موضوع الفلسفة وتعريفها (2)
موضوع الفلسفة: يقول الشهرستاني: “الفلسفة باليونانية محبة الحكمة، والفيلسوف هو فيلاوسوفا. وفيلا philo هو المحب، وسوفيا sophia الحكمة، أي هو محب للحكمة. والحكمة قولية وفعلية.
أ- الحكمة القولية: وهي العقلية أيضًا، فهي كل ما يعقله العاقل بالحد، وما يجري مجراه مثل الرسم، والبرهان، وما يجري مجراه مثل الاستقراء فيعبّر عنه بهما.
ب- الحكمة الفعلية: فكل ما يعقله الحكيم لغاية كمالية.
(…) [والفلاسفة] قالوا: العلم ينقسم إلى ثلاثة أقسام: علم ما، وعلم كيف، وعلم كم. فالعلم الذي يطلب فيه ماهيات الأشياء هو العلم الإلهي، والعلم الذي يطلب فيه كيفيات الأشياء هو العلم الطبيعي، والعلم الذي يطلب فيه كميات الأشياء هو العلم الرياضي.
(…) الموضوع في العلم الإلهي: هو الوجود المطلق. ومسائله: البحث عن أحوال الوجود من حيث هو وجود.
والموضوع في العلم الطبيعي: هو الجسم. ومسائله: البحث عن أحوال الجسم من حيث هو جسم.
والموضوع في العلم الرياضي: هو الأبعاد والمقادير. وبالجملة: الكمية من حيث إنها مجردة عن المادة. ومسائله البحث عن أحوال الكمية من حيث هي كمية.
والموضوع في العلم المنطقي: هي المعاني التي في ذهن الإنسان من حيث يتأدى بها إلى غيرها من العلوم. ومسائله البحث عن أحوال تلك المعاني من حيث هي كذلك.
قالت الفلاسفة: ولما كانت السعادة هي المطلوبة لذاتها، وإنما يكدح الإنسان لنيلها والوصول إليها، وهي لا تنال إلا بالحكمة. فالحكمة تطلب إما ليعمل بها، وإما لتعلم فقط. فانقسمت الحكمة إلى قسمين: عملي وعلمي”[1].
2- تعريفات الفلسفة: يطرح سؤال، يستحق التوقف عنده، هل التعريف سلب كما يقول سبينوزا أم هو “إنشاد الضالة” كم يقول الرازي[2].
- الفلسفة هي دراسة الوجود: ويعرّف أرسطو الفلسفة بأنها “البحث عن علل الأشياء ومبادئها الأولى”[3].
أما الفلسفة الأولى فتتجاوز الموضوعات أو الموجودات التي تدرسها العلوم المختلفة إلى الوجود في مجموعه، وعلى إطلاقه، وكما يقول أرسطو: “الوجود من حيث هو وجود ولواحقه أو مبادئه التي تلحقه لذاته”[4].
وذلك بخلاف ما ذهب إليه معلمه أفلاطون من أن الفلسفة هي بحث عن الوجود الحق -أي عالم المثل أو الكليات الأزلية التي يفصح عنها عالم الحس إفصاحًا ناقصًا.
وقد حدد أرسطو أهم الخصائص التي تميز الروح الفلسفية فنص على صفات كثيرة منها: الشمول بمعنى أن الفلسفة تتصف بروح التأليف والجمع والتوحيد، ثم التجريد والسمو النظري، بمعنى أن على الفيلسوف أن يرقى إلى أعقد المشكلات وأكثرها عسرًا وأبعدها عن الواقع العيني، ثم النزاهة وامتناع الغرض، بمعنى أن الفلسفة لا تنشد منفعة، بل تطلب لذاتها، ثم الاستقلال والتفوق، بمعنى أن الفيلسوف رجل حر لا يخضع لحكم غيره، وأخيرًا صنعة الألوهية، على اعتبار أن للفلسفة طابعًا إلهيًّا يجعل منها أشرف العلوم، فضلًا عن أننا بها نشارك الآلهة، إذ نرقى إلى درجة التأمل الخالص أو النظر المحض[5].
