين هي الدولة؟ أبدًا. ففي الأماكن التي تعجز فيها الدولة، ويمكن أن نقوم به، فنحن نتصدى لذلك. وإذا أرادت أن تأخذ هذا الدور فأهلًا وسهلًا، والسيد حسن قالها أكثر من مرة. وحتى بموضوع التصدي للإسرائيلي، عندما تصبحون قادرين فأنتم تخففون عنا. لكن اثبتوا لنا أنكم قادرين. أصلًا اثبتوا لنا أنكم مستعدون لذلك.
أختم وأقول: هل يوجد اليوم كنتونات في لبنان أو لا؟ اذهبوا وابحثوا في السفارة الأمريكية، ومن يتواصل مع السفارة الأمريكية، لنرى أين هم أصحاب الكانتونات. بكل صراحة مع احترامي وتقديري للسفارة الإيرانية والسفير، أو السفراء الإيرانيين، فهم مُلزمون بمراعاة كونهم في دولة محترمة. وبكل صراحة، فيما يتعلق بالعمل المجتمعي إذا لم ينسقوا مع القوى التي تتفاعل معهم لا يحق لهم حتى أن يصدروا بيان بالخصوصية اللبنانية، إلى هذا المستوى. لكن بالطرف المقابل فليذهبوا ويشاهدوا، هل يستطيعون تعيين مدير عام أو قائد جيش أو أو أو إلى آخره إذا لا يوجد إمضاء من السفارة الأمريكية؟ هل يستطيعون أن يفتحوا على هذا البعد الغربي الذي يتكلمون عنه، أو حتى البعد العربي إذا لم تمض لهم الولايات المتحدة الأمريكية؟
إن الذي يدافع عن لبنان كي لا يتحول إلى دويلات هم الشيعة، وكل الأحرار في بقية الطوائف بدون أدنى شك، وليس مجاملة أيضًا، والذين وحّدوا قرارهم مع إرادة الشيعة في هذا الشأن على الأقل، ومهما اختلفوا مع الشيعة بكثير من المسائل.
لا لسنا دويلة. قولوا ما شئتم. نحن حراك مجتمعي، وحركة مقاومة تريد أن تؤسس استقلالًا فعليًّا لهذا البلد، وتريد أن تؤسس أيضًا اقتدارًا فعليًّا وعدالة في التفاعل المواطني بين الدولة والمواطنين.
*[2] محاضرة مفرغة ألقاها سماحة الشيخ شفيق جرادي في الحوار المفتوح عبر مساحة X بتاريخ 3/4/2024.
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
Source URL: https://maarefhekmiya.org/16696/state/
Copyright ©2024 معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية unless otherwise noted.