by بلال اللقيس | أغسطس 7, 2024 8:55 ص
مقدمة
يتضمن هذا المبحث إضاءات في مسألتي الدولة والمقاومة، ويسأل إذا ما كانت هذه الثنائية حاجة للبنان الكيان وضرورة له؟ ويختم لمجموعة نتائج وخلاصات.
ولا ندّعي أنّ البحث غطّى كل الأسئلة الموجودة، أو تلك المحتملة، لا سيّما أنّنا أمام كيان واجتماع لبناني قيل ما قيل فيه، وأمام واقع إقليمي ودولي استثنائي يمّر بتحولات كبرى، وأمام تجربة مقاومة استثنائية يحتضنها لبنان وغير مسبوقة في إنجازاتها وسلوكها وخطابها مقارنة بما عرفته تجاربنا العربية الإسلامية، بل التجارب العالمية.
وتبقى نتائج هذا البحث وتأمّلاته مفتوحة أمام المهتمين والباحثين وأصحاب الجهود المخلصة والوطنية لمزيد من التعميق في بحث الخصوصية اللبنانية، وخصوصية المقاومة، والحاجة إلى المقاومة في عالم يتغيّر، وإقليم فيه ما فيه على طريق بناء الدولة القادرة والعادلة التي نتطلع إليها جميعًا، والنهوض بواقعنا العربي وأمتنا. ناهيك عمّا وصلت إليه تجربة الاجتماع السياسي والدولة في الغرب إلى تنظيرات ورؤى ومراجعات بنيوية أحيانًا كثيرة. إنّ المدرسة الغربية ومفاهيمها تعيش حالة نقد تهزّ بناها على أثر تراجع التجربة وإخفاقاتها في مرات عديدة.
توطئة
ابتداءً، لا نبتغي في هذا المبحث المساجلة ولا تسجيل النقاط، خصوصًا أننّا نمّر في ظروف تتحكم بها عصبيات وهواجس وقلق بعضه محق، وكثير منه مبالغ فيه ومفتعل. ما سنطرحه لا ينطلق من خلفية الرد على الآخرين رغم أنّنا لا نستنكف تقديم الحجج والبرهان والخطاب العقلاني والهادئ احترامًا للشراكة وأهميتها، ومواجهة الانفعال بالحجة والعقل. لكن ما نطرحه ههنا نرجو منه مقاربة سياسية فكرية تأملية للنهوض بواقعنا المربك.
المفارقة هي أنّ أهل المقاومة عقلانيون، وأهل السلطة ديماغوجيون، علمًا أنّ ما هو متباينٌ هو أنّ السلطة والحكم عقلانيتان، بينما المقاومة كفعل ثوري يغلب عليه الشعارات والشعور. أهل المقاومة يسعون ويقدمون نموذجًا قيميًّا وسلوكيًّا حتى حين ينتصروا رغم الخذلان، فلم يجرّموا العميل قاتلهم، ولم يصبوا لانتزاع الحكم كما ذهبت المقاومة الفرنسية، التي رغم قلة مؤيديها، لاستلام الحكم وفرض رؤيتها بالقوة وبالأحكام العرفية، حتّى نكاد نقول: إنّ المقاومة هي المتغيّر الأبرز والأهّم والأكثر تأثيرًا في حياة لبنان الحديث والمنطقة.
كيف السبيل للاعتلاء بلبنان والإفادة من كل عناصر حيويته، وتعميق الفهم لمختلف أبعاد الطاقة الاجتماعية التي يمكن أن يفرزها هذا البلد وفي مقدّمها هذه التجربة الحيّة؛ أي المقاومة، علّه يمكن الإفادة منها في ساحات أخرى وتقديم “الرسالة اللبنانية” على كثير من واقعنا العربي يستفيد منها ويلتقط إشاراتها، فنتقدّم نحو النهوض الفعلي الذي لا يتحقّق إلا بتعاون وتكامل الجميع عربيًّا، خصوصًا في هذا الزمن الذي تعجز فيه أي دولة مهما قويت أن تخوض معترك النهوض بمفردها، فتسعى إلى اتحادات وتكاملات.
هذا يفرض النظر في مختلف حيثيات التجربة اللبنانية وقراءة عناصرها المختلفة وخصائصها، لكنّ طبيعة المبحث تفترض التركيز على لبنان الدولة، ومقاومته القائمة، دون التطرق إلى بقية عناصر ومجالات القوّة، مع اعترافي المسبق بوجودها، وأيضًا سوء استثمارها في عملية البناء – ولهذا بحثه الخاص أيضًا –
إنّ البحث في تجربة الدولة في عالمنا العربي عمومًا، وفي لبنان على وجه الخصوص، هو بحث مركّب ذو طبقات، كون غالبية دولنا العربية تعاني أزمات بنيوية وهوياتية وأزمة دور. أمّا لبنان فلم يصل بعد إلى مرتبة الدولة بالمعنى القانوني، ولا لكينونة سياسية بالمعنى الفلسفي، ولا لأمّة بالمعنى الاجتماعي، ولم يستقر بعد على منزلة، فلا زال يتأرجح بين منازل ومراتب متأرجحة مشكّكة، حتّى قيل إنّه يستحيل أن يصير دولة، وهو ما لا نتفق معه، بل تراه يسير ويقترب من بلوغ كينونة سياسية خاصة، واجتماع سياسي يتبلور تباعًا رغم التحديات الجسام، وما يفترضه البعض من تباعد نراه من زاوية أخرى أنّه نوع من “إعادة توازن كلية” داخليًّا وخارجيًّا تعتبر أرضية ضرورية لقيام الأوطان والدول. إنّ لبنان بلد فريد بكل ما للكلمة من معنى، ولأنّه كذلك فهذا يحتاج منّا أن نفكر بعمق أكثر لما يلائمه ويتماشى مع الغاية والمقصد والطبيعة التي تميّزه.
عندما ينادي بنوه بالدولة، لم نسأل أنفسنا بعد: ما هي الدولة؟ ماذا نقصد؟ أي نموذج دولة نريد وبأية خصائص؟ فمسألة الكيانية، والدولة كأحد تجلياتها ليست مفاهيم صنمية وقضايا جامدة، بل هي صيرورات معقّدة لا تنفكّ عن خصوصيات كل مجتمع وتعوزها المواكبة والملاءمة والتبصّر، ولا يجب أن نفترض بحال أنّها نظرية غير قابلة للتطوير والنقد والتقويم الدائم، فحتّى الغرب الذي قدّم فكرة الدولة، ترى مضمونها وفكرتها بين مجتمع وآخر، وزمن وآخر، وظرف لآخر. فهل يصح أن نعمّم الخاص، كما حصل في القرن الماضي، باسم الحداثة والعولمة، أو بكلمة أدق باسم هيمنة المفاهيم الغربية؟
إنّ الدولة كظاهرة اجتماعية أتت لحل مشكلة من جهة، ودفع لأفضل من جهة أخرى، وتطورت تدريجيًّا ومرّت بمراحل، وتعدّدت بل تناقضت النظرات لها، وتباينت حتّى في المذاهب المادية العلمانية -كما تدّعي- وأيضًا الدينية (بغض النظر عن النظرات المختلفة التي حاولت تفسير الدولة ونشوئها، سواء كانت دينية أم غير ذلك). لكن لم تكن لتبصر النور في المسار الإنساني كظاهرة وتولد وتتمظهر في أشكال مختلفة ومتعدّدة لولا أنّها حاجة ومصلحة وضرورة لا غنى عنها، فكل الذين نادوا بعدم ضرورتها وبنهايتها يبدو أنّهم فشلوا وسقطت نظريتهم ومحاولاتهم من الشرقيين الشيوعيين، إلى الغربيين النيوليبراليين والكوزمبيالتيين؛ إذ إنّها في حقيقتها حاجة وضرورة إنسانية اجتماعية. ويبقى السؤال، أي دولة، وما هي عناصرها، وكيف يمكن أن تلائم مجتمع معيّن وتدفع به قدمًا؟
إنّ مشكلتنا الأولى في لبنان بحسب المتابعة والرصد تبدو لي أولًا، وقبل أي شيء آخر في اللاعلمية، رغم قوّة المهنة والحرفة والأكاديميا واللغة في لبنان نسبة لغيره، ورغم ما عرف بحذاقة اللبناني وذكائه، مشكلتنا هي في الاستغراق بالديماغوجية والشعبوية، قلّما نتقدّم بحلول للمعضلات القائمة، قد يكون السبب اللعبة السياسية، لكن الأرجح لافتقار بعضنا لبدائل مقنعة ومتينة، فيهرب إلى الرفض ورمي التهم، وتخيّل الآخر دون أن يقرأه! نحن نحتاج إلى جرأة البحث عن الحلول، حلول واقعية عملية لها أسس نظرية متينة تحفظ القواعد التالية وتضمنها: استقرار المجتمعات وحفظ مكوناتها، الحفاظ بل تعزيز الحرية في لبنان وتأكيد التنوّع وميزته، عدم التخّلي عن عظيم الرسالة التي يمكن أن يقدّمها هذا الاجتماع في حركة التاريخ، بل وتطويرها أو إفراغها من محتواها بالانزياح عنها بمسميات مختلفة، التأكيد أنّ العدالة هي قيمة عليا، وأس لأي محاولة بناء قادرة على الاستدامة ولأي عمران، تجنّب الإسقاطات على الواقع، فاللبناني بمكوناته التاريخية التي سبقت الدولة تتحسّس من الإسقاط والتبعية، بل هي نشدت هذه الجبال والجرود رفضًا للتبعية والرضوخ القسري، وتعتدّ بتراثها وغناه، وتنشد رفض التسلط والهيمنة بأشكالها المختلفة ومراتبها المتكثّرة، وتكون قادرة على النهوض بها بعدالة واقتدار. هذا يحتاج إلى إعادة تعريف المفاهيم، أو لنقل إعادة قراءتها وتوليدها من خصوصياتنا بثقة ودون إسقاطات أو استلاب، وقبول بعضنا البعض لنقيم الشراكة وحوار الحياة.