أما ياسبرز[6] فيقول: “بينما يتجه الإدراك العلمي إلى الموضوعات الفردية التي يتعين أن يلم بها كل شخص على أي حال، فإن الفلسفة تعنى بالوجود في كليته”[7].
أما هايدغر[8] فيعرّف الفلسفة بأنها وعي “الفهم الوجودي” الأصلي السابق على الانعكاس، ويؤكد باستمرار أن الشيء الأساسي في الفلسفة ما دامت تتغلب على أخطاء الميتافيزيقا، هو الأسلوب الخاص (الظواهري، التأويلي) في علاقة الفكر بالوجود.
وهايدغر في تفسيره لكلمة فيلوسوفس استنادًا لهيراقليطس: الحكمة (Sophos) تقول: “الواحد هو الكل”. وبالكل يعني هنا الكلية، كلية الموجود. والواحد يعني به ما هو واحد، الأوحد، الذي يوحِّد الكل. والموحِّد هو كل ما كان موجودًا في الوجود. وتقول الحكمة: كل ما كان موجودًا فهو في الوجود. وبدقة أكثر نقول: الوجود هو الموجود (…) تبحث الفلسفة إذن عن الموجود، بما هو كذلك، أي إن الفلسفة هي بطريقها للبحث عن وجود الموجود.
وبعبارة أخرى إنها تبحث عن الموجود بالنظر إلى وجوده”[9].
- الفلسفة هي دراسة كل ما يوجد: كتب هيغل (1770- 1831) “يمكن تعريف الفلسفة بصورة مبدئية بوجه عام بأنها الفحص الفكري للموضوعات”؛ أي إن “الفلسفة تشكل أسلوبًا خاصًّا للفكر، أسلوبًا للفكر تصبح به إدراكًا، وإدراكًا بواسطة مفاهيم…”[10].
أما فيورباخ (1802- 1872) فيقول: “الفلسفة هي إدراك ما هو، والقانون الأعلى، المهمة الأسمى للفلسفة هي أن تتصور الأشياء، أن تعرف الأشياء كما هي”[11].
3- الفلسفة هي دراسة ذلك الذي لا يوجد: في الواقع ذلك الذي يتجاوز مع كل واقع وأي معرفة به كمعيار، أو مقياس للقيمة، ذلك الذي له أهمية لا تلغيها بأي حال حقيقة أنه بوصفه مثلًا أعلى Ideal لا يملك وجودًا حاضرًا.
وتُعرف ظواهرية (phénoménologie)[12] أدمون هوسيرل (1859- 1938) الفلسفة بأنها نظرية تستبعد، عمدًا، من مجال دراستها العالم الخارجي، وذلك الذي يعتبر معرفة به، أي المعطيات العلمية[13].
وقد ادعى هوسرل أنه محايد في الفلسفة وحاول أن يوحد “الوعي المحض”، المنفصل عن الوجود بالوعي بالذات العينية (الفرد)، وقال إن هذه هي الطريقة لتحقيق “الماهيات المحضة” في مثالية أفلاطون الموضوعية[14].
- . الفلسفة نظرية: أي نسق من التصورات والمفاهيم والمعرفة ومناهج اكتسابها فيما يتعلق بواقع محدد[15].
- . الفلسفة نشاط: الفلسفة ليست نظرية وإنما نوع من النشاط الفكري الذي له غرض وظيفي، ولكن ليس له موضوع بحث.
- 6. الفلسفة الإيضاح المنطقي: يعتبر فيتغنشتاين [16] (1889- 1951): “موضوع الفلسفة هو الإيضاح المنطقي للأفكار. فالفلسفة ليست نظرية وإنما نشاط، ويتألف العمل الفلسفي في الأساس من توضحيات. ونتيجة الفلسفة ليس عددًا من (القضايا الفلسفية)، وإنما جعل القضايا واضحة. يتعين على الفلسفة أن توضح وأن ترسم بخطوط حادة حدود الأفكار، والتي تكون – لولا ذلك – مبهمة وضبابية”[17].
