التصوف… تعريف المصطلح وأصل الاشتقاق

تمهيد تعريف التصوف
الصوفي والتصوف.. الزاهد والزهد، تمثل التعبيرات السابقة حالة من التداخل والاختلاط في مفهوم التصوف العام، حيث ينظر إليها الكثير من الباحثين كتعبيرات للدلالة على شأن واحد وهو الشأن الصوفي.
إن هذا التصور المتأثر بالنظرة العامية للصوفية يستلزم البحث في المصطلح “التصوف” والاشتقاق “الصوفي”، بالإضافة إلى علاقتهما بالزاهدين والزهد، وأسباب التداخل بين المصطلحين والاشتقاقيين إلى درجة اعتبارهم معبرين عن مدلول واحد.
التصوف بين القبول والرفض
من المثير للغرابة أنه لا يوجد حتى الآن تعريف واضح للتصوف، بل إن القشيري وهو أحد كبار الصوفية المسلمين في القرن الخامس الهجري اعتبر أنه لا يوجد تعريف موحد للتصوف قائلًا: “فكل عبّر عما وقع له”[1]. وينقل الشيخ عبد المجيد محمود؛ شيخ الجامع الأزهر السابق، عن الحلبي أن تعريفات التصوف قاربت على الألف، لكن الشيخ نفسه بعد استعراضه لأكثر من تعريف تبنى تعريف الكتاني الذي يقول: “التصوف: صفاء ومشاهدة”[2]، معتبرًا أنه يجمع كافة جوانب التصوف.
ويبرّر الباحث الإيراني قاسم غني هذا التنوع في تعريف التصوف: “التصوف أمر قلبي، وهو من مقولة الأحاسيس الشخصية، وكل واحد يعتبر التصوف هو ذلك الشيء الذي أدركه وأحس به، ولا يمكن وصف حقيقة التصوف بتعريف عام جامع مانع يتفق عليه الجميع”[3]. وهو يقترب من تعريف أبو الوفا التفتازاني شيخ مشايخ الطرق الصوفية في مصر: “التصوف فلسفة حياة تهدف إلى الترقي بالنفس أخلاقيًّا، وتتحقق بواسطة رياضيات عملية تؤدي إلى الشعور في بعض الأحيان بالفناء في الحقيقة الأسمى. والعرفان بها ذوقًا لا عقلًا، وثمرتها السعادة الروحية، ويصعب التعبير عن حقيقتها بألفاظ اللغة العادية لأنها وجدانية الطابع والذات”[4].
لقد ارتكز الباحث أحمد صبحي منصور على تعريف التفتازاني ليشن هجومًا غريبًا على التصوف باعتباره معاديًا للعقل، كما حاول أن يفسّر مصطلح “الذوق” بمعنى الهوى ليجعله مناقضًا للإيمان القائم على العقل حسبما يرى، مستدلًّا بتعدّد التعريفات للتصوف (بلغت ألفًا لدى البعض) التي تشير إلى أهواء المعرفين ومداركهم في الأزمة المختلفة أكثر مما تشير لحقيقة التصوف ذاته[5].
