التجليات الأخلاقية في المشهد العاشورائي
التجلي الأخلاقي في الثورة الحسينية
التجلي في اللغة هو الوضوح والكشف والظهور، كما جاء في سورة الأعراف، الآية 143 ﴿فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا﴾؛ أي إن الله تعالى تجلّى وظهر فوق جبل الطور، والتجلّي الإنساني أخذ بعضًا من التجلّي الإلهي، وهو ما يظهر في مسير الإمام الحسين (ع) إلى أرض كربلاء، لا تآمر ولا سرية فيها، خرج يوم 8 ذو الحجة، وتمهل في مسيرته المقدّسة لكي يلحق من يلحق بعد أداء الحج، وقال قولته: “من لحق بنا قُتل ومن تخلف لم يدرك الفتح”، وما نفهم من عبارة سيد الشهداء بالفتح هو التجلّي الأخلاقي منه كمعصوم إلى باقي الأمة ليدرك من يريد حكمة خروج سيد الشهداء.
وقبلها لا بدّ من التأكيد على القيم الأخرى التي ترتبط بالقيم الأخلاقية، فقد التزم الحسين بالعهد، أي الصلح الذي كان بين أخيه الإمام الحسن (ع) ومعاوية، يومها، وبعد استشهاد الإمام الحسن، اتجهت الجماهير إلى الحسين (ع) تطالبه بخلع معاوية، واستلامه الحكم.. ولكن الحسين ردّ بالرفض، والسبب أن بين الإمام الحسن ومعاوية عهدًا، وهو عهد الصلح، وسيظلّ قائمًا ما دام معاوية حيًّا. فلماذا إذًا لم يخرج الحسين على معاوية، وكان لا يفصل بين الأخلاق والسياسة، كان يرى الوفاء بالعهد مسؤولية، ﴿إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً﴾ لا يتجزأ[1].
عندما انطلق الإمام الحسين (ع) لمواجهة الحاكم، وبالرغم من موقعه كإمام وحفيد رسول الله (ص)، فإنه لم يستخدم كل هذا الرصيد الديني الذي يملكه في نفوس الناس لإسقاطه، إنما حدّد مشكلته بوضوح عندما قال: إن صفات يزيد وعلاقاته لا تؤهله لقيادة أمر المسلمين… الحسين (ع) لم يصف يزيد بأنه رجل كافر، وعندما أعلن حُكمه (مثلي لا يبايع مثله)، كان حكمًا سياسيًّا له بُعد أخلاقي، والصفات التي أوردها عن يزيد، لا تؤهله لأن يكون حاكمًا في أي بلد، فكيف إذا كان هذا البلد إسلاميًّا.
والأخلاق في ثورة الحسين تجلَّت في شفافية دعوته ووضوحه وعدم مواربتها، فالحسين منذ خروجه من المدينة، حدَّد في وصيته أهداف نهضته: طلب الإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الأخلاق الثورية والسياسية والإنسانية
والحسين لم يُخفِ وراء الستار أهدافًا أخرى لنهضته، ليعلنها فيما بعد، أو يعمل على تحقيقها في السر، كان صادقًا وواضحًا مع المسلمين، ومع الذين يخرج عليهم.
وعلى امتداد رحلته من المدينة إلى كربلاء، كان ركبه يزداد عددًا ويتناقص، بحسب خيارات الملتحقين به وأهدافهم، ولكن الحسين لم يخادع ولم يناور لكسب المزيد من الأنصار بالإكثار من الوعود الوردية بالمناصب والمكاسب، بل نراه بعد استشهاد سفيره في الكوفة، يقول لأصحابه: “فمن أحب منكم الانصراف فلينصرف ليس عليه منا ذمام”.