- 7. الفلسفة علم: وهي تستطيع على أي حال – وينبغي- أن تكون علمًا. فديكارت (1596- 1650) يعتبر أن الفلسفة فوق كل العلوم “هذا العلم ينبغي أن يتضمن البدايات الأولى للعقل الإنساني، وأن يخدم – بالإضافة إلى هذا – في استخراج من أي موضوع الحقيقة التي يتضمنها”[18].
ويطرح كانط في كتابه “نقد العقل الخالص” السؤال: “هل الميتافيزيقا ممكنة كعلم؟ فإذا كانت ممكنة، فَتَحْتَ أية شروط؟ وبعبارة أخرى، بأي معنى تكون الفلسفة ممكنة كعلم؟”، ويتحدث عن إخفاق كل المحاولات السابقة لبناء فلسفة علمية، فيلاحظ: “بهذا المعنى فإن الفلسفة هي فحسب فكرة علم ممكن، ليس موجودًا بصورة عينية، في أي مكان، ولكننا نكدّ للاقتراب منه بطرق مختلفة”[19].
ويواصل كانط قائلًا: “وإلى أن يحدث هذا فإن الفلسفة لا يمكن تعليمها، إذ أين هي في الحقيقة؟ من الذي يهيمن عليها؟ وبأي علاقة ستعرف؟ إنما نحن نستطيع أن نعلم التفلسف، وبعبارة أخرى، أن نمارس هبة العقل على أمثلة متاحة في اتباع مبادئها، بينما يتم الاحتفاظ دائمًا بحق العقل في البحث في نفس مصادر هذه المبادئ وتأكيدها أو رفضها”[20].
8 . الفلسفة ليست، ولا يمكن، ولا ينبغي أن تكون علمًا: حيث إن الاعتراض الأساسي أنه لا يمكن التحقق من صدق قضاياها علميًّا[21].
- الفلسفة نظرة إلى العالم: وتكمن الفكرة وراء هذا التفسير في إنكاره لأهمية المضمون الموضوعي لنظرة ما إلى العالم[22].
- مهمة الفلسفة ليست تفسير العالم، بل تغييره: وهذا هو ما طرحته الفلسفة الماركسية التي اعتبرت نفسها “تجسيد وتحقق للفلسفة عبر العمل السياسي، وعبر البروليتاريا”[23].
على أن الدكتور عمر فروخ يعتبر أن الفلسفة في التعريف استقرت على أنها “نظام شامل ذو مقدمات ونتائج منطقية يقوم عليها تعليل مظاهر الوجود بغية إدراك الموجودات على ما هي عليه فعلًا من فهم أسبابها ونتائجها وتبيان قيمتها الذاتية، بالإضافة إلى كل موجود بنفسه، ثم تعيين مرتبة كل موجود منها، بالإضافة إلى كل موجود آخر”[24].
[1] أبي الفتح الشهرستاني (479- 548هـ)، الملل والنحل، تحقيق: محمد سيد كيلاني، بيروت، طبعة دار المعرفة، 1982، الجزء 22، الصفحتان 58و 59.
[2] محمد بن أبي بكر عبد القادر الرازي، مختار الصحاح، مصر، در إحياء الكتب العربية، د.ت، الصفحة 328.
[3] دكتور ماجد فخري، أرسطو، بيروت، الدار الأهلية للنشر، الطبعة 2، 1977، الصفحة 21.
[4] أرسطو، ما وراء الطبيعة، مذكور عند د.فندي، مع الفيلسوف، مرجع مذكور، الصفحة 81.
[5] مذكور عند دكتور زكريا إبراهيم، مشكلة الفلسفة، مرجع مذكور، الصفحة 33.
[6] 1883- 1969 وهو أحد الدعاة البارزين للوجودية الألمانية، الموسوعة الفلسفة، مرجع مذكور، الصفحة 590.