لماذا هذه المقدمة أو التوطئة؟ وهل هي ضرب لما جرّبناه، خلال قرن، عرض الحائط؟ كلا ليس هذا المقصود إنّما لنا نسأل: لو كانت الأدبيات والمفاهيم والمنطق السياسي السابق والمعادلات كافية أو ملائمة لافترض ذلك أن نهض الكيان وتحقّقت الدولة، لكن ها نحن بعد قرن من الزمن نتحدّث عن معضلة لبنان الكيان، فضلًا عن الدولة، فلو كانت ملائمة لحقّقت النهوض، فإمّا أنّها قاصرة أو غير مناسبة لأنّنا لا نفترض ولا يصّح أن نفترض أنّ مروجيها ومن تبنّاها كانوا ينافقون، ولم يكونوا يرغبون لبناء الدولة، بل علينا أن نفترض أنّ جلّهم جادون في السعي لنهضة لبنان وبنائه. فإن لم يسعفهم قرن من الزمن لهذا الهدف، فهذا يترك سؤالًا كبيرًا؛ إذ ربّما تكون المشكلة في البراديم والمفاهيم والمباني، وليست في الأسماء التي عادة ما نرمي الحمل عليها ونتهمها بحق أو بدونه.
فلو كان بمقدور التجربة الماضية أن تحقّق النهوض لفعلت، ولو كان بمقدورها الحماية لحمت، ولو كان بمقدورها إدارة التنوّع لأدارت، إنمّا يبدو أنّ القراءة الكلية ومدركات بناء الدولة والعزيمة الاجتماعية والإرادة العامة ضعفت عن ذلك، ما يعني أنّ قيام لبنان يحتاج إلى إرادة شعبية مقتنعة ومريدة وعازمة وغير مستعلية، ويحتاج إلى إعادة إنتاج مفاهيم ملائمة بعد أن جرّبنا الكثير من المفاهيم المستوردة وتبنيناها أكثر من مورّديها أنفسهم. لقد انوجد لبنان واستمر إلى مئويته الأولى بالرعايات الخارجية العربية-الغربية أكثر منه بقوته وتوافقاته الذاتية، الخارج حدّد له هويته ودوره، بدل أن يصنع هو دوره عبر عمليات تفاعلية بنائية ذاتية، وأكثر من ذلك فلنا أن نتخيّل دولة منذ أن “أُعطيناها” مطلع القرن الماضي إلى يومنا هذا، ورغم التعديلات الدستورية التي مرّت بها إلى دستور الطائف والتي كلّفتنا كثيرًا، لم نُبادر إلى نقاش أعمق يطاول الفلسفة السياسية لهذا الكيان، والمرجعية الناظمة المفترضة، ونضع هذه الأمور على طاولة البحث الجدّي، ولم يضطلع بذلك أي مؤسسة أو جامعة أو لجنة حكماء، بل اقتصر الأمر على أعمال فردية لبعض أهل الفكر لا يمكن أن توصل إلى الغرض رغم أهمية بعضها، فاستمر البلد يتأرجح ويتبدّل مع تبدّل التوازنات والتي بدورها كانت انعكاسًا لتفاعل داخلي خارجي مع أنساق ومنظومات الصراع البارد والحامي الذي يجري.
إنّ الدولة اليوم في عالمنا العربي بما هي هي ليست قادرة على النهوض بواقعنا المعقّد والاستجابة للتحدّيات المتناسلة والمتكثرة إذا لم نبادر لنطوّر نظرتنا لها وخرجنا من صندوق الأدبيات والمفاهيم القائمة وتقليدها إلى الإبداع بما يلائم مجتمعاتنا، وربط فعلنا بالمدى الإنساني والحضاري! ولبنان بالذات يحتاج إلى حلول إبداعية وفعّالة تسند واقعه المأزوم والمتأرجح بين منازل وإرادة عامة يجب بلوغها، ونخبة ليس لديها انتظارات شخصية تتبوأ صناعة واتخاذ القرار. يحتاج لبنان حلولًا فريدة تُشبه فرادته، وعميقة تشبه جذوره منذ أن تردّد إنسانه إلى هذه الأرض منذ قرون خلت.
بالعودة إلى البحث نسأل:
أولًا: في عموم مسألة الدولة
كيف يمكن أن نفسّر حنق البعض على المقاومة والتنكّر لها لهذا الحدّ، ولمن نتوجّه في طرحنا هذا؟
ما هو سؤال الدولة وإشكاليته في عالمنا اليوم بين النظريات والرؤى المختلفة؟ وهل نستطيع أن نبني تجربتنا دون لحظه وأخذه بالاعتبار؟ وماذا عن السيادة واحتكار القوّة للدولة على الشعب؟
ما هي مكانة القوّة في العلاقات الدولية، وهل هي ضرورة؟ وهل نحن محتاجون إليها؟
ثانيًا: في الساحة اللبنانية
من يجب أن نُسائل، المقاومة أم السلطة؟ هل مطلوب أن نوقف المقاومة، أم أن نصلح ونقوّم الدولة لتصبح دولة قادرة، قادرة على النهوض بالتحدّيات والقيام بوظائفها العامة؟
من هو لبنان ومن هو عدوه أي “إسرائيل”؟
ماذا يقول لنا مسار التجربة والعلاقة بين “المقاومة، اللبنانيين، الدولة” للعقود الماضية؟
يطول الحديث ويختلف في مفهوم الدولة والآراء فيها، وكيف نشأت، ولماذا انوجدت واستمرّت، وما هي غايتها ومشروعية قيامها ومسألة الاعتراف بها؟ لكن مهما اختلفت الخلفيات الفكرية وتباينت النظريات والتجارب، فيمكن القول: إنّ الدولة تقوم أولًا على إدراك أو وعي في لحظة معيّنة للمشكلة الاجتماعية وتنظيم مقنّن لواقع السلطة الحاكم والمحكوم، وخطاب ينتقل بالاجتماع الأوّل إلى اجتماع سياسي، فيعطي للمادة الأولى شكلها وهويتها من خلال مسار تفاعل لعناصر القوة والمشروعية والسلطة -مالية اجتماعية اقتصادية مادية جمالية معرفية علمية وغيرها، ولغة ترافق (نسميها الدستور)، وفضاء يتخلّق. ومن الناحية العملية فيُنظر إلى الدولة المؤسسة – بغضّ النظر عن مشروعيتها ودستورها ونوع الحكم فيها – أنّها مولجة بالوظائف العامة وأهمّها:
ونضيف، أنّ الدولة هي جزء أو كائن في العالم الأوسع، وخلية في الجسد، وعضو في المجتمع الإنساني العالمي، وبالتالي بمقدار ما تمارس سيادتها على ترابها، بالمقدار نفسه يجب أن تنظر لدور بنّاء وفاعل لدورها في الأسرة الدولية بأن تُسهم إسهامًا حضاريًّا وإنسانيًّا في حركة التاريخ وصناعته بحذاقة وحكمة وثقة. وتفيد التجربة، حتّى في المدارس الغربية، أنّ نقاشات الدولة تتقدّم على قدم وساق ربطًا بالتحدّيات والأسئلة المتوالدة، وصلت لطرق باب المشروعية وحقوق الإنسان والحدّ من تغوّل السلطة وهيمنتها، والمشاركة الشعبية وسبل تفعيلها، ومسايرة عمليات التحوّل والتغيّر اللازمين للحياة الإنسانية دون ركوب الفوضى. فمحور النقاش ينتقل على وقع التحدّيات لما هو أبعد من أدوات العمل والإجراء والوظائف، إلى سؤال المرجعية الناظمة للمجتمع والدولة، وضرورة تحديدها لما سينبثق منها وعنها من مفاعيل.
فهل لا زال نموذج وستفاليا للدولة القومية قادر بذاته على النهوض بالتحدّيات الجديدة الناشئة ومواجهتها؟ وهل لا زالت نظرية العقد الاجتماعي هي الناجعة والقادرة على بناء المجتمع السياسي؟ وهل لا زال سؤال السيادة هو نفسه، ودور الإنسان وحقوقه ومسؤولياته هي نفسها؟
وهل صحّ أن أسقطنا هذا النموذج على واقعنا في المنطقة إسقاطًا؟ وإذا كان قد حصل ذلك في العقود الماضية لضعف حيلة أو عجز أو قلة خبرة أو استلاب أو لصدمة حضارية، هل يجب أن يبقى الأمر كذلك بعد تحقق الصحوة في مجتمعاتنا وحقّقنا بالواقع قصص نجاح متعددة؟ ففي مبادئ الدولة الوستفالية تمّ تجاوز المجال السيادي إلى الحيوي إلى القيم باسم المصلحة والسيادة. وتغيّرت أساليب واستراتيجيات الهيمنة والتسلط في العقود الأخيرة تغيّرًا جذريًّا، وتغيّرت أيضًا طبيعة النظام الدولي، وتعاني الديمقراطيات الليبرالية من تنمية معكوسة وانتكاسات خطيرة في حقوق الإنسان وأوّلياته. وتغيّرت أيضًا نظرة شعوبنا لذواتها وللقضايا من حولهم مع اليقظة المتولّدة، وعودة الفكرة الدينية برؤية ومنهج مختلف عمّا شهدته المنطقة في القرون الماضية، فأدخلت المقاومة منظومتها القيمية، وفي أساسها القيم الدينية الأصيلة عوضًا عن أفيون الشعوب إلى المنتظم اللبناني والإقليمي كواقع وحقيقة.