الواقع أن الباحث يبدو كطالب ثأر في هذه المواجهة التي افتقدت العلمية، وسعى فيها إلى فرض قناعاته الدينية كحقائق ثابتة يحاكم الآخرين بناء عليها، وبالتالي فلم يسعى لتفسير السبب الذي من أجله جعل الهوى تعريفًا للذوق، بينما يدل كلاهما على معنى مختلف من حيث اللغة أو الاصطلاح الصوفي. فالذوق في اللغة يدل على آداب السلوك التي تقتضي معرفة ما هو لائق أو مناسب من الناحية الاجتماعية، والذوق العام هو مجموعة تجارب الإنسان الذي يفسر على ضوئها ما يحسه أو يدركه من الأشياء[6]، فالذوق إذن يرتبط بالإدراك المعتمد على التجربة، والإدراك ذاته في بعض معانيه يشير إلى بلوغ العلم أقصاه[7]، مما يعني أن الذوق هو الوصول إلى العلم عبر التجارب الشخصية. ومعنى الذوق في التصوف لا يختلف كثيرًا، فهو يعني نور عرفاني يقذفه الحق في قلوب أوليائه، يفرقون به بين الحق والباطل من غير أن ينقلوا ذلك من كتاب أو غيره، وأهل الذوق من تكون أحكام تجلياتهم نازلة من مقام أرواحهم وقلوبهم إلى مقام نفوسهم وقواهم، كأنهم يجدون ذلك حسًّا ويدركونه ذوقًا، ويلوح ذلك من وجوههم[8]. وبديهي أن هذا النور لن يحصل عليه الصوفي إلا بعد مرحلة من تزكية النفس والعبادة تعبر عنها رابعة العدوية بقولها: “ما عبدته خوفًا من ناره، وحبًّا في جنته، فأكون كالأجير السوء، بل عبدته حبًّا وشوقًا إليه”[9]. فالذوق الصوفي هو إدراك للحقائق غير المادية، ولذلك هي تتجاوز جدليات العقل وقدرته على الاستدلال.
أما الهوى فيعني من ناحية اللغة في بعض معانيه العشق، الميل، ويعني أيضًا ميل النفس إلى الشهوة، الانفلات من الضوابط أو الميل في العقيدة لما يجانب الصواب[10]. وفي التصوف يعني ميل القلب بالكلية إلى وجهة المحبوب، والإعراض عما سواه وتجريد القصد له في كل حين، وصرف الهمة إليه[11]، ويقول عبد المنعم الحفني: “ولا يصح الاتصاف بالهوى إلا لمن خرج عن هواه وآثر طاعة حبيبه على ما سواه. وطاعة الحق هي أعلى الطاعات، وهي التي تخالف ميل النفس إلى مقتضيات الطبع، فكأن الهوى نوعان: الهوى الرباني والهوى الإنساني: والأول يميل بصاحبه إلى الجهة العلوية، والثاني يميل به إلى الجهة السفلية”[12].
لا يوجد مجال للجمع بين المصطلحين إذن سواء من الناحية اللغوية أو من ناحية الاصطلاح الصوفي، إلا بناءً على مزاجيات أحمد صبحي منصور وعدوانيته غير المفهومة اتجاه التصوف. كما لا توجد مشكلة حقيقية أو عداء بين التصوف والعقل حسب دعواه، وخاصة في شقه الفلسفي، إنما المشكلة قائمة بالأساس بين الهدف الذي يسعى إليه الصوفي وهو معرفة الله، وبين المنهج العقلي القائم على الاستدلالات المادية الجدلية، وبمثل ذلك أجاب الإمام النوري: “قيل للنوري: بما عرفت الله؟ فقال بالله، فقيل: فما بال العقل؟ قال العقل عاجز لا يدل إلا على عاجز مثله”[13]. والنوري هنا يشير إلى اقتصار العقل على المدركات المادية الناقصة، أو ما يسميه الصوفية العقل المعاش وهو النور الموزون بالقانون الفكري، فهو لا يدرك إلا بآلة الفكر. لكن هناك نوعين آخرين من العقل يؤمن بهما الصوفية، العقل الأول: وهو أول تفصيل الإجمال الإلهي، والذي قال فيه النبي [ص]: “أول ما خلق الله تعالى العقل”، فهو أقرب الحقائق الخلقية إلى الحقائق الإلهية. والثاني هو عقل الكل: وهو المدركة النورية التي ظهرت بها صور العلوم المودعة في العقل الأول[14]. ويرى الصوفية أنه لا يمكن إدراك الحقائق الإلهية إلا بالعقل الأول، بينما يمكن لغير المؤمنين أن يمتلكوا القدرة على الوصول لمرحلة العقل الكل، فيكتشفون أسرار الطبائع والأفلاك ويذهبون لعبادة هذه الأشياء معتبرين أنها هي الفعالة والآلهة[15].
