فلسفة الدين ضد الفلسفة الدينية

by معهد المعارف الحكميّة | أغسطس 15, 2024 1:06 م

عقد المنتدى الفلسفي جلسته الدورية، التي تناقش قضايا ومشاريع وأبحاث فكرية بتاريخ 13 آب 2024 الساعة الرابعة عصرًا في قاعة معهد المعارف الحكمية بمنطقة سان تيريز، حيث استضاف سماحة الشيخ شفيق جرادي، الذي قدّم مقاربة معرفية جديدة تحت عنوان: “فلسفة الدين ضد الفلسفة الدينية”، حضر اللقاء عددًا من الأكاديميين والمهتمين بالشأن الفلسفي.

بدأ اللقاء بكلمة لمدير الجلسة الشيخ الدكتور سمير خير الدين، الذي عرض لفلسفة الدين وكيفية تعاملها مع الدين باعتباره ظاهرة دينية، فقامت بنزع القداسة، وجعلته موضوعًا للبحث بعيدًا عن المرجعية الإلهية التي تحكمه، وبعد كلمة مقتضبة، قدّم سماحة الشيخ، الذي بدأ كلامه بمقدمة، جاء فيها: “من المفترض أن نبدأ بتحديد الفلسفة والدين، ولكن سأخرج عن هذا الإطار لأسباب موضوعية بهذه الجلسة، لأنطلق نحو موضوع الضدية بين الاتجاهين: اتجاه الفلسفة الدينية، واتجاه فلسفة الدين، وحتى نستطيع أن نوازن الكلام، سأعرض الفكرة، ولكن سأقوم بقراءة فقرات أو فقرة نحتاج إليها أثناء المعالجة”.

انتقل سماحته بعد ذلك إلى الحديث عن الموضوع، فقال: “أخذ موقف إيجابي من الدين أو رفضه فلسفيًّا، ليس أمرًا جديدًا، والحدة بالتعاطي مع هذا الموضوع ليس جديدًا أيضًا، كما أنّ اعتبار الوحي من عدم اعتباره محورًا في انبعاث الدين ليس جديدًا أيضًا، والجديد أنّنا سنقرأ الدين فلسفيًّا مرة من دون العودة لمرجعية الوحي، والأخرى انطلاقًا من مرجعية الوحي، مرة يكون له دخالة في التأمل الفلسفي، ومرة في ما نسميه بهذا الذي يحرك الشأن الفلسفي عند الانسان ويتضمن حضور الوحي نفسه. لافتًا إلى أن الحاصل اليوم أنّ منشأ الفلسفة الحديثة من خلال المبحث الدينيّ من خلال الدين أو في حدود الدين، أسموا مساهمتهم فلسفة الدين من باب التعريف الذي يفصلها عن غيرها من اتجاهات تعنى بالمبحث الديني، وأبعدوا عنها كلّ ما يمت للوحيّ بصلة سواء كان لاهوتًا أو علم الكلام أو علم الدفاع عن العقيدة، فكلّ واحدة من هذه العلوم تفترق عن فلسفة الدين، حتى الفلسفة إذا انطلقت من الوحيّ وأقرّت بأمور ترتبط بداخله، وتعاملت فلسفيًّا مع شأن الوحي ومقرراته وحضوره السيادي وسلطة الوحي، إذا حصل ذلك لم تعتبرها من ضمن دائرة اهتمام فلسفة الدين. معتبرًا أن هذا النوع من الفلسفة سموها فلسفة وليس علم كلام وليس لاهوتًا وليس دفاعًا عن العقيدة، بل اطلقوا عليها اسم آخر هو الفلسفة دينية. فإذًا هذه الفلسفة هي فلسفة دينية بمرجعية تعود بإقرار بالوحي، وفلسفة الدين وسيادة هذا الوحي، فلسفة الدين تخففت من هذا الانتماء ومن هذه المرجعية واعتبرت أن اشتغالها يكون في مورد آخر.

