الروحانيّة الحديثة والتصوّف الإلحادي* (10)
الروحانيّة الحديثة
مذهب فلسفي اعتقادي إلحادي غير ديني، يسعى للإجابة عن الأسئلة الحياتية الكبرى (الله، الكـون، والإنسان) عبر التجربة الغنوصية. تقـوم على الفلسفات الشرقية، وبعض الديانات الوثنية، والفلسفة اليونانية، وعقائد غلاة الصوفية، فتتبنى العقائـد التي تتضمّن القول بوحدة الوجـود، وتأليـه الـذات الإنسانية، ووحدة الأديان.
تستغني الروحانية الحديثة عن أي مصدر خارجي لتحصيل المعرفة، فالمعارف بحسبهم تُكتشف من الداخل وتحصيلها يكون باطنيًّا عن طريق فلسفات الفيض “والإشراق” والغنوص – مثل العلم اللدني لدى الصوفية – لا عـبـر وسـاطة الأنبيـاء ونصوص الوحي.
الروحانيّة والتصوّف
يُلقب رواد الروحانية الحديثة أنفسهم بـ”المعلم الروحاني”؛ لأنّهـم يـرون أنهم يتلقّون من مصادر عليا، ويتّصلون بمصادر إلهاميّة وحدسيّة، فالروحانيّة الحديثة هي نسخة مطوّرة من التصوّف الغالي، تحت عبارات ظاهرها الخير، وباطنهـا الضـلال، كالحب والسلام والحكمة والتنوير، فالحكمة عندهم مثلًا هي طريق الـوصـول لمعرفة الحقيقة الإلهية للإنسان، وأنه بضعة مقدسـة مـن الإله، أو نفخة منه، فإذا اكتشف ذلـك وصـل إلى الحكمة المنشودة وهي “تأليـه الـذات الإنسانيّة”.
يقول أوشو في هذا الصدد؛ وهو معلم وفيلسوف هندي بوذي صوفي ومن أبرز الروحانيين المعاصرين: “فالشخص الواعي لا يأخذ ماء من الآخرين، إن الماء ينبع من داخله، إنه ينبـع مـن وجـوده؛ لذا فهـو لا يمكـن أن يكـون هندوسيًّا، ولا مسيحيًّا، الشخص الواعي لا ينتمي إلى أي مذهب”.
إنّ تأثر الروحية الحديثة بالتصوف الغالي يظهر جليًّا في عقيدة وحدة الوجود، وتبجيل رموز الصوفية مثل “الحلاج”. يقـول أوشـو: “يمكـن أن يوجـد الـصـوفي في أي مكـان وبأي شكل؛ لأن التصوف هو جوهر جميع الأديان الأساسي، يمكن أن يوجد التصـوف دون علاقة بدين، ولكن لا يمكن أن يوجد الدين دون التصوف، فلا يقـوم الشيء دون جوهره، بينما يزداد الدين حيوية مع الوصول إلى جوهره، حينمـا يكـون الدين حيًّا، فذلك فقط بسبب التصوف، الذي يعني ببساطة علاقة حب الإله، ومحبة المطلق، وحب الكل الكامل، وهـو يعني أن الإنسان جاهز كي يذوب في الكامل، ومستعد لاستدعائه إلى داخل قلبه”. وهذا تصريح واضح بأنّ التصوّف هو جوهر الأديان، وأنّ وجوده ليس حكرًا على وجود علاقة له بأي دين من الأديان. ويتابع أوشو في حديثه عن التصوف الروحي: “كلمة جميلة التصوف: وهي تعني الذي يعرف، والصوفية تعني المعرفة”، ويصرّح بوحدة الوجود فيقول: “إنّ الإله الحقيقي ليس إلـه مؤسّسات الأديان، إنّ الإله الحقيقي ببساطة هو الإله، كل شيء، وكل أحد ينتمي إليه، وهو لا ينتمي إلى أي أحد”. ويثني “أوشو” على “الحلاج” بأنّه أعظـم الزهّاد والحكماء في الصوفية، وأنه وصل إلى الحقيقة حين صرّح بأنّ الإله كامن فيه، وأنّه كان يبتسم ويضحك حين قتلوه، فالحقيقة عند “أوشو” هي ما وصل إليه الحلاج من اعتقاد ألوهيّة ذاته، ولذلك صُلب.
