by الدكتور أحمد ماجد | يوليو 25, 2024 11:57 ص
يعدّ كتاب تأمّلات في فلسفة الفلسفة الإسلامية للشيخ الدكتور يد الله يزدان بناه، الذي أصدرته دار المعارف الحكمية من الكتب الهامة، التي تحمل في طياتها مشروعًا فكريًّا، يستحق النقاش والتعامل معه بجدية، فهو ليس من تلك المؤلفات التي تكتفي بعرض أفكار، إنّما هو من نوعية خاصة، تعمل على الإبداع فيه، وتزداد أهمية هذا الكتاب عندما تقوم بمراجعة ما كتب حول الموضوع، فتجد أنّ ما كتب فيه لا يتعدى الكتابين، الأول للدكتور رجب بو دبوس صادر عن الدار الجماهيرية، والثاني للدكتور موسى معيرش دار الأيام، بالإضافة إلى ورقة بحثية للأستاذ الدكتور خالد قطب، وهذه المؤلفات، عملت على عرض الفكرة على أرضية عامة، ولكنّها لم تتطرق إلى الخصوصية الإسلامية المتعلقة بالموضوع، وهذا ما يجعل الكتاب متميزًا، لأنّه يتناول زاوية جديدة، كما أنّ في الكتاب خاصية جديدة، تتمثل بمقدمة تأسيسية، شرح من خلالها المصطلح، وكأنّه كان يشير إلى أنّ ما يعمل عليه يتعدى كونّه مجرد درس أعطي في الحوزة العلمية لطلاب، فهو يريد أن يبني علمًا جديدًا، يحمل هذا العنوان.
يبدأ الكتاب بطرح سؤال، هل من الممكن مساءلة الفلسفة والتعاطي معها، كما يتمّ التعامل مع العلوم الأخرى، فنعتبرها موضوعًا للعلم، وهل من الممكن أن تكون الفلسفة خاضعة للفلسفة، كما في جميع الفلسفات المضافة، كفلسفة الرياضيات وفلسفة الأخلاق: “وبالتالي [فلسفة الفلسفة] هي لا تتعرض للمسائل الداخلية لذلك العلم، ولا للبحث عن صدق قضايا ذلك العلم أو كذبها، وإنّما ينصب بحثها على العلم المضاف إليها بصفته أمرًا عينيًّا موضوعيًّا ( ص29)، وما يطرحه هذا المفكّر يأخذ القارىء إلى مجموعة من الأسئلة، الأول يتعلق بعلمية الفلسفة، فهل يمكن للمجتمع العلميّ المتعلق بالفلسفة قبول اعتبار الفلسفة علمًا كسائر العلوم؟ وهذا السؤال الذي طالما عملت البيئة الأكاديمية الحديثة والمعارضة على رفضه، تحت عنوان: أنّ الفلسفة لا تعنى بالإجابات، وكلّ وظيفتها الحالية هي متابعة المفاهيم أو طرح الأسئلة. كما أنّ الفلسفة التحليلية ربطت بين الفلسفة ومبدأ التحقق، وهذا ما يجعل الأمر عسيرًا لتصنيفها باعتبارها علمًا. ولكن دون شكّ أن المؤلف عندما تكلم عن علمية الفلسفة كان ناظرًا إلى البيئة المخاطبة، والتي تحمل في طياتها فكرة علمية القول الفلسفيّ، ولكن حتى ولو قبلنا بأصل منطق طرح السؤال، سنرى أنّ الفلسفة التحليلية افترضت وجود صلة قوية بين الفهم والتحقق أو التوافق: فالجمل/ الأفكار تأخذ مشروعيتها من تحققها في حين أنّ المراد من الجمل هو تحقق أمر آخر يتعلق بالفهم. وهكذا تصبح الجملة أو الفكرة عبارة عن كفاءة لغوية تمنحنا المعرفة أو تقدم تبريرًا شارحًا لبعض الخصائص من الناحية المعرفية لبعض الحقائق دون الحاجة إلى التحقق منها في العالم، وهذا هو الذي يبني عليه الفلاسفة، فالفلسفة موضوعها الوجود، وهي تتمحور حول الواقعية والموضوعية، بينما الفلسفة التحليلية اعتنت باللغة، وهنا يطرح على الفلسفة التحليلية سؤال، هل باستطاعة اللغة بما هي أمر اعتباري أن تعبّر عن الوجود؟ لننظر إلى هذا المثل، هذه الصخرة التي إلى جانب النهر، لولا الأشجار في الغابة ستكون في ماء النهر، هذه الجملة تشير إلى معنى له القابلية لذلك. بالتالي ربط العملية بالتجريبية يفقدها المعنى، ولكن عند التعاطي من منطلق الفعالية والقابلية، نستطيع أن نصدقها. ما نريد أن نقوله: إن ربط الجملة بالتجريب لا داعي له إلا إذا جعلنا التجربة مسبقة ميتافيزيقية لا بدّ من الالتزام به، وهذا ما يجعل الجملة بحدّ ذاتها لا قيمة لها.