فهل حان زمن المراجعة والنقد وتحديد مقارباتنا كما يفترض؟
كيف يمكن أن نفّسر هاتيك الضجّة المثارة حول وجود المقاومة وموقفهم السلبي منها؟
بعد استعراض مختلف الافتراضات الممكنة، يتبين أنّ فرضية كون المقاومة في لبنان تجربة ناجحة هي الأكثر منطقية لتفسير موقف البعض الحاد والسلبي من المقاومة، فهذا البعض لا يريد أن يتقبل حقيقة أنّ هناك تنوعًا فعليًّا دخل به لبنان، ويجب أن يلحظ في العمران اللبناني، وهذا البعض تبدو مشكلته مع كل مقاومة لإسرائيل وليس مع المقاومة الحالية التي تعتبر النموذج الأخير، ربّما يقرأ انتصار المقاومة على إسرائيل وإنجازاتها بمواجهة المشروع الغربي الهيمني إضعافًا له. لو أجرينا استقراءًا سريعًا لوجدنا أنّ المقاومة حركة شعبية قاصدة وعازمة تميّزت على طول مسارها باستقلال قرارها مقارنة بالسلطة اللبنانية المكبّلة في قرارها الموزّع على عواصم العالم، وتميّزت بقربها من الناس والشعب وآلامهم وآمالهم مقارنة بالدولة البعيدة، وبالمرونة في الإدارة مع الثبات على الهدف مقارنة بجمود الدولة وبيروقراطيتها وقصر نفسها، وبالفضاء القيمي الذي احتضنتها وانسجامه مقابل الدولة السلطة التي فشلت في صناعة انسجام حيال أي قضية عامة بعد 100 عام، وبالتركيز في العمل والإخلاص للهدف بدل التذبذب والتمحورات الذي عانت منه الدولة، وبالتخطيط بعيد المدى بدل الدولة التي تعمل ومؤسساتها على طريقة المياوم، بالثقة بنفسها وأهلها بدل الاعتماد على الآخرين، وبمواجهة التحدّي بعقل وعلم بدل الهروب من المسؤولية، بربط المقاومة بخطاب إنساني وأخلاقي يلاقي الأنفس والضمير السليم والحس المشترك، بتجنّب الفتن ومحاصرتها وخنقها ما أمكن لأنّها لا يمكن أن تجمع مقاومة عدوّ وفوضى داخلية، فلا يمر تحرير المجتمع بفتنة اقتتاله، فالمقاومة والوحدة متلازمتان لا يجب الفكاك بينهما، وليس آخرًا بإنجازات تاريخية حلم بها كل العرب والمستضعفين لعقود، فضلًا عن كثير من اللبنانيين، فكانت للمرّة الأولى في التاريخ غير الغربي منذ قرون قصة نجاح فعلية وحقيقية، ومدخل استنهاض عابر، ونجحت مؤخرًا بأن فتحت نافذة نحو البناء والتنمية من مدخل ترسيم الحدود وغيره حين عجزوا، مؤمنة بأنّه من استمر ضرب الباب لصالح قضايا شعبه المحقة ولجّ ولج. هذه المزايا وغيرها هي عرّت الدولة عمومًا وسلطتها ومؤسساتها. حيث بدا أنّ الشعب وشرائح منه أسبق وأقدر وأعرف وأعزم وأوثق وأجرأ للمبادرة والاستشراف وتغيير الواقع وتحويل مجرى رياح المنطقة المتوهم، وأعطت المقاومة في فعلها وسلوكها وخطابها زخمًا خاصًّا لفكرة الوطن والتضحية من أجله، فأعلت من شأن الأخير فعليًّا، وأسّست عمليًّا وليس نظريًّا فحسب، لـ”الحق” الفردي والجماعي، وليس لجهة الاعتراف به فحسب، بل لجهة إنتاج سبل نيله وبلوغه (أحيانًا اعترفت المؤسسات الدولية بحقوقنا لكنها لم تعطِنا حق تنفيذه). وامتلكت سلطة معرفة متقدّمة عن الدولة في تشخيص وبلوغ قضايا عامة تطال المجتمع بكلّه. كل ذلك أعطى للمقاومة موثوقية في النظر إليها، هي عقلانية تحسن اختيار الأهداف وتحقيقها، تخطط للبعيد، تبتعد عن الكيدية، تبحث عن المشترك، تعرف ماذا تريد، تحقق للمجتمع اللبناني ما فشلت عنه دولًا عربية مجتمعة لعقود، بينما فشلت الدولة المؤسسة والسلطة في القيام بوظائفها، واستنفذت قوتها في الصراعات الداخلية والسعي لاستخدام الخارج لتعديل التوازنات البينية، وبدّدت نقاط قوتها بدل استجماعها، لكن المقاومة اجتنبت كل هذه الطرائق والمناهج فأعطت نموذجًا جديدًا لجهة إمكانية أن تشكّل مع الوقت مرجعية فلسفية وفكرية ناظمة للتجربة اللبنانية برمّتها إذا ما استمرّت بمراكمة النجاح وصولًا إلى مجالات التنمية، فيزداد احتمال أن تعطف التحرير على التحرّر، وقصة المقاومة إلى قصة التنمية، والنهوض الاقتصادي والتأثير في الجيواقتصادي إلى الجيوسياسي كما يبدو المسار.
في.. من هو العدو؟
المقاومة هي حركة مجتمع مسؤولة واثقة وجهد مخلص وشامل لمواجهة عدو حتّى لو ظهرت للوهلة الأولى كرد فعل لكنّها ليست منفعلة. هي لا تصطنع عدوًّا أو تتوهّمه، بل تبني فهمها للصراع فهمًا عميقًا وشاملًا، وتبني دورها فيه على قاعدة علمية وواقعية متينة وإدراك عميق. هي الوجه الآخر لمعنى الهوية والوطن والانتماء والمجتمع في مقابل تهديد العدو وطبيعته ونوعية مخاطره، هي فهم صحيح وعميق للعدو وبنيته ومآربه وطبيعته وخلفيته ليس تخليقه أو توظيفه. إنّ تصنيف العدو يخضع لمعايير عقلائية ومنطقية وأخلاقية، وليس تفصيلًا عابرًا، أو نزوة، أو مسألة تكتيكية متقلبة؛ لأنّ تحديد العدّو هو تعبير عن الذات والهوية الجمعية من زاوية أخرى. هذه وغيرها أسئلة جوهرية ترتّب العمل والتحضير والاستعداد وإعداد العدّة. كلّما كان العدو خطيرًا والصراع معه شاملًا ومتعدّد الأبعاد (ثقافيًّا وحضاريًّا ) كانت مبررات القيام بمقاومته أقوى، فضلًا عن أن الاعتماد على الذات الحضارية يصبح أولى. فكيف بعدوٍّ تتلاقى على مواجهته وتتقاطع الأبعاد الوطنية بالإقليمية، بالإنسانية، والدينية. وكلّما تلاقت دوائر الصراع واندكّت، كلّما أخذ الصراع مدى أوسع وآكد وكان أشّد خطورة. هذا هو حال العدو أي الكيان الصهيوني، حيث تتجاوز هيمنته البعد المادي والعسكري والاقتصادي إلى المجال الحضاري والوجودي، وتتكامل الأبعاد المصلحية بالدينية بالثقافية بالعربية بالإسلامية بالإنسانية. هو عبارة عن مركز تلاقي شبكة الهيمنة الدولية في جغرافية المنطقة، وهو امتداد عضوي لقوى الهيمنة العالمية وأحد أدواتها وأخطر تمخضاتها وما رشح من منظوماتها. إنّ هذا الفهم بات يفترض اللجوء إلى المقاومة الذاتية المستقلة والحضارية والثقافية غير المستتبعة لخوض المواجهة، فلا يمكن مواجهة إسرائيل بقيم مأخوذة من الغرب أو من أميركا كون الغرب هو من أنشأ هذا العدو لغرض الهيمنة وإضعاف شعوب المنطقة ومنع تكاملهم وتقدّمهم، ولا زال ينفق عليه ويرعاه لتحقيق هذه الغاية رغم كل موبقات الكيان الصهيوني وكبائره. هذا من بين ما أبدعت به المقاومة، وهذا ما مكّنها من اكتشاف عظيم ما في ثقافة وقيم وخيرات هذا المجتمع والأمة ولآلئها وكنوزها.