وتعتبر الروحانيّة أنّ الوصول الحقيقي إلى الروح الكلي يتم عبر السلام الداخلي والحبّ، والنفور من الخوف من الإله واستبعاده، فهم يصرّحون بأن الإله هو الحب، يقـول أوشـو: “الله الحقيقي مقرون بالمحبة والتسامح، لا تجعـل مـن صـلاتك تعبيرًا عن خوفك، هذا ما يوصي به جلال الدين الرومي”. ويرى أن الطريق للحـب لا يكون إلا بـدخول عالم التصوف فيقول: “وحدهم المتصوّفون يعرفون الحب، ووحدهم عاشـوا ويعيشون تجربـة الحـب”.
أمّا مصادر الهداية الروحية فهي داخلية ذاتية تعتمد على الحدس، والأصوات الداخلية، والإلهامات، وغيرها مما لا يمكن إثباتها بحال.
نستنتج إذًا، أنّ الصلة وثيقة بين الروحانيّة الحديثة والتصـوّف الغالي: ففي مصادر التلقّي، يعتمـد كـل منهما على المصادر الروحية في تحصيل المعرفة الدينية. وفي عقيدة وحدة الوجود، وفي دعوى أنّ الوصول إلى الإله يكون بالحب مع استبعاد الخوف والتنفير منه، وأخيرًا في تعظيم وتبجيـل غـلاة الصوفية، ومن أبرزهم: الحلاج، وجلال الدين الرومي، وابن عربي، وغيرهم.
الروحانيّة والإلحاد
يتّفق الإلحاد المادي والروحاني مع فرضيّة التطوّر، بل إنّ فرضيّة التطوّر عند الروحانيّة الحديثة تضاهي فرضيّة التطوّر لدى الداروينيّة، فهي عند الداروينيّة مقتصرة – رغم شناعتها – على إنكـار الخالق، وإمكان تطوّر المخلوقات من جنس لآخر في نطاق المخلوقين، وهي قائمة على ما يسمى بالصدفة، بينما عند الروحانيين تُعتبر بداية ساذجة لتطـوّر أعمق، وهو التطوّر من مخلوق إلى خالق، فتأليه الذات الإنسانيّة واضح جدًّا عندهم، وهو أمر يبرز جليًّا في عباراتهم التي يردّدونها في كتبهم: “أنت بضعة من الإله”، “قداستك في داخلك”.
فهـم يؤكّدون أن ّالأصل في البشر “الألوهيّة”، وهو أمر لا يقتصر فقط على إنكار وجود خالق مع وجود کائنات مخلوقة، ولكنه ينتقل إلى مرحلة إنكار صفات المخلوق المحدودة، وادّعاء إمكانيّة خلع صفات الخالق عليه.
فعند الروحانيين يتطوّر الشخص في مستويات الـوعي بممارسة “التأمّل” حتى يكون قادرًا على الخلق والشفاء؛ لأنّه إله!
يقول أوشو: “يقولون لقـد ذهبت إلى المكان الذي أتيت منه، هذا قانون مقـدّس: النهاية لا يمكن أن تكون إلا بدايةً حيث تغلق الدائرة، وتصبح كاملة وتامة، وتصـل لتلك النقطة التي بدأت منها، النهاية لا يمكن أن تكون إلا بداية، والموت لا يمكن أن يكون إلا ولادة”. نلاحظ أنّه في كلامه يقرّ بشكل صريح بالإلحاد.
إضافة إلى ذلك نجد في أدبيّاتهم الكثير من الأوصاف العرضية التي لا تقوم بذاتها مثل قـولـهـم بـأن وجـود “الإلـه”، أو كمـا يسـمونه “الـوعي”، أو “الطاقـة”، أو “اللاشيء”، أو “المطلق” وجود مطلق، ليس له ذات، أو صفات، أو وجود في الخارج عند التحقيق، وهذه كلها تعكس صـور الإلحاد عندهم، كما أنّها ترجع إلى تأليـه الـذات الإنسانيّة وتقديسها؛ فـ”المطلق” مرادف للوعي، والوعي هو “الإله”.