إن اختلاف تعريفات التصوف لا يعود لكونه هوى بالمعنى الذي قصده أحمد صبحي منصور، وإنما لكونه تجربة شخصية بالأساس، فهو ليس علمًا أو دينًا يقوم على أسس وتشريعات محددة، وإنما هو تجربة يسعى المتصوف من خلالها إلى: “الفناء في الحقيقة الأسمى، والعرفان بها”، كما يقول التفتازاني، ومثل هذه التجربة فردية للغاية ونتائجها تكون فردية كذلك، ومحاولات التعبير عنها تتنوع بحسب إدراك كل صوفي على حدة.
لقد كان الخطأ الأساسي الذي وقع فيه أحمد صبحي منصور، هو إصراره على محاكمة التصوف كعلم يجب أن يكون له تعريف وقواعد ثابتة، في حين أن واقع التصوف أنه “حالة” وإن كانت مبنية على الإرادة والرياضة كما يقول الشيخ عبد المجيد محمود: “والصوفي: عابد، وهو زاهد، وهو على خلق كريم، ولكنه يتجاوز ذلك كله إلى شيء آخر، وهو هذه (الإرادة والرياضة)”[16].
تفسيرات التصوف
على الرغم من تعدد التفسيرات لمعنى التصوف، فالحقيقة أنها بكل كثرتها تحوم حول أوجه تذكية النفس ومعرفة الخالق بشكل عام، بحيث يمكننا بالفعل الاتفاق مع الشيخ عبد الحليم محمود في شمولية تعريف الكتاني له: “التصوف صفاء ومشاهدة”.
إن هذه الحيرة التي رغب المخالفين للتصوف في اصطناعها كمحاولة للحط من شأنه، فيما يتعلق بتعريفه، امتدت كذلك إلى الاشتقاق الذي نشأ منه اللفظ، حيث استعرض المستشرق الإنجليزي نيكلسون في كتابه عن التصوف أكثر من مصدر لهذا الاشتقاق مثل: الصفاء، أو الكلمة الإغريقية سوفوس، لكنه في النهاية تبنى رأي المستشرق نولدكه الذي عرضه عبر مقال نشر سنة 1894 أن الكلمة مشتقة من الصوف، وأنها كانت في الأصل موضوعة لزهاد المسلمين الذين تشبهوا برهبان النصارى في ارتدائهم غليظ الصوف، دليل ندمهم على ما أسلفوا، وعلى إطراحهم متاع الحياة الدنيا[17].
من ناحية أخرى تبنّى الباحث أحمد صبحي منصور بعد مناقشة للاشتقاقات المحتملة لهذا اللفظ، المصدر اليوناني، والذي يرجع لفظ صوفي إلى الكلمة اليونانية صوفيا، مستدلًّا بتأثر المتصوفة المسلمين بالمسيحية اليونانية[18].
وعلى الرغم من وجاهة كلا الرأيين، إلا أن التشابه اللفظي بين كلمة صوفيا اليونانية والتي تعني الحكمة، وبين صوفي العربية لا تعني بالضرورة كونها علاقة الاشتقاق الوحيدة، خاصة أن الدكتور أحمد صبحي منصور ذاته يثبت بوضوح وجود خلفيات أخرى للتصوف غير مسيحية وغير يونانية[19].
في كتابه “الصلة بين التصوف والتشيع” يشير كامل مصطفى الشبيبي إلى العلاقة بين العالم جابر بن حيان، وبين التصوف على اعتبار ما وصفه به ابن النديم، وبغض النظر عن مدى دقة هذا الوصف لجابر بن حيان بكونه “صوفيًّا”، فإن الدكتور الشبيبي قدّم ملاحظة بأن التصوف في عهد جابر بن حيان، قد ارتبط بمظهرين، أولًا الزهد وارتداء الصوف، وثانيًا الاهتمام بعلم الكيمياء، التي نقلها العرب من الحضارات السابقة كاليونانية والمصرية والفارسية، وهو ما ميّز كل من ذو النون المصري، وعثمان بن سويد، مما يشير إلى أن الاشتقاقين قد يكون لهما دور في تحديد مسمى الـ “الصوفية”[20].