في طبيعة الصراع اليوم، ومسرحه
لم يعد الصراع اليوم كلاسيكي الطابع أو رتيب كما في القرون القديمة، أحيانًا كثيرة تكون الورقة الاقتصادية ولعبة الدولار أشدّ أذى بالمجتمعات من الرصاصة، ويتبعها في الخطورة على مجتمعاتنا استراتيجيات التغلغل والحروب الناعمة والعولمة المتبّعة من الأنظمة الغربية. ولم تعد مسارح الصراع محدّدة بدّقة لأنّها انتقلت من الحيّز السياسي الجغرافي إلى الثقافي، فضاعت حدودها وصعبت مواجهتها، ولم تعد أدواتها هي الجيوش الكلاسيكية كمؤسسة قائمة بذاتها، ومستقلة وغير متداخلة بغيرها باعتبارها مولجة بالأمن وحفظه. اليوم أصبحت الشعوب أكثر أهمية ودورها ومشاركتها أخطر، ناهيك أنّ نماذج الحروب اللامتناظرة أثبت نجاعته، فعندما يكون الشعب في الميدان لا يمكن لقوّة أن تهزمه. الصراع اليوم بات أكثر تركيبًا وتعقيدًا، وتندمج به شتّى الأبعاد، وتتداخل فيه الأدوات والوسائل إلى المقاوم – النظامي وغير النظامي – جنبًا إلى جنب في المواجهة وحمل الهم وتبادل الأدوار. اليوم المجتمع هو الذي يقاتل ويخوض الصراع بأبعاده المختلفة، وليس فئة متخصّصة أو مؤسسة فحسب. لم تعد تفي بالغرض وجود مؤسسات أمنية وعسكرية مستقلة للنهوض بالتحدّيات الأمنية واسعة النطاق، ومتوسّعة المفهوم. الفارق بين الجندي وبين المواطن تقلّص في الصراع. المجتمع أصبح أكثر حضورًا في قضاياه ومشاركة في اجتراح الدور. إنّ أبرز حاجات الإنسان هي الحماية وهو الأقدر بسجيته على اجتراح كل وسيلة لحماية ذاته من عدوه. فضلًا عن هذه الحقيقة التي تتثبّت يومًا بعد يوم والتي مفادها أنّ الجيوش لم تعد بمفردها من تؤمّن الأمن والسلم من الأعداء، وأنّ الشعوب تضطلع بدور متعاظم في ذلك، وإنّ ما تعانيه مؤسسات دولنا العربية عمومًا أنّ القوّة العسكرية المعنية بالحماية تفتقد إلى القرار السياسي والإمكانات. جديد عالمنا اليوم أنّ المجتمعات أصبحت في قلب الصراع، وليس المؤسسات على غرار ما عاشته البشرية حتى نهاية الألفية الثانية عندما دخلت التجربة الاجتماعية الغربية حالة العقلنة؛ أي – الدولة – على يد ماكس فيبر، والمدارس الفكرية الغربية آنذاك. المؤسسة تدافع عن الجغرافيا بأحسن الأحوال، بينما الشعب يدافع عن قيمه، دفاعه عن هويته وقيمه ومبادئه أشمل من المؤسسة العقلانية التي تنبثق عن الدولة المعقلنة. وفي غالبية الدول تراجع دور الجيوش لصالح الآلة أحيانًا والجهات العقائدية الخلفية، لأنّه هناك لا تناظر بشكل الصراع وأدواته وطبيعته وتغيّر عن حالته الكلاسيكية التقليدية.
أمّا جديد حروب اليوم هو الانتقال من المركزية إلى اللامركزية في المواجهة، وهذه النقطة تعني مزيدًا من الاعتماد على العقيدة وجاهزية التضحية والفداء كون كل فصيل أو مجموعة تقاتل بنوع من الاستقلال حتّى الرمق الأخير. إذًا لا يعود حينها الجامع هو الإدارة والسيطرة القيادية فحسب، إنّما الجامع والموحّد الأساس هي العقيدة القتالية والقيم والثقافة والعشق والإيثار وحب المجتمع والحق والمقدّس عند المقاتلين. أمّا في صراعنا مع إسرائيل، ففضلًا عن مسألة تحولات العالم الجارية في مسألة طبيعة المواجهة وأدواتها كما أسلفنا، فإنّ إسرائيل هي الأخرى مشروع أيديولوجي عنصري، ونموذج هيمني ومركز شبكة هيمنة كما مرّ معنا. فإذا أردت أن تواجهها فتحتاج إلى معركة رأي عام وبناء وعي، وتحتاج أدوات ومنهج مواجهة مختلف عن عدة العمل ذات المنشأ الغربي فكريًّا، وتحتاج إلى مجتمع مواكب ومتصدّي ومسؤول غير اتكالي لا ينظر للوطن والدولة كمؤسسة، بل ينظر لها من خلفية أنّها ملكه وأمانته ومسؤوليته خصوصًا في المحن، وتحتاج إلى مواطن يقدّم الواجب على الحق وحياة الجماعة على مصلحته الخاصة… وتحتاج إلى قوّة التزام حيال الهدف من نوع مختلف، وهو ما أثبتته المقاومة من جدٍّ والتزام ونفس طويل، واستقلال قرار وغموض بناء وإعجاز للعدو عن توقع آليات صناعة واتخاذ القرار وسريّته، وسرية العاملين ودأبهم وإبداعهم وتفانيهم في هدفهم، وتمحور العطاء حتّى عشق الشهادة. هذه العناصر إن اختلّ منها شرط سيشق ويبعد الانتصار لأنّ عدوّنا كما أسلفنا هو نزعة الهيمنة الغربية التي تشّكل إسرائيل فرعها في منطقتنا وروحها وتكثيف قيمها وأداتها لتطويع المنطقة، إذ لا يمكن أن ننظر لإسرائيل بذاتها فهذا غير كاف، بل نحتاج لننظر إليها كواجهة في منطقتنا لمشروع غربي تسلّطي هيمني متعدّد الأوجه والأذرع والمقاربات، ويستخدم مختلف المنصات والإمكانات لخدمة إسرائيل ولاستدامة دورها المتفق عليه من قبلهم… وهذا ما يجعل مؤسسات الجيوش في عالمنا العربي مكشوفة لإسرائيل وأميركا وأجهزة الغرب الأمنية التي تصب كلّها في خدمة قوّة الهيمنة الأولى الولايات المتحدة الأمريكية، كما ويجعل استحالة مواجهة هذا العدو بالاستعانة بالغرب ومؤسساته وسياساته، وأنّ أي قرار سياسي يحتاج إلى استقلال إرادة عند مؤسسات الدولة، فلا تكفي في هذه الحالة النية ولا المصداقية، بل أيضًا المنهج واجتراح الأدوات وبناء مسار القوّة وعناصره المتضافرة، وكل هذا يتعذّر إيجاده في ظل سلطة مقيّدة السيادة والقرار في دولنا العربية. وللسائل أن يسأل لماذا علاقة الغرب قويّة مع كل الأنظمة اللاشعبية في المنطقة؟ هذا يضيف إشكالية لمجمل ما طرحناه، وهي أنّ أهل السلطة والحكم في غالبية دولنا العربية هي عبارة عن تواطؤ متبادل، وتبادل تخادم بينها وبين الغرب، فقوّة أميركا وعلاقاتها القوية مع الأنظمة العربية ضرورة من ضرورات استدامة إسرائيل وتحصينها.
تبدّلت طبيعة الصراعات، بحيث لم تعد تقتصر على صراعات فيزيائية مباشرة، بل تطور الأمن من الأمن الفيزيائي التقليدي إلى الأمن الأنطولوجي الهوياتي، فلم يعد بإمكانك للدفاع عن بلدك بالدفاع فقط عن حدوده الجغرافية، بل يحتاج منك أن تدافع عن قيمه ورسالته. فإذا كانت رسالتك التنّوع، فلا بدّ أن تقف في الجانب الآخر من الآحاديين، وإذا كانت رسالتك الإنسان والحياة الإيمانية، فيجب أن تكون في الموقع المقابل لمن يريدون تدميره وتشييئه، وإذا كانت رسالتك وقيمك هي العدالة، فيجب أن تقف في قبالة من يحيفون بحق الشعوب ويظلمونهم، وإذا كانت رسالتك الحرية، فلا يمكن أن ترى الحرية تداس والشعوب تقتل وأنت تتفرّج وتنتظر، وإذا كانت رسالتك الاستنهاض وبث الوعي في الأمة، فهذا لا يتحقّق إلّا بالموقف والنموذج… أمّا إذا لم يكن لديك رسالة أو قيم فهذا يعني أنّ كيانك غير قابل للحياة، وإنّما هو تجمع بشري ليس ذي معنى، وإذا كنت تطلّع لدور كما بقية الأمم الحيّة، فهذا يفترض عليك الخروج من الحياد إلى ملاقاة المدى الإنساني ولو بالكلمة والتظاهرة والموقف السياسي. فلبنان لم يبق إلى اليوم بمكوناته لولا القيم والحرية ومواجهة الظالمين والتحمّل والروح والإيمان طوال التاريخ، وهو لن يكون ولن يستمر إذا أرادت طبقته الدينية والسياسية أن تحوّله إلى تراكم كمّي يسلّم نفسه إلى الدعة والخفة، ما هكذا تستمر الأمم وتقوم المجتمعات.
هل القوّة حاجة للبنان؟ أو لنكن أدّق، هل لبنان يجب أن يكون بلدًا قادرًا؟ وهل القوة وسيلة ضرورية لذلك، أم يمكن في زماننا هذا أن تكون قادرًا دون أن تكون قويًّا؟ لا شّك أنّ القدرة تختلف عن القوّة، ومن نافل القول: إنّ القوّة لا تقتصر على القوّة المادية فقط، لكنّ السيادة ليست قوّة إكراه مادي في الداخل فقط، بل أيضًا قوّة إكراه في الخارج لحماية الأهداف والرؤى للدولة. أن تمتلك رسالة فهذا أحد جوانب القوّة لكن غير كافٍ. أن تكون رسالة دون أن تكون دولة فهذا لا يستقيم. لبنان يجب أن يكون دولة ورسالة أو دولة رسالة وليس أحدهما فحسب. فالدولة هي التي تحمي الرسالة وتمنع إضعافها وإيذاءها، والرسالة تضفي على الدولة القيمة والتمايز والكينونة والغاية. إذًا لبنان يحتاج إلى الأمرين. لا يفترض عاقل أنّ هناك إمكانية لدولة في عالمنا المعاصر وفي التاريخ بأسره يمكن أن تقوم دون امتلاك عناصر قوّة كافية وقوّة مادية على وجه الخصوص. لبنان وبنيه الذين عاشوا ويلات الحروب والاعتداءات الخارجية و “حروب الآخرين على أرضهم”، (يفترض بعض اللبنانيين أنّ الأحداث المؤلمة والحروب في لبنان كانت حربًا للآخرين على أرضنا، ومع عدم موافقتي التامة على الطرح، لكن نحاجج به لنقول: إذا فرضنا صحّة المقولة، فلماذا لم تتمكّن البنى الدولية والمؤسسات وحلفاؤكم الدوليين من تأمين حماية لبنان وتحييد العواصف عنه، بل تراها جعلت الحلول على حسابه في كل مرّة وعلى حساب ضعف قوته). لا يطالب اللبنانيون بالقوّة لفرض رسالة بلدهم كحال الغرب وقوى التسلّط والهيمنة، إنّما يفتّش ويبحث عن مقومات قوّة يدفع بها عن نفسه رياح الخارج التي عادة ما تحطّ عند الطرف الأضعف بالمعادلة الإقليمية – والذي كان لبنان دومًا – ولمن يفترض أنّ لبنان كان محلّ اهتمام من العالم بأسره، وأنّهم يتغنّون به، فهذا كلام صحيح، لكنّه شعوري وليس سياسي، يمكن بناء دولة على أساسه. بالنسبة للغرب والشرق وغالبية العرب كان لبنان ورقة مساومة وتقاسم حصص على حساب مكوناته، وهكذا نظروا إليه (يمكن مراجعة مختلف الكتابات الغربية حول نظرتهم إلى لبنان)؛ إذ لم تكن أميركا تنظر إليه بذاته إنّما في إطار موقعه الجيبوليتيكي المرتبط بمصالحها وصراعها زمن القطبين واليوم، فهو بالنسبة إليها الحامي غير المباشر للكيان الصهيوني، لا المهدد، كما أنّ نظام الأردن هو الواقي الأمني للكيان الصهيوني. وترى في وجوده لزوم العروبة الجديدة لا التاريخية الحضارية؛ أي لا ترى ولا تفترض فيه وجود قوّة إلى عقل، بل تبعية إلى أداتية.