[7] ك. ياسبرز، مقدمة في الفلسفة، مذكور عند ثيودور وأيزرمان، تطور الفكر الفلسفي، ترجمة: سمير كرم، بيروت، دار الطليعة، الطبعة 3، 1982، الصفحة 119.
[8] 1889- 1976، أحد مؤسسي الوجودية الألمانية، وتقول الموسوعة الفلسفية: “إن التشاؤم العميق والعداء الشديد للعلم كامنان في وجودية هايدغر”، مرجع مذكور، الصفحة 565.
[9] مارتن هايدغر، ما هي الفلسفة؟ مجلة العرب والفكر العالمي، بيروت، ترجمة: دكتور جورج كتورة، الصفحة 27، العدد الرابع، 1988، [22- 33].
[10] المرجع نفسه، الصفحة 122.
[11] فيورباخ، الفلسفة النقدية ومبادؤها (1839- 1846)، مذكور عند وايزرمان، الصفحة 122.
[12] “أن الفينومينولوجيا هي دراسة الظواهر دراسة وصفية، كما تتراءى لنا في الزمان والمكان، خلافًا لدراسة القوانين المجردة والثابتة التي تنظم الظواهر، وخلافًا لدراسة الحقائق العالية التي تكون الظواهر تبديات لها، وخلافًا للنقد المعياري الذي يتطرق لشرعية هذه الظواهر”.
Lalande, vocabulaire technique et critique de la philosophie, p.u.F, Paris.19. maturé: phénoménologie.
[13] مذكور عند وايزرمان، الصفحة 123.
[14] الموسوعة الفلسفية، مرجع مذكور، الصفحة 564.
[15] وايزرمان، تطور الفكر الفلسفي، مرجع مذكور، الصفحة 124.
[16] فيلسوف وعالم منطق نمساوي وأحد مؤسسي الفلسفة التحليلية، وقد أثرت أفكاره كما جمعت في كتابه “مباحث فلسفية” في الفلسفة اللغوية، الموسوعة الفلسفية، مرجع مذكور، الصفحة 327.
[17] رسالة منطقية، فلسفية، لندن 1955، مذكور عند وايزرمان، الصفحة 125.
[18] مذكور عند وايزرمان، الصفحة 126.
[19] المرجع نفسه، الصفحة 126.
[20] المرجع نفسه، الصفحة 127.
[21] المرجع نفسه، الصفحة 129.
[22] المرجع نفسه، الصفحة 130.
[23] في المقدمة التي وضعها دكتور سهيل القش لترجمة “الفلسفة في العصر المأساوي الإغريقي” لفريدريك نيتشه، عن المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة 1، 1981، الصفحة 27.
[24] الدكتور عمر فروخ، عبقرية العرب في العلم والفلسفة، صيدا، منشورات المكتبة العصرية، الطبعة 4، 1980، الصفحة 28.
المقالات المرتبطة
العلم والتفكير العلمي والإرهاب
ليس ثمة من يجادل في اعتماد حياة البشر على العلم، بل قد لا يجادل أحد في حاجة بلادنا تحديدًا إلى العلم لاجتياز تلك الفجوة التي تزداد اتساعًا بيننا
الطقس منظورات أنثروبولوجية
“يكاد دور الشعائر أن يكون دورًا مركزيًّا في كل ميادين الحياة، فالشعائر مما لا يمكن الاستغناء عنه في الدين والسياسة والاقتصاد والعلم والأسرة والمدرسة” .
تأمّلات بشرية في حمل ومولد الكلمة المقدّسة السلام على الأرض والمسرّة للناس
في عيد ميلاد السيد المسيح، نذكّر أنفسنا والناس جميعًا، بالسلام والمحبة، والتي هي خلاصة دعوة المسيح عيسى(ع)، وهي نفس دعوات كل الأنبياء، وكل المصلحين، وكل الأديان السماوية، اليهودية والمسيحية والإسلام