هناك نص آخر دوّنه الكندي في كتابه ولاة مصر، ربما يلقي قدر من الضوء على جانب آخر من الصوفية ويكشف عن مصدر للاشتقاق، حيث أشار فيه باستغراب كبير إلى مجموعة من الناس تواجدوا في الإسكندرية سنة 200 هجرية، وأطلقوا على أنفسهم اسم الصوفية، وتزعّمهم شخص يدعى أبو عبد الرحمن الصوفي، ووصفهم الكندي بأنهم “يأمرون بالمعروف – فيما زعموا – ويعاضون السلطان في أمره”[21]. مما يعني أن الصوفية في بدايات القرن الثالث الهجري كانوا مجرّد اتجاه ديني يدعم السلطة في مصر، ولا يبدو منه أي اهتمام بعلوم خاصة[22]، وهو ما يختلف تمامًا عن وضع جابر بن حيان الذي توفي قبل هذا التاريخ. وبالتالي فنسبة الصوفي لجابر بن حيان وغيره من الكيميائيين، في حالة صدقها، سوف يكون المقصود بها الحكيم بالمعنى اليوناني، وسيكون علينا أن نفرق بين مصطلح صوفي (الذي تم إطلاقه على جابر بن حيان)، وبين نفس المصطلح الذي أطلق على أصحاب هذا الاتجاه الديني لاحقًا، والذي يبدو أنه يعود بالأساس لما تميزوا به من الأمر بالمعروف، وربما كانوا يرتدون الصوف في إشارة لزهدهم وهو ما جعلهم يطلقون على أنفسهم لقب صوفية، وإن كان كلاهما حتى القرن الثالث الهجري لا يتشابه في طبيعته مع الصوفية اللاحقين، ومن المحتمل أن يكون الصوفية قد شكّلوا تطورًا أدّت إليه جهود ذو النون المصري وآخرين عن التيار الديني الذي أشار إليه الكندي في كتابه، خاصة وأنه بحسب المروي من سيرة ذو النون المصري فالواضح أنه كان يجمع بين الاهتمام بالعلوم العقلية وبين الزهد[23]، وربما لهذا السبب تمكن من وضع صياغة مستقلة للتصوف كرؤية دينية تأثرت بالاتجاهين العقلي والروحي معًا، قبل أن ينضم إليهما الاتجاه الثالث، وهو الاتجاه الحركي في التصوف الذي أشار إليه الكندي، والذي تمكن من وضع التنظيم الطرقي لحركته وتحويله من نزعة فردية تجمع ما بين الروحانية والفلسفة والتأمل، إلى نزعة ذات تنظيم اجتماعي يمكنه في بعض الأحيان أن يكون ثوريًّا، وفي أحيان أخرى يتحول لوسيلة من وسائل السلطة في تخدير العامة[24].
أما باقي الاشتقاقات المتداولة، كالنسبة لأهل الصفة، أو الارتباط بحالة الصفاء أو حتى لشخص اسمه صوفة في العصر الجاهلي، فهي لا تصمد أمام النقد وقد رفضها القشيري في رسالته[25].
إن أهمية نص الكندي أنه يفصل بشكل واضح بين الصوفية ونشأتهم وبين الزهد، وذلك على الرغم من الارتباط بين المصطلحين، إلا أنه وبحسب نص الكندي فمن الواضح أن المجموعات المختلفة التي تسمّت بهذا اللقب لم تكن تنظر للزهد بشكل موحد، فبعضهم كان يجد في الهرب من الدنيا مخلصًا له[26]، والبعض الآخر كان يزهد في الثروة لكنه كان إيجابيًّا اتجاه الشأن العام كالمتصوفة الإسكندريين الذين أشار إليهم الكندي في نصه والذين كانت لهم فاعلياتهم الإيجابية في السياسة، وسيطر زعيمهم أبو عبد الرحمن الصوفي على الأوضاع في الإسكندرية بدعم من الأندلسيين لفترة زمنية قصيرة، وتم عزله عنها لعدم قدرته على ضبط الأوضاع بها[27].