في لبنان…الدولة
أولًا: البحث عن الدولة يفترض أنّه سير واقعي وليس طوباويٌّ؛ بمعنى أنّ المسألة ليست رغبات، هي؛ أي الدولة، حل عملاني لحاجة مطلوبة أو لمشكلة يجب تجنّبها. صحيح أنّ بناء دولة قادرة عادلة سيدة ومستقلة هي سيرورة، لكنّ العبور إلى ذلك يفترض أن يكون سيرًا واقعيًّا وليس تخيّلًا رغائبيًّا. إنّ عالم السياسة ينطلق من الواقع إلى المثال، والأمرين؛ أي الواقع والمثال هما حقيقتان وليسا أمنيات، أو أوهام فحسب. فالدولة هي حقيقة مدركة في الحيّز الخارجي وليس مجرد حديث وأماني… ماذا يعني أن تفشل الدولة المؤسسة لأكثر من 6 عقود في تأمين حماية لشعبها وأهلها؟ كيف يمكن أن تتولّد الثقة بها؟ ومن يجب أن يحاسب السلطات على تخليها وتقصيرها وهوانها أمام عدوها ومهانة الكرامة الوطنية لشريحة واسعة من مواطنيها لعقود؟ هل يمكن للمواطن أن يحاكم دولته، بعيدًا عن مسألة الأكثريات والأقليات، كونها أهملته، بينما يجب أن تكون مدينة له بتوفير الحماية وهذا أحد بنود العقد الاجتماعي الذي يتبنّاه بعض اللبنانيين؟
يعاني لبنان منذ نشأته من غياب مرجعية فكرية ناظمة لدستوره… قام نتاج توازنات خارجية أكثر منها إرادة جامعة داخلية ومطارحة فكرية وتفاعلات جوانية، فالمرجعية الناظمة في لبنان حتى الآن هي الرعاية الخارجية إذا ما توّفرت وليس أي أمر آخر، ومع الطائف استمرّ الوضع كذلك. لبنان لم يتبن فلسفة الحقوق كأن يكون دولة حقوق فتكون حقوق الإنسان هي الإطار المرجعي، ولا “المصلحة”؛ أي مصلحة الدولة كإطار مرجعي؛ لأنّ ذلك يفترض وجود دولة فعلية ومجلس أمن قومي يحدّد بدقّة المصالح العليا والقيم، ولا دولة القانون الذي يفترض أن ينمّ عن حوار يحدّد العقد بين بنيه والعلاقات المختلفة، ولا معنى الرسالة والدور الحضاري له، وهل هو رسالة أم دولة أم دولة ورسالة في آن، ولا هو دولة أمّة؛ إذ لا يوجد أمّة، بل مجموعة شعوب. لم ينجح لبنان في تعريف ذاته ككينونة إنّما فقط بتعريف غيريته عن الآخر وخوفه من الاندماج فيه، (وهو خوف مشروع طبعًا).
إنّ الذي يعتبرونه دولة وستفالية ويريدون أن يبنوا على هذا الأساس بقية المفاهيم السياسية والسيادية المتعلّقة التي ميّزت تجربة الدولة الوطنية n s، ربّما غاب عن ذهنهم أن ّكل ما في واقعنا في هذا الإقليم لا يشبه حال أوروبا بشيء حتّى نقوم بهذا الإسقاط اللاعلمي، فالدين في بيئتنا هو أوّل مصدر قوّة ولا ينظر إليه أنّه سبب مشكلتنا، كما حدث في الغرب الذي قام بقطيعة مع الدين، وقلة قليلة من مجتماعتنا العربية – الإسلامية هي أمّة قبل أن تكون دولة، وأوروبا اتخذّت قرارها حينها بشكل ذاتي أي بين القوى الأوروبية، بينما نحن بدأنا مسارنا مع سايكس بيكو؛ أي بإدارة وتحديد وتقسيم خارجي. كما إنّ قيمنا العربية والإسلامية والمسيحية الاجتماعية منها والأخلاقية لا تتقاطع مع رؤى الفردانية والليبرالية والعقلانية الغربية، ولا نرى أنّ الانتماءات الاجتماعية التي تبدأ بالعائلة ومختلف الأطر الأهلية والسلطات الاجتماعية هي نقطة ضعفنا كما كان الأمر في الغرب، بل نرى فيها نقاط قوّة هائلة ومهمة جدًّا في حركتنا، كما أنّ الصراع في منطقتنا ما كان ولم يكن ولن يكون في يوم ديني أو مذهبي وطائفي، بل دائمًا كان سياسيًّا، والغرب يسعى دومًا لتطييفه، وربّما يتقصّد تفسير الصراع بهذه الطريقة لمآرب معلومة لنا جميعًا. ليس هذا فحسب، بل إنّ أوروبا لم تجسد مفهوم الدولة القومية إلّا بعد قضائها على مشروع نابليون التوسعي العلماني، ومن بعده هتلر النازي وإسقاط أيديولوجيا التطرف، فلم يكن ليكون هناك دولة أمّة في القرنين الأخيرين في الغرب لو أنّ مشروع هتلر أو نابليون قد انتصر، فضلًا عن ذلك فإنّ الدين في بلادنا ليس في تناقض مع العلم والتقدّم العلمي، وتجربة المقاومة كحركة دينية لجوهره هي أبلغ حجة على ذلك، وعشرات الفروقات الجوهرية التي لا نستطيع أن نغطيها في هذا المبحث.
لبنان وتشوّه الولادة، وفشل السلطات المتعاقبة من إنتاج تصور لوطن قبل أن نتحدّث عن دولة لها هويتها ودورها ورسالتها.
أولًا:
لم تكن أزمة بلدنا مرتبطة بتشوّه فحسب، ولا بعدم نضوج فلسفة كافية لهذا الكيان، ولا بندرة رجال دولة يمتلكون التصميم الكافي لبناء وطن، المسألة تجاوزت ذلك حين تمّ استهداف لبنان بكليته استهدافًا جيوبوليتيكيًّا وجيوثقافيًّا، واستهداف الإقليم بكلّه خلال العقود القليلة الماضية. فما إن انتهينا من الحرب الباردة وتعقيداتها التي انعكست على غرب آسيا بشدّة حتّى جاءت المقاربة والاستراتيجية الأمريكية بما يسمّى العولمة وأطوارها لتعمق الأزمة في بلادنا والتبعية السياسية والاقتصادية بالخصوص، فأضافت تعقيدًا إلى التعقيد، وهشاشة إلى الهشاشة، واضمحلالًا لما تبقّى من سيادة، فالمقاربة الأمريكية للعالم وللمنطقة واستراتيجية العولمة أيقظت توترات الهويات داخل الكيانات والقلق، فصارت سيادتنا مهددة من أبواب مضافة هذه المرّة. إنّ العولمة الليبرالية ومؤسساتها العالمية وهيمنتها الصامتة واستراتيجياتها الناعمة من جهة، ناهيك عن حروبها وسّعت الشروخ وأضعفت محاولات التضامن وأعادت هيكلة السياسة والعلاقات الاجتماعية على غرار هيكلتها للاقتصاد، فأضعفت الدولة بإضعافها السياسة، وأبعدت الشعوب والدول عن تطلع التكامل وبناء أطر أمن جماعي عربي، وسعت لنقل الفرد من تطرف “مؤمنون بلا حدود إلى محدودين بلا إيمان”، وهذا أثّر بقوّة على لبنان الذي يعيش أصلًا إشكالية هوية وقلق وهواجس بين مكوناته. وشكّل 11 أيلول زلزالًا ضرب منطقتنا وأركان الدولة القومية ونظرية الأمن القومي، حيث تمّ تدويل الأمن والسياسة في منطقتنا وغالبية دولنا، فأصبحنا تحت وصاية مشروع القرن الأمريكي والعولمة القهرية الآحادية. صار العالم العربي محل نفوذ دائم للاحتلال الأمريكي والنفوذ الغربي الأطلسي الذي أراد تشكيل المنطقة بما يخدم أغراضه الاستراتيجية والعسكرية من خلال الشرق الأوسط الجديد والكبير، وإعادة رسم الخرائط… وصولًا إلى استراتيجية الديمقراطيين، مع أوباما، التي أشعلت الصراع داخل الحضارة بعد عقد من صراع الحضارات مع بوش الابن… وليس انتهاءً بتفريغ المكونات وتغيير الهويات التاريخية بالقوة والتهجير، لا سيّما المسيحية في سياق رؤية صدامية، وتحويل المنطقة إلى وحدات متصارعة.