وأضاف معلقًا على كلام الدكتور سمير: “يستشف من كلام الشيخ سمير أنّ فلسفة الدين أمرًا علمانيًّا أو إلحاديًا، وسأعود إلى نص لجون هيغ في كتابه “فلسفة الدين”، لأستعرض موقفه من الموضوع، ولنحدّد هل هو اتجاه إلحادي؟ يقول هيغ: “فُهم التفلسف الديني في السابق مدافعًا عن اللاهوت الديني، وغايته الاستدلال العقلي على وجود الإله، وهكذا يكون قد مهد الطريق لدعاوى الوحيّ،  فخير لنا أن نسميها باللاهوت الدينيّ وعلم الدفاع عن العقائد الدينية، أما فلسفة الدين، فهي التفكير الفلسفيّ حول الدين، تشبيهًا بفلسفة العلم والفن، ففلسفة العلم غير العلم، وفلسفة الفن غير الفن، وهي هذه القراءة الفلسفية للفن والعلم، وبالتالي فلسفة الدين ليست جزءًا من التعاليم الدينية، ولا ينبغي أن تعالج من وجهة نظر دينية، فالملحد والمشكك والمؤمن، جميعهم يستطيعون أن يتفكروا بفلسفة الدين، فهي جزء من الفلسفة، تدرس المفاهيم والمنظومات الاعتقادية كما تدرس ظواهر التجربة الدينية، فوظيفتها ليس إثبات وجود الله أو عدمه، إنّما وظيفتها تقييم الأدلة تقييمًا فلسفيًّا، أي فحص الأدلة والمنظومات عن طريق مرجعية العقل، وهكذا تكون فلسفة الدين نشاطًا من الدرجة الثانية، وهي لا تشكل جزءًا من المنظومة الدينية رغم ارتباطها به، فهي معرفة من خارج الدين”. هل يمكن للملحد أن يقوم بذلك؟ نعم يمكنه القيام به. هم أنفسهم قرروا أن فلسفة الدين هي من خارج الدين، أما عندما تكون من داخله هي فلسفة دينية.

تابع سماحته: أردت أن أدخل إلى الموضوع من سؤال ما هو الأصل في الفلسفة؟ هل هو الدخول في المباحث الفلسفية باعتبارها علمًا من العلوم؟ وهل الفلسفة تجعل الفيلسوف فيلسوفًا؟ أي الفلسفة هي التي تصنع الفيلسوف أو الفيلسوف هو الذي يصنعها؟ حينما عولج الموضوع اعتبروا أنّ السبب الداعي للفلسفة هو الدهشة، وأعطوا مثالًا على ذلك، أن الفيلسوف عندما ينظر إلى الطبيعة والكون يراها بعين غير مألوفة، ولا يراها بعين التكرار والسكونية التي لا تحرك شيئًا، فهي ترى شيئًا يثير فيك دهشة السؤال، فلماذا هي كذلك؟ وما هي هذه؟ مثل هذه الدهشة أنتجت جملة من المعارف صنّفت فيما بعد بالفلسفة وسميت مرة بالميتافيزيقا وأخرى بالفلسفة الأولى … هذه الدهشة هل تقتصر فقط على الشخص الذي ينظر إلى الواقع، أم أنّه بإمكان هذا الفيلسوف أن يشارك الآخرين بدهشته، ويمكن للآخرين أن يندهشوا بالأجوبة التي أطلقها والأسئلة التي حرضها لأجوبة الآخرين بأفقه الفلسفي وأفقه المعرفي؟ هل يمكن لأفلاطون أن يشارك أرسطو بالهموم بأفقه الفلسفيّ أم على الأخير أن يبدأ من الصفر؟ أعتقد أنه يمكنه ذلك، ويمكن لهذه الروح التواقة للمعرفة أن تتشارك مع أصحاب نفس الروح، وهذا يوصلنا للاستنتاج بأنه يمكن للفلسفة أن تكون فردية، ويمكنها أن تكون سائلة يتشارك الآخرين بها من خلال الروح التواقة للنظر إلى المألوف بطريقة غير مألوفة.