لقد لاحظ الدكتور الحسيني الحسيني معدي في موسوعته الصوفية أن لفظ “صوفي” يتم ترجمتها في اللغات الأجنبية إلى Sufism للإشارة إلى التصوف الإسلامي، وذلك باستخدام نطقها العربي، بينما تطلق على التصوف بشكل عام Mysticism، بما يعني خصوصية لفظ التصوف الإسلامي وكونه مشتق من أصل عربي وليس من أصل يوناني[28].
وبالرغم من وجاهة هذه الحجة فالواقع أنها لا تمنع أن يكون هناك اشتقاق يوناني للفظ “صوفي”، خاصة أن الغرب الأوروبي اعتاد بشكل عام الاعتماد على بعض الألفاظ التي وردت إليه في فترة السيادة الحضارية العربية، خاصة لو كانت تشير إلى حالة إسلامية خاصة مثل التصوف، الذي يتميز في العالم الإسلامي ببعض الخصوصيات، فهو يستخدم كلمة Allah للإشارة إلى لفظ الجلالة لدى المسلمين بالرغم من أن لديه مرادف لغوي له، وبالرغم من أن اللفظ ليس قاصرًا على اللغة العربية، فقد كان يستخدم لدى المسيحيين السريان كذلك (المرتبطين بالثقافة اليونانية) قبل ظهور الإسلام، لكنه لاحقًا أصبح مرتبطًا أكثر بالحالة الإسلامية.
أما الزهد فيُعرف في اللغة العربية بأنه الإعراض عن الشيء وتركه مخافة الحساب أو العقاب، لاحتقاره أو قلته أو التحرج منه، والزهد في الدنيا هو الانصراف للعبادة وترك ملذاتها، الإعراض عنها احتقارًا لها. بينما يعرف الزاهد بأنه العابد، الراغب عن الدنيا والمنصرف للآخرة[29].
أما الصوفية فيعرفون الزهد بأنه خلو القلب عما خلت منه اليد، وترك الدنيا، لا تقول أبني بيتًا أو مسجدًا. أما الزاهد فهو من لا يملك مع الله سببًا.
ويرى الصوفية أنه لا يمكن أن يصل أي إنسان لدرجة الزهد حتى تكون فيه ثلاث خصال: عمل بلا علاقة، قول بلا طمع، وعز بلا رياسة[30].
ويفرق السهروردي بين زهد الصوفية وزهد الفلاسفة، فالصوفية يزهدون لحصول الإشراق في قلوبهم، بينما يزهد الفلاسفة من أجل منع الشواغل عن الحواس بقصد تحصيل المعارف العقلية[31].
والزهاد عند الصوفية على ثلاث طبقات، الأولى هم المبتدئون الذين خلت أيديهم من الأملاك، وخلت قلوبهم مما خلت منه أيديهم. والثانية هم المتحققون الذين يتركون حظوظ النفس من جميع ما في الدنيا. والثالثة الذين زهدوا في الزهد وتابوا من زهدهم، لأن الدنيا لا شيء، والزهد في لا شيء غفلة[32].
ويشير نولدكه إلى العلاقة بين الصوفية والزهاد في مقال له نشر سنة 1894، يؤكد فيه أن لفظ الصوفية اشتق من الصوف، وأنها كانت تطلق على زهّاد المسلمين الذين تشبّهوا برهبان المسيحيين في ارتدائهم للصوف، دليل ندمهم على ما أسلفوا، وعلى إطراحهم متاع الحياة الدنيا[33]. ويضيف نيكلسون أن المتصوفة الأوائل كانوا – في الحقيقة – زهّادًا وادعين، أكثر منهم متصوفة، ويشير إلى تميزهم بإدراكهم للخطيئة المصحوب بالرهبة من يوم القيامة وعذاب النار، مما دفعهم للجوء إلى الهرب من الدنيا[34].
والواقع أن الزهد بهذا الشكل يختلف تمامًا عن تصورات الصوفية التي نشأت في مرحلة لاحقة، ويصفه الشيخ عبد الحليم محمود بأنه “لا يؤدي إلى أن يصبح السر مرآة مجلوة. وما من شك في أن طريق الكشف عن البصيرة ينطوي على الزهد ويتضمنه. ولكنه زهد هو تسامي عن أن يكون لغير الله شأن يشغل نفسه به”[35]. وبالتالي فمن المؤكد أنه وإن كان الزهد كحركة دينية مثلت أرضية لنشأة التصوف لاحقًا، فيبدو أنهما لم يندمجا تمامًا واستمر كل منهما في مساره الخاص[36].