وهكذا أصبح المجتمع في مكان، والسلطة في مكان آخر، ليس هذا فحسب، بل ارتدت بعض مجتمعاتنا لما قبل الوطني إلى الدوائر والانتماءات الأضيق. لم يعد للسلطة “آكسس” وقدرة الوصول إلى المجتمع وشرائحه، ولا تطمينه وهو يرى التهديد الوجودي ماثلًا أمامه، ولا السيطرة والإحاطة بالاقتصاد الوطني، ولا على مطلب الاكتفاء الذاتي حتى في مسألة الغذاء. لقد برزت فئات عريضة من مجتمعاتنا نظرها إلى الفضاء العولمي الخارجي وليس بالوطن! كيف وجلّ هؤلاء هم الطبقة السياسية بعينها التي مفترض أنّها مؤتمنة على تعزيز الوطنية وتمجيدها! بل حالوا بالقوة لمنع منطقتنا من بناء أمن مشترك وموحّد لها، أو تعاون للتنمية، وأصروا على التعاطي المجزّأ معها ومنع أي محاولة تقارب إلّا إذا كانت إسرائيل أحد أعضائه… وألصقوا الإرهاب في كل من يخالف سياساتهم ورؤيتهم أو لا يسير معهم، واستخدموا سيف حروب دموية وعقوبات. كل ذلك كان يصيبنا في لحظة من توحد الغرب أمنيًّا في حلف الناتو، وتوسعهم اقتصاديًّا واجتماعيًّا في الاتحاد الأوروبي، ومحاولات طموحة للتوحّد في اتحادات نظامية وغيرها، ومنعنا بالقوة من ذلك.
ولم تكتف نظرية الهيمنة بالمقاربتين الجيوبوليتيكية والجيوثقافية في مواجهة المنطقة ولبنان في قلبها، بل تجاوزت ذلك إلى تقديم أخطر نماذج الهيمنة التي تمارسها الأنظمة الغربية اليوم، وربّما من المفيد لكل متابع أن يقرأ في كتابات ميشال فوكو وغرامشي وكوربان وغيرهما نبذة عمّا وصلت إليه أساليب الهيمنة القائمة اليوم على مجتمعاتنا ودولنا التي تضعنا في سياقات يصعب معها نقد الواقع ومحاولة تغييره. ودون هذا الفهم والتوافق على مخاطر محاولات الهيمنة الغربية واستراتيجياتها المتكثّرة، سنظل في لبنان بالخصوص على تباعد شديد في أي محاولة لبناء دولة سيدّة فعلًا وعقلانية في تحديد وجوه التهديد التي تواجهها.
فبدل أن تسير حكوماتنا إلى الأمام نحو استراتيجيات التنمية والتعاون الإقليمي وتقوية بناها الذاتية، وتكون منسجمة مع مصالح شعوبها والمسار الخطابي والإنساني، فإنّ جلّها سارعت للتلحف بالغرب وسياساته. أدّت بنا استراتيجيات أميركا والناتو والهيمنة إلى القهقرة والنزاعات اللامحدودة ودوامة التطرف والتطرف المضاد… فأصبحنا في ارتكاسة إضافية، بحيث تعمّقت التبعية بدل التفكير في المضي إلى الأمام وبلوغ الاستقلال، صارت حكوماتنا ملزمة بهذه المهمة الجديدة، ودولنا تتقاذفها شتّى أنواع الانقسام الديني والمذهبي والطائفي والقومي وغيره، والتدمير الذاتي. فهل كان معقولًا أن يكون لبنان بمنأى عن ذلك؟ وهل كان ذلك ممكن واقعًا؟
ثانيًا:
– لبنان من حيث الموقع له دور جيوبوليتيكي بالغ الحساسية، ويعتبر أيضًا جزءًا من الجغرافيا الآسيوية العربية ومتداخل ثقافيًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا في العمق العربي والإسلامي، حيث الوشائج الاجتماعية مع سوريا والعراق وحتّى إيران والسعودية والخليج وفلسطين، وفي لبنان تطلّع تاريخي عند بعض الشرائح إلى الغرب عن قناعة أو عن تقليد قيمٍ وثقافة وتفكير ونمط حياة، وبالتالي يشكّل لبنان نقطة تقاطع صراع محلي دولي حاد بين نزعات عدّة أبرزها نزعة استقلال تتطلع لبناء لما يشبه ولا يشبه أحد آخر، وموقعه يفترض أن يكون في خدمة شعوب المنطقة ونهضتها وتقدّمها، بينما رأت النزعة الثانية أنّ استقلال لبنان لا يتأتّى إلّا من حضانة ورعاية الغرب ومشورته وتبنّي قيمه، مع العلم أنّ الغرب هو صاحب المشروع القيمي والسياسي لتدمير واقعنا والهيمنة عليه كما أسلفنا مطولًا، فهل يمكن أن تبنى السيادة والاستقلال بملاقاة الغرب وأنظمته أم بالنظر إلى لبنان وشعبه أنّهم جزءًا من الشعوب العربية الإسلامية ومخاطبتها والتفاعل معها ومع تحدياتها المتداخلة، أو تقاطع مصالح أو تعريف لدور جديد كما نسقت المقاومة لبنائه اليوم؟
– لبنان موجود في منطقة شكّلت محور السياسات الدولية لعقود من الزمن ولا تزال تحظى بأهمية جيوبوليتيكية كبيرة.
بعد هذه الإشارات ذات الصلة بنظريات الهيمنة الغربية والمنطقة وتحدّياتها، والعدو الصهيوني وتهديده كأخطر نموذج هيمني وأداتي، وبعد التطرّق لدولنا وما تعانيه من نقص سيادة -أي لا سيادة- وضعف استقلال وقوّة، هل لنا أن نتوقّع من أنظمتنا السياسية ومؤسسات دولنا العربية أن تقوم بتحقيق إنجازات عمومية لخدمة شعوبها؟ فهل من مصلحة الغرب أن تقوى هذه الشعوب وتنجز وتحقّق وتحرّر أم مصلحته أن تبقى ضعيفة وأن تؤمن سوقًا استهلاكيًّا له، وأن يساوم على حساب الشعوب مع الأنظمة ويتفرّد بكل على حدة؟ فهل لنا أن نطلب التحرّر من السجّان والعدالة من القاتل، أم نحتاج لمبادرة تتيح للشعب أخذ دوره وتخفّف عن الدولة المؤسسة ما أمكن من تبعات بحيث تنطلق المقاومة من حقانيتها الناجزة وتتسلل إلى المساحة المفرغة في واقعنا فتملأها دون أن تحمّل من لا يريد التحمّل تبعاتها، وبالآن ذاته لا توظف الغنم لصالحها، بل تقدّمه للعرب واللبنانيين ريثما تتيح الظروف والمعادلات إنتاج استقلالنا بطريقة أفضل وأمضى؟ فقد تكون المقاومة نموذجًا ضروريًّا لدولنا التي لا يراد لها أن تكون قوية وسيّدة قرارها، بما يفرض على المهيمن تفضيل الخيار القائم أو السماح لبناء تجربة دول مستقلة حقًّا وفعلًا، فتكون حالة المقاومة هنا محفز لأهل السلطة ليساوموا لصالح تعزيز سيادتهم بدل التخلّي عنها وتضييعها، فلا إمكانية لعالمنا العربي أن ينهض بنموذج دوله الحالي ولو كان لبنان. هذا لا يعني أنّه يمكن إزالة كل الالتباسات التي يمكن أن تواجه التجربة على الطريق بين المقاومة ودورها وفعلها، وبين السلطة والمؤسسات الرسمية، لكن لأنّ السياسة فن إدارة الواقع والتثقيل والتفاضل، فالواقع أثبت أنّه حتّى مع وجود بعض المساحات القابلة للتداخل والتشابك لكن تبقى النتائج مثالية مقارنة ببلد كلبنان الذي عادة ما تتداخل وتتناقض فيه نفس أجهزة الدولة ومؤسساتها، وتتجاذب رغم ما يُفترض من وحدة الآمرية.
فالمقاومة التي نتطلع إلى دور تحريري وفاعل يحقّق أفضل هدف بأقل ثمن ممكن على الدولة، يفترض أنّها تلازم بين فعل التحرّر الداخلي للإنسان، والتحرير الخارجي للأرض والسيادة المنتهكة، فلا يجب أن تكون حالة انفعالية حتّى لو أنّ اسمها مقاومة بمعنى رد فعل على اعتداء ظاهري، بل هي جهة عارفة نافذة البصيرة مخطِّطة. المقاومة تنشأ في ظل استعداد اجتماعي كامن وإرادة شعبية معتدّ بها، وقضية سيادية محضة، وفي ظل بيئة شعبية واثقة ومريدة، وليس في ظلّ مجتمع ضعيف متردّد غير مسيّس ولا يمتلك أدبيات وثقافة. والمقاومة مشروع قاصد هادف يحتاج لخطاب وبيان وسير حكيم، بل أيضًا قيادة تعرف ما تريد. انظر تجارب الثورات أو الصحوات العربية مؤخرًا – مصر ليبيا سوريا – انظر كيف فشلت في نيل شرعية وسارعت إلى الصدام مع الأنظمة وتشتيت قوّتها وتفرّقها، وعدم وجود هدف ووسيلة ناجحة لبلوغه. المقارنة تختلف عن هيمنة التجارب. المقاومة هي التكامل الواقعي بين صيغتين شرعية شعبية تتحرّك نحو غاية الدولة والمجتمع، وتنتج سلطة جديدة وفهمًا جديدًا، وبين سلطة تقليدية تحوز على شرعية لكن لا تستطيع أن تتحرّك في كل مساحات الفعل. المقاومة هي جسر العبور الآمن للمجتمعات بين الشرعية القديمة التي تكاد أن تولي، والجديدة المنبثقة المحقّقة للغاية العامة والجامعة ليتمكّن لبنان كما دولنا من الصمود والاستمرار في ظل العواصف السياسية العاتية.