أضاف سماحته، بناءًا عليه، مرة نتعامل مع ما أطلق عليه فلسفة الدين باسم الوحي والمطلق باعتباره مسلّمة، ومرة نتعامل معه باعتباره واقعًا يثير الدهشة. إذا تعاملنا معه باعتباره يثير الدهشة، نستطيع أن نعتبر ذلك يشمل كلّ ما هو واقعيّ في حياة الإنسان، على هذا الأساس يمكن أن نعتبر الوحي حقيقة من الحقائق، وتعاملت معه ليس باعتباره مسلمة، إنّما كأمر أريد أن أتعامل معه بشكل عميق، في مثل هذا الأمر يتحول الاعتقادي أو الأمر الديني إلى منظور أو نشاط فلسفيّ. فالفلسفة لا تجعل من مسلماتها أمرًا دينيًا، ولكن الأمر الديني قد يتحول عند الفيلسوف إلى أمر يجب أن يقاربه بنظرة الناقد العقلي، أو الفاحص العقلي المستدل، فإذا برهن عليه تحول إلى أمر فلسفيّ.

ولفت سماحته إلى أنه لا بدّ من ملاحظة أن معظم من يقدم نظريات فلسفية أو فلسفة نراه يصوغها بطريقة تعليمية لا تثير الأسئلة، وهي منهج تعليمي سواء في صيغتها التقليدية أو الحديثة، وهي لا تثير السؤال، مما جعلها أمرًا مهنيًّا لا تحتوي روح التساؤل، فهي خالية من البرهان والأدلة واللغة المستخدمة فيها، نصل إلى إمكانية وجود فلسفة دينية وهي تختلف عن شيء اسمه علم الكلام لأنّها تعمل على تثبيت الحقيقة، دعونا نعتبر أن هناك فلسفة دينية وفلسفة دين، وهذه الأخيرة شقت طريقًا طويلًا من أجل إرساء فرع معرفيّ، وهي في عملها أبعدت عن مجال اهتمامها كلّ التقييدات الدينية، وعملت على إثبات مسائلها بعيدًا عن سلطة الدين، واعتبرت أنّه لا سلطة فوق حضور الإنسان، لذلك تعاملت مع الدين كظاهرة.

ختم سماحة الشيخ شفيق جرادي محاضرته بالقول: إن ما أطلق عليه اسم فلسفة الدين استطاعت أن تنشئ حقلًا ومناهجًا، ولكنّها راعت حدود الإنسان، أي السؤال بحدود الإنسانية، وهنا لا بدّ من ملاحظة، أنّ فلسفة الدين أتت من بيئة لاهوتية، ولكن مؤخرًا بعد مرحلة غادامر وفلسفة التأويل انشغلت على إعادة دراسة فلسفة الدين على أرضية تأثير التأويل، وأنصح بهذا المورد بقراءة كتاب “العوسج الملتهب”. في الناتج ما وصلت إليه يوفر دراسة لظاهرة دينية ترتبط بالتدين ليس بالدين، والحديث عن التدين ليس خارجًا عن الدين، أي ليس خارج الظاهرة، وهنا يطرح سؤال: من الذي يحق له الحديث عن الدين في معناه الثابت في الأذهان، والذي اعتبره أمرًا واقعًا أتى برسالة للناس؟ أعتقد أنّها الفلسفة الدينية. مشيرًا سماحته أنّ أغلب من تحدث عنها، اعتبر أنّها انتهت عند ابن رشد ولكن البعض الآخر اعتبرها استمرت وصولًا إلى الملا صدرا. والذي أريد أن أتشارك التفكير فيه ضرورة العمل البحثي على الفلسفة الإسلامية خارج الإطار التعليمي من خلال الأفق الذي وصل إلى ذروته مع صدر الدين الشيرازي لكي نعايش اللحظة التي نحن فيها، وبحيث نؤسس استكمالًا لهذا الأفق الفلسفي، ولهذا الأمر إرهاصته مع الفيلسوف يد الله يزدان بناه في كتاب فلسفة الفلسفة. 

ختم اللقاء بنقاش علمي، تطرق إلى بعض الموضوعات التي وردت في كلمة سماحة الشيخ، لا سيما فيما يتعلق بموضوع الضدية بين فلسفة الدين والفلسفة الدينية، وأكدوا على ضرورة تفعيل العمل البحثي والنقاشي في هذه الموضوعات لأهميتها.

  


اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

Source URL: https://maarefhekmiya.org/16869/falsafa-6/