كما رأينا، هناك مشروعية، تسمح لنا للنظر إلى الفلسفة باعتبارها علمًا، وهذا الأمر إذا كان ينطبق على الفلسفة الحديثة، لكنّه دون شك من الأمور المطوية المسلّم بها في الفلسفة الإسلامية، وهنا يُطرح سؤال عن ماهية الفلسفة المضافة، وهل تستطيع الفلسفة أن تتعامل مع موضوعها الذي هو الفلسفة، كما تعمل مع العلوم الأخرى؟ يقول الكاتب: “إنّ فلسفة العلم، تنظر إلى العلم ذاته باعتباره علمًا من علوم الدرجة الثانية، وتلاحظه ملاحظة من خارح، دون الدخول إلى معترك مسائله”(ص 30). وفي هذا الموضع قدّم الكتاب رأيًا يفتح المجال للسؤال، هل يتمّ التعامل مع فلسفة الفلسفة، كما يتمّ التعامل مع “فلسفة الطبيعة” أم أنّ هناك اختلافًا ماهويًّا بين الفلسفة المضافة إلى الحقائق والفلسفة المضافة إلى الحقول العلمية؟ الكتاب لم يجب عن هذا السؤال، وقد تكون طبيعته ومورد اشتغاله لا يسمح له بمثل هذا الأمر، ولكن يبدو أنّ الجو العام المحيط بهذا التفكر في فلسفة الفلسفة، يميل إلى وجود فروقات، وهذا ما أشار إليه عبد الحسين خسروبناه، حين ذهب إلى اعتبار الأول يعتمد الاستدلال والنقد، في حين أنّ الثاني وصفي تحليلي استدلالي ونقدي. وعلى مستوى المسلك الأول يقوم على الحكم والتحليل المعرفيّ أن الثاني تاريخيّ – تقريري.
الكاتب آثر الذهاب إلى موضوع العلم، وطرح مجموعة من الأسئلة، ما هو موضوع ذلك العلم؟ وما هي الطرق العامة لذلك العلم؟ ما هو المنهج الخاص للبحث فيه؟ يبدو واضحًا من ميل الفيلسوف باتجاه هذه الأسئلة إلى ثبات هذا العلم لديه، وهذا ما أكده من خلال ما قام بتقسيمه إلى مجموعتين:
دون شك أن “يزدان بناه” وضع معالم أساسية لهذا الفرع المعرفي، وأوضح من خلال تقسيمه إلى وجود شقين: أحدهما منهجي، يهتم بالمقاربة التي سيتم التعامل بها، والثاني يتعلق بالمسائل التي سيتمّ التعامل معها، والذي يقرأ الكتاب، يدرك سريعًا أن هذا التقسيم يحتاج إلى عملٍ كبير، وقد ركّز الكاتب على القسم الأول، وينتقل إلى معالجة بعض الموضوعات المتعلقة به. ولكن هنا على سبيل السؤال ألم يكن من المفيد أن يفرق الكاتب بين فلسفة الفلسفة ونظرية المعرفة وعلم المناهج، وتوضيح عناصر الالتقاء والافتراق؟ ولكن قد تكون طبيعة الكتاب تحول دون القيام بذلك.