والمقاومة لا يمكنها أن تستمر في تنافر مع السلطة التقليدية، ولا السلطة التقليدية المحاسبة أمام المجتمع الدولي والخاضعة لمعاييره – الظالمة – تستطيع أن تحقق سيادة واستقلالًا ناجزًا، ولا يمكنها بناء قوّة فعلية إذا ما أرادت أو رغبت كما تثبت وقائع قرن من الزمن في ساحتنا العربية. إذا كان الفعل المقاوم لا يحتاج إلى شرعية كون شرعيته ذاتية، إلّا أنّ استمرار المقاومة مرتبط بالتفاف الشعب وإصباغ التأييد المتنامي لها، والقناعة بجدوائيتها وصوابية خطابها ومناقبية سلوكها، وهذا تحدٍّ يواكب حركتها واستمرارها وتزخيمها.
الدولة – المقاومة.. وتقييم مسار العلاقة
في السلوك -المعيوش والتجربة: يسجّل أنّه وعلى مدى أكثر من عقود ثلاث وبالذات من دولة الطائف:
من الناحية العلمية والواقعية، كانت المقاومة قادرة على المجادلة والمساجلة مع خصومها في الداخل أنّهم يمارسون ما أدّى ويؤدّي إلى اختلالات بالغة الخطورة في التركيبة اللبنانية إن لجهة تغييب تاريخي لعدالة توزيع الثروة والقيم لحساب طرف، أو رهن مصالحه ومعاملاته لخارج أمريكي وغربي وعربي يصنّف المقاومة وشريحة لبنانية واسعة بالإرهاب ويلاحقهم منذ عقود. إنّ أي مشاركة ولو غير مباشرة لطرف لبناني لضرب طرف آخر وإضعافه هو إخلال بالمواطنية وإضعاف للروح الوطنية ومسار بنائها. ناهيك أنّ الاختلال التاريخي في السلطات الاقتصادية أو الاجتماعية ذات الرابط الخارجي تؤدّي إلى اختلال في الفرص بين اللبنانيين والمساواة، وأيضًا في العالم الخارجي حيث الأوّل يُدعم وتيسّر له السبل، بينما الفريق الثاني يلاحق ويُحرم دون أن يجد من يدافع عنه في دولته – هذا يعمّق إشكالية المواطنية وحق المواطن عند دولته – كما إنّ البعض قد ورث مجده وسلطانه من خلال الفرنسي فالبريطاني فالأمريكي على التوالي ما زاد من نفوذه وهيمنته في اللعبة الداخلية، ولم يبنِ مواطنية ولا عدالة ولا مساواة الحدّ الأدنى، ولكن هناك من قام من تحت الركام ومن قلب التهجير الإسرائيلي والتهديد الوجودي ولا يزال مهدّدًا كل يوم من الغرب الأمريكي وبعض الأنظمة العربية وإسرائيل، هذا البعض الكبير يحتاج أن تثبت له الدولة مصداقيتها، وتطمئنه في أمنه ومستقبله، وفي عدالة نسبية ومعقولة في بنية الدولة، وهو ما لم يتحقّق إلى الآن. هذه البيئة تسأل إلى متى أبقى معنية بالدفاع عن لبنان وعن وجودي وتبقى الدولة تراهن على الخارج – حليف إسرائيل – لحمايتي أو على المؤسسات الدولية المعطّلة والصورية؟ فهذه البيئة تشعر بالاستخفاف بها وبعذاباتها من الطبقة السياسية عندما تسمع هكذا خطاب يراهن على الخارج، بينما هي وجدت في لبنان إمكانية تحقيق ذلك وأكثر. إذًا هي على يقين أنّ العطوبة في الدولة بنيوية وإرادوية ليس إلّا.
وفي مقابل من يُظهر مخاوفه من تأثير السلاح على اللعبة الداخلية (وهو سؤال مشروع: سنفرد له فقرة تحت عنوان السيادة واحتكار القوّة) تجادل المقاومة وشعبها بالقول: إنّ المال الانتخابي والإعلام الموجّه والتضليلي هو أكثر تأثيرًا وفتكًا من السلاح على المسرح الداخلي وفي لعبة السيطرة والنفوذ كما تؤكد التجربة. ومع ذلك فإنّ رصانة وجدّية المقاومة وتواضعها تجعلها تضع موضوعة السلاح للنقاش ضمن رؤية لتحقيق حماية وأمن قيم البلد وهويته، وأيضًا لتأكيد رغبتها في تحقيق الهدف المنشود بقيام لبنان بما أمكن مقابل الابتعاد عن الجدالات العقيمة التي تزيد التشرذم بدل أن ندفع إلى تخفيف الحدّة.
يبقى نقطة أنّه قد يقول قائل: إنّ المقاومة تؤثر على أوضاع لبنان الاقتصادية وهي سبب أزمتنا! ومع انتفاء هذه الفرضية علميًّا واستقرائيًّا، لكن المفاجأة أنّ المقاومة في لبنان بدأت تأخذ في الآونة الأخيرة دورًا جديدًا، دور القادر على تخليق فرص اقتصادية بالماكرو للبنان، وتحرير خياراته الاقتصادية، وتعزيز موقعه التفاوضي الدولي والإقليمي، وتُسهم في خطابها وسلوكها لنقل اقتصاده إلى اقتصاد منتج وفعلي، بدل اقتصاد وهمي ريعي أثبت عقمه في عالم يتغيّر.
نخلص للقول: إنّ تجربة عقود ثلاثة من بعد الطائف كانت العلاقة بين الجيش والمقاومة تزداد رسوخًا وقناعة وتبادل أدوار وتنسيق – ولولا بعض المحطات الصغيرة – لكنّا تحدّثنا عن نموذج مثالي للعلاقة لم تُكتب له صيغة، بل تمّت ممارسته انطلاقًا من مسؤولية وطنية ووعي مشترك بين طرفي العلاقة، بحيث كان التقدير للتفاعل القويم تقديرًا ذاتيًّا ينطلق من عقلانية علمية وقراءة حصيفة لمصلحة لبنان. فالتجربة قالت إنّ أصغر بلد عربي حقّق أكبر إنجازات، وبات أكثر بلد عربي تأثيرًا وحيوية بأقل كلفة مقارنة بغيره (انظر السعودية خاضت حرب 8 سنوات على جارتها اليمن وتكبّدت خسائر هائلة في صورتها وسمعتها واقتصادها، وخرجت مهزومة في نهاية المطاف، وهي الآن لا تعيش الاستقرار الكلّي، وتتأرجح بين الاقتراب من أميركا وإسرائيل أكثر لحماية كيانها، أو الابتعاد عنهم وملاقاة قوى المنطقة). بينما تمكّن لبنان بـ 33 يوم من تحقيق ردع مع إسرائيل أهّله لاستقرار دام عقدًا ونيّف، وثبّت وجوده بقوّته الذاتية لا بالركون إلى حماية الآخرين، ممّا جعل تجربته وخطابه التحرّري ضالّة لكل الشعوب العربية للتأسي به، وتمكّن من حماية وحدته الجغرافية وتماسكه النسبي بضرب مشروع التكفيري الذي كان يهدّد مستقبل المنطقة.
لبنان.. وموضوعة احتكار السلاح
إبان وستفاليا؛ أي ما قبل 400 عام تقريبًا، كانت الأدوات مختلفة، والخلاف ليس على أصل الأمة وتمايزها وهويتها ودورها الذي تقدمت به البرجوازية الجديدة. إنّ التحول السياسي والمفاهيم التي انبثقت عنه كانت مسبوقة بتحولات قيمية واجتماعية وثقافية، ونظرة للحياة والدين والعلم، فكانت مسألة احتكار السلاح من الدولة خطوة لاحقة لقيامها أو بالحد الأدنى بعد تثبيت كينونتها، وكان ذلك بهدف بسط الحكم والسيطرة والامتثال للقانون المجري؛ أي إنّ احتكار السلاح أتى للمقاربة الداخلية وتثبيت الاجتماع بعد تحديد كينونة الاجتماع التي تبلورت، ولا يجب أن يُفهم من مقولتنا هذه أنّنا نحتاج إلى وقت مشابه أو مسار مماثل، إنّما قصدنا التدرج المنطقي، ولا بأس من توضيح مجموعة نقاط مساعدة لتحليل المسألة:
…. ولنا أن نسأل، إنّ الذين ينادوننا من وراء الحجرات معتبرين أنّ السلاح هو أكبر تهديد للبنان، هل غاب عنهم أنّ التهديد الأكبر للبنان هي سياسات أميركا وإسرائيل التي تفتك في لبنان وفي دولنا ومجتمعاتنا، تلك المرتبطة بالمؤسسات الدولية وتحيّزاتها وضغوطها، وسياسات تفجير المجتمعات داخليًّا، ومحاولات استنزافها اقتصاديًّا وماليًّا وتحويلها ثقافيًّا وتهجينها، أو إعلان حماية دولية لطرف مقابل إعلان الحرب بلا هوادة على طرف آخر بإلصاق الإرهاب عليه؟ فهل دولنا تحتكر ما هو أخطر من السلاح وتحتويه وتحول دون آثاره الكارثية من تبعية اقتصادية وتغلغل أمني، وتبعية عسكرية وتواجه دبلوماسية الإكراه والوعيد والمنع من المساعدة والتجويع؟ هل حكوماتنا حقّقت ذلك قبل أن تنتقل إلى مسألة السلاح، أيُّ الأمور أوْلى؟ الدولة عليها أن تجيب لا أن تسأل كالشعب.