ختام… النتيجة
إن النتيجة الأكيدة التي يمكن التوصل إليها من البحث في هذه الجزئية، هي أن مصطلح الصوفية قد تم استخدامه في البداية للإشارة إلى مدلولات متعددة، وتنوعت بناء عليها اشتقاقات اللفظ، فمن بينها المتخصصين في الكيمياء كجابر بن حيان، وهنا كان المصطلح يمثّل اشتقاقًا من كلمة “صوفيا” اليونانية، ومنها كذلك الزهّاد الذين هجروا الدنيا وارتدوا الصوف تأثرًا بالرهبان المسيحيين، وهؤلاء أطلق عليهم نفس اللفظ، وإن كان الاشتقاق مأخوذًا من الصوف، وهناك مجموعات تلقبت بهذا الاسم وكان يمثل إشارة لارتدائها الصوف (كما يبدو) لكن دون تبني لمنهج الزهد في الدنيا كما تشير حركتهم. وقد ساهمت كل هذه الاشتقاقات في التأسيس لمصطلح “صوفية”، كما شكّل الصوفية في تطورهم تداخل قوي لهذه المدلولات المتنوعة.
[1] أحمد صبحي منصور، العقائد الدينية في مصر المملوكية بين الإسلام والتصوف، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2000، الصفحتان 13، 14.
[2] عبد الحليم محمود، قضية التصوف.. المدرسة الشاذلية، القاهرة، دار المعارف، 2013، الصفحة 438.
[3] أحمد صبحي منصور، العقائد الدينية في مصر المملوكية بين الإسلام والتصوف، مصدر سابق، الصفحتان 13، 14.
[4] أحمد صبحي منصور، العقائد الدينية في مصر المملوكية بين الإسلام والتصوف، مصدر سابق، الصفحة 14.
[5] المصدر نفسه، الصفحة 16.
[6] معجم المعاني الجامع، مادة ذوق. موقع http://www.almaany.com/ بتاريخ 24/4/2014.
[7] معجم المعاني، مادة أدرك. بتاريخ 24/4/2014.
[8] عبد المنعم الحفني، المعجم الصوفي، القاهرة، دار الرشيد، 1997، الصفحة 100.
[9] عبد الحليم محمود، قضية التصوف.. المدرسة الشاذلية، مصدر سابق، الصفحة 429.
[10] معجم المعاني الجامع، مادة هوى، مصدر سابق. بتاريخ 24/4/2014.
[11] عبد المنعم الحفني، المعجم الصوفي، مصدر سابق، الصفحة 253.
[12] المصدر نفسه، الصفحة 253.
[13] المصدر نفسه، الصفحة 176.
[14] المصدر نفسه، الصفحتان 176، 177.
[15] المصدر نفسه، الصفحة 177.
[16] عبد الحليم محمود، قضية التصوف.. المدرسة الشاذلية، مصدر سابق، الصفحة 430.
[17] ر.أ. نيكلسون، الصوفية في الإسلام، ترجمة وتعليق: نور الدين شريبة، القاهرة، طبعة مكتبة الأسرة، 2012. الصفحتان11، 12.
[18] أحمد صبحي منصور، العقائد الدينية في مصر المملوكية بين الإسلام والتصوف، مصدر سابق، الصفحة 19.
[19] المصدر نفسه، الصفحتان 20، 21.
[20] كامل مصطفى الشبيبي، الصلة بين التصوف والتشيع، بيروت، طبعة دار الأندلس، 1982، الجزء 1، الصفحات 202- 204.
[21] الكندي، ولاة مصر، نسخة إلكترونية، موقع مكتبة المصطفى www.al-mostafa.com. الصفحة 80.
[22] لم يعلّل الكندي أسباب تسمية هذه المجموعات بالصوفية. وربما يفسر هذا الاضطراب في التسمية إطلاق اللفظ على شخصيات أخرى لم يكن لها علاقة بالتصوف المعروف كابن الصوفي العلوي، وأبو عبد الله الشيعي الذي أطلق عليه في البداية لفظ الصوفي.