هذه هي بعض أخلاق ثورة الحسين، هي الصّفاء والطّهر التي ميّزتها وأعطتها هذا البُعد الإنساني.. ففي هذه الثورة، لم يكن هناك فصل بين الأخلاق والسّياسة، فالفصل بين الأخلاق والسياسة لا مكان له في حياة الحسين وقراراته، وهذا ما ميَّز ثورة الحسين (ع)، وهو أنها لم تكن حركة مطلبية أو إصلاحية أو ثورية فاقدة للقيم وللروح، هي هذا الكلّ المتكامل، فلا يمكن أن نأخذ عاشوراء تضحية وشهادة من دون العلاقة بالله أو الصّلاة التي حصلت في العاشر، أو الأخلاق أو القيم التي حكمت أصحاب الحسين.
الروح الكربلائية… عدم خيانة الوسيلة وعدم التآمر
تميزت نهضة سيد الشهداء (ع)، بعدة سمات أخلاقية تشير إلى عمق الإيمان وسمو الذات في سبيل الله سبحانه وتعالى، فقد تنوعت دلالات ثورة عاشوراء بتنوع الرسائل التي أراد الإمام (ع) إرسالها إلى الأجيال، حيث كانت القضية المركزية عند الإمام (ع)، هي القضية الأخلاقية؛ لأن من لا أخلاق له لا دين له، ولذلك ما كان للإمام الحسين (ع) أن ينطلق لطلب الإصلاح في أمة جده رسول الله (ص)، إلا من خلال تثبيت دعائم الأخلاق السامية، التي برزت بشكل واضح وجلي في كل مفاصل الثورة الحسينية، فبالإضافة إلى كون عاشوراء ثورة للحرية والخلاص من الظلم، فهي أيضًا ثورة للتربية الروحية والأخلاقية وبناء الذات، ففي كربلاء رُسِمت مجموعة من الصور شكلت مع بعضها لوحة إيمانية اسمها عاشوراء الحسين، لعل صورة الحزن طغت على الصور الأخرى، لشدة هول المصيبة وما قام به أعداء الله، إلا أن ذلك لا ينفي وجود سمات ودلالات أخرى ينبغي البحث عنها وإظهارها إلى العالمين[2].
في كل الأحوال لم يحدث أن خان الإمام الوسيلة أو لجأ إلى الدهاء المذموم مثل الذي قال فيه الإمام علي (ع) “والله إن معاوية ما هو بأدهي مني، إنه يغدر ويفجر ولولا كراهية الغدر لكنت أدهى الناس”[3].
التعامل الحسيني مع الله
في غمرة الحرب وهو يتمسك بتعاليم الله سبحانه، لم يترك فرضًا من فروضه إلا وأدّاه بأفضل صورة وأتم وجه، وفي ذلك رسالة أخلاقية كبيرة، فبينما يخوض أبو عبد الله الحسين، (ع)، الجهاد المقدس ضد أعداء الله والدين، وحيث المعركة محتدمة بالسيوف والرماح والنبال، نلاحظ أنه لا يترك الصلاة، ويدعو لمن أشار إليه بحلول وقت صلاة الظهر، بأن “جعلك الله من المصلين”.
التعامل الحسيني مع نفسه الشريفة وأصحابه
كان الإمام حريصًا على نفسه لأنها أمانة الله عنده، من خلال حرصه على أن لا يعرّضها للذل والهوان، حتى قال قولته المشهورة: هيهات منا الذلة، وكان يؤكد سمو نفسه ورفعتها في تمسكه بالحق والوقوف بوجه الباطل. لا يعني ذلك رمي النفس في التهلكة، كما يحلو للبعض أن يصور القضية بهذه الصورة المقلوبة لثورة الإمام المباركة، فإن الحفاظ على النفس واجب مقدس ومن مقاصد الإسلام، والإضرار بالنفس محرّم في الشريعة الإسلامية، بل يمكن القول: إن خوض الإمام الحسين (ع)، الحرب ضد تلك الفئة الضالة، يعد دليلًا ساطعًا على اهتمام الإمام بالإنسان، بما يحمل من كرامة ومشاعر وضمير، ولا أدل على ذلك من سحق هذه المفردات الإنسانية من قبل ابن زياد في تعامله مع أهل الكوفة، بل وعموم النظام الأموي مع المسلمين كافة، وما جرى لهم من استعباد وإذلال لم يشهدوه من قبل، فقد سيق الجميع إلى حرب الإمام الحسين (ع)، بتهديد السلاح والموت.