يقول أوشو: “لا هدف للحياة سوى ذاتها؛ الحياة هي الاسم الآخر لله، لكل ما في هذا الكون هدف، وكل ما في هذا الكون إلى زوال، إنما يبقى شيء واحد لا بداية له ولا نهاية، شيء واحد لا هدف له إلا ذاته: سمّه الوجود إن شئت، سمّه الله إن شئت، أو سمّه الحياة إن شئت. ثلاثة أسماء، هي أسماء لحقيقة واحدة، حقيقة وجـودك علـى هـذه الأرض، حقيقة عيشك للحياة”.
وتظهر جرأتهم البالغة في الطعن والقدح في الذات الإلهية، واحتقار اسم “الله” وأنّه لا مانع مـن استبداله إذا كنت لا تشعر بالمحبة باستعماله، إضافة إلى وصف الاعتقاد بفكرة الإله بأنّها قذرة، إلى غيرها من الأوصاف البشعة التي تدلّ على شدّة إلحادهم وكفرهم بالله جل وعلا.
خلاصة (الرؤية الإسلامية)
إذا تأملنا في العمق الإسلامي سوف نجد الروحانيّة بقوّة في ثنايا هذا الدين، ولكنها الروحانية بالمفهوم الإسلامي والتي تختلف كليًّا عما وجدناه في الروحانية الحديثة، والتي تبيّن لنا أنها كفر وإلحاد في حقيقتها.
فالروحانيّة بالمفهوم الإسلامي هي تلك العلاقة الإلهيّة والربوبيّة بين الله تبارك وتعالى الخالق، وبين الإنسان المخلوق، وهي أيضًا تجسيد للفضائل الأخلاقيّة والسلوكيّة وجميع ما يحتاج إليه الإنسان لسعادته، وهي الحياة التي يعبر عنها القرآن الكريم بالحياة الطيبة، وجوهر هذه الحياة الطيبة هو التوحيد، أي محوريّة الله تعالى التي تتضمّن فهم الوجود في إطار وجوده تعالى، ومن ثم العمل والسير نحوه، كما وتمثّل الشريعة المحور الأساس الذي يمهّد درب الوصول إلى الله سيرًا وسلوكًا، والروحانيّة في الإسلام لم تهمل دور العقل، فالمعرفة الشهودية تقع في طول المعرفة العقلية وبه يُستعان لإثبات الحقائق والكشفيّات وإقناع الآخرين.
خاتمة
عن رسول الله (ص): “أقرب الناس من درجة النبوّة أهل الجهاد، وأهل العلم”. (محمد الريشهري، ميزان الحكمة، الجزء3، الصفحة2067).
لطالما كات وظيفة الأنبياء (ع) بيان الحق للناس، وهدايتهم إلى الرشاد، قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِۦ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾ (سورة إبراهيم، الآية 4).
ومع انقطاع النبوّة تنتقل وظيفة التبيين والإرشاد إلى العلماء ورثة الأنبياء.
واليوم وفي عصر تزييف الحقائق وإضلال الناس، يصبح التبيين جهادًا على كل إنسان مسلم قادر على القيام بدوره انطلاقًا من موقعه.
يقول الإمام الخامنئي (دام ظلّه): “أولوا أهميّة لقضيّة التبيين، ثمّة حقائق كثيرة ينبغي تبيينها، في مواجهة هذه الحركة المضلّلة التي تتدفّق من مئة اتجاه للتأثير على الرأي العام، فإنّ حركة التبيين تحبط مؤامرة العدوّ وحركته. إنّه بمنزلة الواجب على كلّ واحد منكم أن تنيروا ما حولكم كالمصباح”.