وقبل أن نغادر الكتاب سأقف على العلاقة بين الفلسفة والدين، وكيف يمكن لفلسفة الفلسفة أن تعالج هذا الموضوع، يبدأ “يزدان بناه” كلامه بإثارة المسألة، فيقول: “تحتل مسألة الإفادة من الدين والعرفان النظري مساحة كبيرة من الحكمة المتعالية”(ص 309). إنّ استفادة الملا صدرا في كتبه: “الفلسفية من الآيات والروايات وكذلك من هذه العبارات، لم يرُق لمذاق البعض؛ لأنّهم يرون أنّه لا ينبغي استخدام مثل هذه العبارات” (ص 310)، ويذهب: “بعض ٌمن المتفائلين أكثر أنّه ينبغي تنقية آثاره من الأجزاء الالتقاطية والإبقاء على أجزائها البحثية والاستفادة منها” (ص 310)، ليصل إلى طرح سؤال: “الحكمة المتعالية هل هي فلسفة واقعًا أو لا؟” (ص 310)، وهل وقع الملا صدرا بالالتقاط في فلسفته أم لا؟(ص 310). هذا الكلام الذي أورده الشيخ على مستوى النقاش في إيران، هو من الأمور السائدة في كثير من الأوساط الفلسفية، التي ترفظ إدخال النصّ الدينيّ في النصوص الفلسفية، وقد يكون مقتضاه إشكالية في تحديد ماهية النصّ الفلسفيّ وعلاقته بالدين، هل هي علاقة انفصال لا يجوز فيها إدخال النصوص الدينية في الفلسفة؟ ما هو مقدار هذا الإدخال؟
دون شك أنّ ما أثاره “يزدان بناه” مهم، ولا بدّ من العودة إليه للعمل عليه، وإذا كانت فلسفة الفلسفة، تبحث في النصّ الفلسفي كمنجوز مكتوب، فهذا يقتضي العودة إلى النصوص الفلسفية لمعاينتها لمعرفة كيفية بنائها، وهذا يعني أنّ الحكم على نص فلسفيّ لا يكون إلا من خلال العودة إلى التراث المتعلق بهذا العلم، للنظر فيه، هل هو تأبّى استخدام الدين أو النصوص الدينية؟ هذا الأمر دون شك يخالف التقليد الفلسفي، حيث نرى برمنيدس في قصيدته المعروفة، قد بنيت على نفس التقليد الملحمي اليوناني، وهو تحدث عن الآلهة وبلغة رمزية مما يجعل نصه الفلسفيّ، الذي يعتبر من النصوص التأسيسية في الفلسفة يمزج بين الفلسفة والدين، ليس على مستوى الموضوع فحسب، إنّما على مستوى البنية أيضًا، وهذا ما نجده عند أفلاطون وأرسطو، وهذا ما يجعل العلاقة بينهما علاقة وصل وليست علاقة قطع.
وفيلسوفنا في هذا الإطار، يقوم بخطوة إضافية بالإضافة إلى الكلام الذي أوردناه، فهو يرى أن المقصود من الدين هو المعارف الدينية: “لأنّ البحث يدور حول استفادة الفلسفة الأولى من الحكمة النظرية لا العملية من الدين. وقد تحدث الدين عن الله تعالى وصفاته وأفعاله، والمعاد والنبوة والوحي والملائكة فهذا النوع من المباحث التي هي مباحث معرفية هي معرفة الوجود” (ص 311). إذًا الشيخ يرى أنّ الفلسفة والدين يشتركان في الأفق المعرفيّ، وهذا ما يجعل الاستفادة ممكنة وواجبة.
والكلام السابق، يؤكد على أنّ استخدام النصوص الدينية في الفلسفة ليس أمرًا مستغربًا، فالقاعدة الأساسية هي حصول الانسجام في النصّ الفلسفيّ، هذا ما لم تنفرد به الفلسفة الإسلامية، بل هي موجودة في كلّ فلسفة قبل عصر الحداثة الغربية، ولكن الشيخ سرعان ما يضع شروطًا لذلك:
ب و ج- المعرفة الدينية أعلى معرفة للوجود.
د- الفعالية العقلية تعاني من نواقص.
نصل إلى أنّ الفلسفة لا تتناقض مع الدين وتتكامل معه، وهي تحتاج إليه في الكثير من المواضع، ويعود سبب ذلك إلى أنّهما يبحثان في موضوع الوجود، هذا الموضوع الذي قد تفتقر الفلسفة ببنيتها العقلية عن الإجابة إلى بعض الأسئلة التي تحتاج إلى الدين، ولا شك بوجود اختلاف على مستوى اللغة، فالفلسفة تعتمد البرهان كلغة فنية تبني عليه مقولاتها، أما الثانية فهي تعتمد اللغة العرفية التي يستطيع كل الناس فهمها.
لم نعالج الكتاب بشكل كامل، تعرضنا لنماذج مما ورد فيه، فهو يحمل في طياته أفكارًا عميقة، لا يمكن أن تختصر بجمل أو صفحات قليلة، يبقى أنّنا أمام باب معرفيّ جديد، يحتاج إلى تعمق ونقاش جدي، ليتمّ نموه والاستفادة منه.
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
Source URL: https://maarefhekmiya.org/16798/falsafa-5/
Copyright ©2024 معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية unless otherwise noted.