وكان تعامل الإمام (ع) مع أصحابه صورة مقدسة من السمو الروحاني والتجلي النبوي، فهو القدوة والمثل الأعلى وسيرتهم العطرة تفوح من المشهد الكربلائي على مر الزمان، يرجع إليها من أراد الاستزادة من النبل الحسيني.
التعامل الأخلاقي الحسيني مع أعدائه
تعامل الإمام الحسين مع أعدائه من الجنود والقيادات وحتى المتخاذلين عن نصرته بروح اللهم أهدهم، فتاب البعض وظلت الأكثرية على ضلالتهم.
ويُذكر أن الإمام (ع) كان يُلقي خطابه الشريف على أي قومٍ يواجهونه، لعل بعضهم لم تتبين له الحقيقة بعدُ ليهتدي بنور الحقيقة، ولعل من عرفها يعود إلى عقله ورشده، وقد حدث ذلك بالفعل، وقام عدد من جيش العدو باللحاق بركب الإمام الحسين (ع)، حتى إن بعض قادة جيش يزيد، كان يأمر الجند بإحداث ضجة وصراخ عاليين عندما يتكلم الإمام، لكي لا يسمعه أحد، وهذا العمل الذي قام به الإمام هو في قمة السلوك الأخلاقي؛ فقد التزم الإمام (ع)، بالمبدأ القــــرآني القائل:﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّـــى نَبْعَثَ رَسُــــولاً﴾،(سورة الإسراء، الآية 15). ليبين حقائق الدين ويكون الناس على بينة من أمرهم ﴿لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ﴾(سورة الأنفال، الآية 42).
هناك عدة أوجه إيجابية وفق هذه القاعدة أهمها ثلاثة:
الوجه الأول: أنه ألقى الحجة عليهم وذكرهم بنسبه وحسبه وعاقبة ما يفعلون من قتاله، وكان لذلك مردود إيجابي إذ استجاب بعض الأفراد لذلك الخطاب الحسيني، وهذا يبين المسؤولية الشرعية والأخلاقية من الإمام اتجاه هؤلاء، إذ من مهام الإمامة تبيين الحقائق وتزكية الناس وتعليمهم، للأخذ بأيديهم إلى حيث رضا الله تعالى.
الوجه الثاني: أنتج الخطاب الحسيني ثمرة كبيرة في حركة عاشوراء، إذ التعامل الأخلاقي من قبل الإمام الحسين (ع)، مع أعدائه أحدث فيهم عملية انقلاب على الذات المتطرفة، وهذا ما حدث فعلًا مع الحر بن يزيد الرياحي أحد قادة الجيش الأموي، إذ قام الإمام بسقي الماء إلى جيش الحر الذي جاء لقتله، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على قدرة الإمام الكبيرة على التفكيك بين صراع الإرادات وصراع الإنسانية، فمهما كان يحدث للإمام، إلا أنه لا يترك التعامل الإنساني مع الغير، ولكن بالمقابل لم يكن للأعداء أي إنسانية معه (ع)، ومع ذلك لم يغير موقفهم المعادي من تمسك الإمام (ع) بالمبادئ الأخلاقية الحميدة، ضاربًا أروع الأمثلة في التضحية والفداء، فسقي الماء للأعداء وبيان الحقائق والتذكير بعواقب الأمور.
ولقد أنتجت توبة الحر بن يزيد وابنه وبعض الجند، في مقابل السقوط الأخلاقي الذي واجهوه به، والكل يعرف ماذا فعلوا عندما خرج وبين يديه طفله الرضيع طالبًا له شربة من ماء يروي بها ظمأه.