لذلك، وأمام هذا الخطر (القديم، الجديد) وما يحمله من دعوات هدّامة ليس للدين فقط بل للإنسانيّة جمعاء، تصبح الوظيفة اليوم هي التبيين سلاحنا الفعّال والمؤثّر في مواجهة إمبراطوريّة ” قلب الحقائق” وفي كشف الحقائق، وهدم الأصنام الجديدة التي ترتدي الكثير من الأقنعة الفكريّة واللافتات البرّاقة.
المصادر والمراجع التي تمّت الاستفادة منها:
مصادر ومراجع:
- أديب صعب، وحدة في التنوّع.
- د. فوز بنت عبد اللطيف الكردي، الإلحاد الروحاني المعاصر، مجلة كلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنات بكفر الشيخ، العدد الرابع- الإصدار الثاني، المجلد الأول لعام 2020.
- د. فوز بنت عبد اللطيف الكردي، حركة العصر الجديد، موسوعة السبيل.
- د. فوز بنت عبد اللطيف الكردي، المذاهب الفلسفية الإلحاديّة وتطبيقاتها المعاصرة، مركز التأصيل للدراسات والبحوث، 2015.
- د. هيفاء بنت ناصر، حركة العصر الجديد (مفهومها ونشأتها وتطبيقاتها)، مركز التأصيل للدراسات والبحوث، 2015.
- الدكتور أحمد ماجد، محاضرات في الفرق والمذاهب.
- س.حسين القبانجي، شرح رسالة الحقوق للإمام زين العابدين، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، طبعة 2002.
- س. عباس نور الدين، الحياة الأخلاقية للمسلم الواقعي.
- س. محمد باقر الصدر، تعليق على مقدمة الصحيفة السجادية.
- سلمان عبد الأعلى، الإمام زين العابدين وروحانية الحركيين، كتابات في الميزان.
- الشهيد مطهري، الدين والمجتمع.
- فاطمة آل يوسف، دروس في فلسفة الأخلاق، سلسلة محمد التهامي الحراق، الأنوار لا تتزاحم… من أجل أفق تحريري بالدين لا من الدين، دار أبي رقراق، الرباط،
- دروس مباني الفكر الإسلامي 1453 هـ.
مجلات ومواقع إلكترونيّة:
- الباحث مصطفى نشار، مفهوم الدين وتصنيف الأديان، مجلة الاستغراب.
- مركز الأبحاث العقائدية، أسئلة حول عقيدة وحدة الوجود.
- جمعية المعارف، مبادئ علم العرفان.
- مجلة العلوم الشرعية، موقع إلكتروني، بحث الرُّوحانية الحديثة وصلتها بالإلحاد.
- أحمد دعدوش، البحث في الدين، موقع السبيل.
- يحيى خالد ملص، دين الفرد في مواجهة دين الجماعة، قراءة في كتاب تنويعات التجربة الدينية.
- موقع اسأل البيضاء.
- موقع سماحة السيد كاظم الحائري.
- موقع السيد منير الخباز.
- موقع Ir الإعلامي، نصّ كلام الباحث اللبناني هادي قبيسي.
- موقع الميادين الإلكتروني، هل نحتاج اليوم إلى التصوّف والفكر الصوفي؟
* ملف من إعداد طالبات في معهد المعارف الحكمية، وبإشراف الدكتور أحمد ماجد، وهو عبارة عن سلسلة مقالات ستنشر على موقع المعهد، وسيتم ذكر المصادر التي استخدمتها الطالبات في هذا المبحث الأخير من السلسلة.
المقالات المرتبطة
مستحدثات الديمقراطيّة العربيّة: فتنة القول في فتنة العمل
لم يكن لحادث تاريخيّ أن يحظى بتلك الوفرة من الجدل حول ماهيّته وهويّته ومآلاته المنتظرة، كالحادث المتمادي على مساحة العالم العربيّ منذ بداية العام 2011.
الإنسان المحور
عن رؤيته للأديان، وفلسفة الدين، والإنسان وموقعيته، كان لنا حوارًا طويلًا في لقاء جمعنا مع البروفيسور بولس خوري
إبستمولوجيا الوحي عند العلامة الطباطبائي
لمّا كان للخلقة غاية، وهي العبادة، فإنّ الهداية، ولا بد، ملازمة للخلقة.