… بعد كل ما ذكرناه نعود ونقول: إنّ وجود السلاح يبقى أمرًا استثنائيًّا، ويفترض أن يخضع لمنطق ومحدّدات إلى حين قيام الدولة أو وجود العزم لقيامها الفعلي، ويقف استخدامه على التزامات محدّدة خصوصًا عندما تكون السلطة لأسباب وأسباب غير قادرة على القيام بتثبيت حقوقها السيادية، أو إنّها لا تقوم بوظائفها ولا تستطيع أن تأخذ قرارها بنفسها وطبقتها السياسية وبعض أحزابها ومكوناتها نتاج عملية معقدّة من التخادم مع الغرب والشرق. دولة لا يوجد لديها تحديد معاني السيادة والاستقلال والعدو والصديق والمكانة المطلوبة؛ أي دولة غير مسيّسة، أي لا دولة، فهل السياسة في أبرز وجوهها إلا تحديد العدو والصديق؟ ما يجعل الشعب ينبري لذلك دون أن يعيش عقدة تقصير المؤسسة وحكومته، ويستغرق في الاتهام والبحث عن آلية محاسبة عن التقصير بحقه ولا يجد. فالقضاء اللبناني لا يحاكم الدولة والسلطة على خطيئتها وتقصيرها السياسي. ولا أن يوجّه غضبه نحوها، بل يبادر نحو الغاية بأرقى الصور ويجانب الوحول الداخلية والغنائم التي يتطلع إليها البعض، ويقدّم نجاحات باهرة تحقّق حماية وخدمة ومكانة لكل لبنان والعرب.
المقاومة ومسألة الحضور خارج الجغرافيا (بعد 2013)
يمكن تشخيص الاختلاف على حضور المقاومة في الخارج اليوم نتاج فرع تفاوت التشخيص للتهديد وليس أصل الموضوع كون المقاومة لا تريد ولا تبتغي ولا تتطلع إلى حضور خارج الأراضي اللبنانية كأصل وقاعدة. إنّ اختلاف القراءة للتهديد وعدم وجود مجلس للأمن القومي يحدّد المخاطر والتهديدات والفرص سيؤدّي إلى تعدّد التشخيصات. لكن لا بأس من الإشارة إلى حقائق تساعد في فهم وتفسير الحضور الخارجي للمقاومة كما في سوريا اليوم. إنّ منطق الجيوبوليتيك عالميًّا وخصائص منطقتنا خاصة تبيّن لنا استحالة فصل الملفات وتجزئة الساحات. إنّ عدوّنا يقارب ساحة الإقليم بشمول وبرؤية موحّدة، بينما يطالبنا أن نقاربها كوحدات مستقلة ومتفرقة. مضافًا لذلك، أنّه لم يعد في عالم اليوم من يقارب مسألة مواجهة عدوّه من منزله، بل أحيانًا كثيرة يحتاج أن يواجهه في المجال الحيوي أو في منطلق التهديد، وهذا يعني أنّك في الاستراتيجيا وإدارة الصراع تحتاج أحيانًا للهجوم الدفاعي ليس بقصد القفز فوق النهائية، بل بقصد المناورة العسكرية ومنع المحاصرة والتطويق. البعض لا يريد القبول بهذه المفاهيم ويريد للبنان أن يكون عروسًا تفرح بتصفيق الحاضرين باعتبار أنّهم جميعًا معجبون بها وفرحين لها… هذا هو الوهم بعينه، الواقع مختلف كليًّا، هو يريدك عروسًا طالما ذلك مفيدًا له، وليس لأنّه معجب بك ومتى ما احتاج بدّل نظرته. الواقع القائم اليوم هو أنّ الدول الكبرى والديمقراطية على وجه الخصوص تزيد من ميزانياتها الحربية أضعافًا على حساب الأمن والأمان الدوليين والشعوب الفقيرة والمستلبة. هل من أحد يشك أنّه لو هزمت المقاومة وانهار الحكم في سوريا، هل من أحد ينفي إمكانية إعادة لبنان إلى سوريا ثمنًا للتطبيع مع إسرائيل الذي يمكن أن يقدمه النظام الجديد؟ سنكون أمام لبنان 1840-1860 برعاية أمريكية إسرائيلية تركية بدل العثمانية الفرنسية البريطانية القديمة، والاقتتال كان سيد الموقف في الداخل.
في النتائج والخلاصات
أختم الكلام، إذا كان النقاش بين تهديد محتمل وتهديد وجودي قائم بالفعل، أيهما يجب كعقلاء أن نأخذ به أولًا؟ هناك مجتمع ودولة وغالبية لبنانية مهددة تهديدًا فعليًّا، تواجه تهديدًا وجوديًّا ومعلنًا وسافرًا ولا يتوقف من العدو الصهيوني وأميركا (يعتبر الأمريكي أنّ المقاومة تهديدًا لأمنه القومي)، في المقابل هناك من يعتبر وجود المقاومة يمكن أن يشكّل تهديدًا له.
المنطق والعقل يفرض أن نقدم التهديد الوجودي القائم على المحتمل إذا فرضنا صحته، لكن يبقى بين ذلك الكثير الذي يمكن قوله وفعله، وتجربة 4 عقود أظنّها كافية لمن يعتبر، وفيها ما يكفي لبناء الثقة والتطمين ورفع قدرتنا للخيال السياسي.
إنّ مطالبة البعض إدخال المقاومة بما هي في متن الدولة وبنيتها النظامية، يفترض أن يكون مسبوقًا ومتساوقًا مع الاعتراف الداخلي بها في بنية قيم الدستور اللبناني وقيمه وفي شتّى الأبعاد السياسية والفكرية والثقافية والقيمية والاقتصادية؛ لأنّ المقاومة قبل أي شيء وسبب نجاحها هو الفكرة والقيم التي حملتها، وحيوية المجتمع العابر الذي تبنّاها وشكّلت له مرجعية فكرية وسلوكية وثقافية.. هذا سيعني أنّ المقاومة كفكرة أصبحت في جوهر لبنان وهويته، وهذا سيعني أنّ لبنان الجديد سيكون بانتظار الجميع في الخارج والغرب بالخصوص، لبنان مقاوم في بنيته وقراره السياسي ومؤسساته، وحينها يصبح لبنان المقاوم الذي يعادي الهيمنة الغربية والإسرائيلية وأي هيمنة أخرى على السواء، وساعتئذ يمكنه أن يستفيد من الطاقة المجتمعية والمقاومة لتسند مؤسساته التي تكون متبنية للمقاومة وتمتلك قرارًا سياديًّا حرًّا. فإذا كان هذا ما يريدون فللبحث صلة، أمّا إذا كان الأمر هو بحث في إدماج مقاتلين في بنية تفتقر القرار والاستعداد والقيم والثقافة، فهذا إضعاف لقوّة لبنان ولن يقوى على حماية لبنان وتثبيت سيادته ومكانته. سيكون خسارة بالاتجاهين فقط.
أمّا ما دون ذلك فأفترض أنّ الأسلم للبنان في حالته الراهنة الإبقاء على هذا التنوّع بين سلطته ومقاومته، وتوزيع الأدوار وتعزيز هامش المناورة للسلطة وقوّة الموقف للمقاومة، والتجربة الأخيرة في ترسيم الحدود البحرية ونيل لبنان حقه ودخوله نادي دول الطاقة والغاز دليل على أنّ التكامل والتنسيق والفهم المشترك كل من موقعه هو الأفضل للجميع وللبنان ومسار بناء القدرة فيه ومعالجة التحّديات وتخليق الفرص.
عاجلًا أم آجلًا سنكون أمام أسئلة كبرى تتزاحم وتفرضها تحولات العالم وسيروراته بقوّة كبيرة، كيف نوفق بين الدولة القومية وحقوق الإنسان وبينها وبين الأخلاق والمقدّس؟ كيف ننظّم هذه الانتماءات ووفق أية رؤية ومعيار، أليس من حق الفرد بل من واجبه أن ينتصر للمقدّس إذا ما أهانه عدّوه، فما معنى الحياة بلا مقدّس؟ أليس من حقه نصرة مظلوم يستغيثه؟ هل الأولوية للمصلحة القومية أم للقيمة الإنسانية والكرامة أم للمقدّس أم للحقوق أم لدولة القانون، أم للديمقراطية العددية والآليات الإجرائية المنبثقة عنها لتحسم الخلاف؟ بكلمة أخرى نترك للتوازنات المتبدلة بين فينة وأخرى حسم الوجهة وما يعنيه ذلك من اضطراب دائم أم ندخل نقاشًا جديًّا في نقاش المرجعية الناظمة المفترضة لهذا البلد.
هوامش
*عود إلى لبنان، مشكلتهم تاريخيًّا كانت بحسب زعمهم مع المقاومة الفلسطينية التي شكّلت الذراع العسكري للسنّة والحركة الوطنية، ولما خرج الفلسطينيون من لبنان وبدأت المقاومة اللبنانية صار خطابهم أنّ المقاومة اليوم هي فارسية ولا يشبه أهلها تاريخهم وثقافتهم الماضية… كل ذلك فرارًا من الاعتراف بمسألة المقاومة للعدو الإسرائيلي كثقافة ونظرة واستشعار للعداء مع “إسرائيل”. فالعداء مسألة نفسية ونظرة ثقافية والتزام وقناعة وليست مسألة إسقاطية في الدستور.
وهذه الثقافة هي التي دفعت ببعض اللبنانيين لعدم إدانة جيش لحد كجيش تابع لإسرائيل ويتصرف بأوامرها وليس بإدارة الدولة اللبنانية، ولم يعتبروه جيشًا إسرائيليًّا إلخ، بل كرّموا قتلاه العملاء ما يعني أنّ الخلاف في لبنان عميق وليس سطحي، وثقافي وليس فقط سياسي كما يظن البعض.
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
Source URL: https://maarefhekmiya.org/16839/in-the-country/
Copyright ©2024 معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية unless otherwise noted.