الوجه الثالث: كان لخطاب الإمام (ع)، بالغ الأثر في الدلالة على حب الإمام للإنسان بما هو إنسان وشفقته على حال أعدائه، حتى تذكر المدونات العاشورائية أنه (ع) بكى عليهم لأنهم سيدخلون النار بسبب قتلهم إياه، فهو لم يقاتلهم لذاتهم، بل لكفرهم وطغيانهم واستهزائهم بأحكام الدين الحنيف، والدلالة الأخلاقية من تعامل الإمام هذا هو أن يبين موقفه الحقيقي اتجاههم الرافض لمختلف ألوان الشرك والضلال، ورغم الانحلال الأخلاقي في جيش يزيد وما كانوا عليه من غلظة وفظاظة وخبث سريرة وحقد وضغينة، إلا أن ذلك لم يصد الإمام (ع)، عن ممارسة أسلوبه الأخلاقي، بل كلما نزلوا وتسافلوا ارتفع الإمام بقيمه الأخلاقية وأدبه الرباني الأصيل، حيث بادر عند قدومه إلى كربلاء إلى تأمين الماء لهم حين قدموا لمحاصرته وهم عطشى، فقدمه إليهم رغم قدرته على منعهم عنه، كما فعلوا بعد ذلك، ومنعوه حتى من قطرة ماء يروي بها عطشه أو عطش عياله، تمامًا كما فعل أمير المؤمنين مع معاوية في صفين وكان معاوية يعلم أن عليًّا لا يمنع الماء فاستغل تقوى الإمامة ليغير معالم دين الله.
خاتمة
مثلت عاشوراء الحسين دروسًا كبيرة في التجلي الأخلاقي والتضحية والدفاع عن المظلومين، والمطالبة بالحقوق والوقوف بوجه الفاسدين والمفسدين، من أعلى فرد في السلطة إلى أدنى شخص فيها.
إن ما تضمنته الحركة الحسينية في نهضتها هو نسف ما تم نسجه من أفكار باطلة وفاسدة تم تصديرها إلى الناس على شكل مسائل فقهية وعقدية تدعو إلى حرمة الخروج على الحاكم والرضوخ إلى حكومته، وأن جلد الظهر وأخذ المال… هو ضد الفكر الكربلائي والنهضة الحسينية. فكل يوم عاشوراء وكل أرض كربلاء…
[1] السيد علي فضل الله، البُعد الأخلاقي في عاشوراء https://aliwaa.com.lb/ بتاريخ 29 آب 2020.
[2] حيدر الرماحي، الدلالات الأخلاقية في النهضة الحسينية، مجلة الهدى العراقية. https://www.alhodamag.com/index.php/post/1075 – 2015
[3] علي أبو الخير، في رحاب كربلاء، القاهرة، مركز يافا للدراسات، 2001، الصفحة 5.
المقالات المرتبطة
قوا أنفسكم وأهليكم…
لو تتبعنا الهداية العبادية في حياة أهل الإيمان، على ضوء القرآن الكريم، لوجدناها تنقسم إلى مسلكين رئيسين:
المسلك الأول: هو التفصيلي الذي يتابع فيه المتدين كل جزء من الأحكام الشرعية الواجبة والمستحبة، كما يتجنب فيها المحرمات والمكروهات.
الإسلام والمسيحيّة في نزوعهما الإنسانيّ نحو الإله
يؤسس سماحة الشيخ شفيق جرادي في البحث الذي بين أيديكم لمركزية الإنسان في الأديان التوحيدية،
إلام آل علم الإناسة؟ أو هل من حاجة إلى “طبيعة بشريّة”؟
كان من آثار الاستقطاب الحادّ بين مقولتَي الطبيعة والثقافة أن فقدت الإناسة موضوعها، وبالتالي تماسكها