[23] محي الدين بن عربي، الكوكب الدري في مناقب ذو النون المصري، تحقيق: سعيد عبد الفتاح، بيروت، طبعة دار الانتشار العربي، 2002، الصفحات 105 – 107.
[24] تميزت بعض الطرق الصوفية بنزوعها الثوري، مثل الطريقة الحسنية التي قامت بالثورة السربدارية في خراسان، والطريقة المرعشية في مازنداران التي أسست دولة السادات، بالإضافة إلى الطريقة المشعشعية التي أسست دولة في خوزستان وجنوب العراق وشرق الجزيرة العربية، والطريقة الصفوية التي أسست الإمبراطورية الصفوية في إيران. وكانت القضية الاجتماعية هي أساس رؤية هذه الطريق، حيث كان أفراد الطريقة المرعشية بقيادة سيد قوام الدين المرعشي وغالبيتهم من الحرفيين والفلاحين يقتسمون ما يمتلكونه لتحقيق العدالة الاجتماعية بينهم. بطروشوفسكي، الإسلام في إيران، ترجمة: السباعي محمد السباعي، القاهرة، بدون ذكر دار النشر، الطبعة الخامسة، 1999، الصفحات 351 – 358.
[25] أحمد صبحي منصور، العقائد الدينية في مصر المملوكية بين الإسلام والتصوف، مصدر سابق، الصفحتان 18، 19. رفض القشيري كذلك نسبة الصوفية لارتداء الصوف باعتبار أن الصوفية لم يكونوا مخصوصين به، وهو ما يؤكد أن المتسمين بالصوفية في هذه المرحلة المبكرة كانوا مختلفين كثيرًا في رؤيتهم الدينية عن الصوفية المعروفين.
[26] نيكلسون، مصدر سابق، الصفحة 12.
[27] الكندي، ولاة مصر، نسخة إلكترونية، موقع مكتبة المصطفى www.al-mostafa.com، الصفحة 81.
[28] الحسيني الحسيني معدي، الموسوعة الصوفية، القاهرة، دار كنوز للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 2013، الصفحة15.
[29] معجم المعاني الجامع، مادة زهد. موقع http://www.almaany.com/ بتاريخ 24/4/2014.
[30] عبد المنعم الحفني، المعجم الصوفي، مصدر سابق، الصفحة 117.
[31] المصدر نفسه، الصفحة 117.
[32] المصدر نفسه، الصفحة 117.
[33] ر.أ. نيكلسون، الصوفية في الإسلام، مصدر سابق، الصفحتان 11، 12.
[34] ر.أ. نيكلسون، الصوفية في الإسلام، مصدر سابق، الصفحة 12.
[35] عبد الحليم محمود، قضية التصوف.. المدرسة الشاذلية، مصدر سابق، الصفحة 428.
[36] أحمد صبحي منصور، العقائد الدينية في مصر المملوكية بين الإسلام والتصوف، مصدر سابق، الصفحتان 25، 26.
المقالات المرتبطة
من أجل نسق عقدي انفتاحي مطارحة في البراديغم التأويلي الأوسطي
تشكل الثقافة الدينية بما هي مجموعة معطيات وطقوس ومناسك تجليات للفكرة الدينية العظمى الحاكمة على غيرها من التفصيلات
أنماط الوصل بين الثنائيات في العلوم الإسلامية الدين والدنيا… المادة والروح
تمثّل الثنائيات المتقابلة والعلاقات بينها جزءًا مهمًّا من العلوم الإسلامية، خاصة نتيجة ما أفرزته من إشكاليات لاحقة
المسلمون في الهند بين التهديدات والتأثير (3)
نستكمل في هذا القسم من البحث الحديث عن علاقة المسلمين بالهندوسية، ونتطرق إلى أبرز التهديدات التي يتعرض لها المسلمون من التيارات العنصرية الهندوسية، ثم سننتقل إلى تأثير الإسلام بالهندوسية.