الصبر الجميل والابتلاء العظيم

مقدمة
الصبر في مجالات الحياة الفردية والجماعية تحتاج إلى الصبر وتحتاج التحمل؛ خاصة إذا كان الصبر في الدعوة إلى الله؛ وهو أمر من الأهمية بمكان، حيث الحاجة إلى الكثير من التحمل، والجَلَد، والثبات، والاستمرار، والحاجة إلى الحلم، وسعة الصدر، كما هي الحاجة إلى تحمل الإيذاء مادة ومعنى؛ لذلك جاء قوله تعالى مخاطبًا رسوله (ص): ﴿فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً﴾ [1].
الصبر الجميل على الابتلاء العظيم
الملاحظ في الآية الكريمة أنها وصفت (الصبر) المأمور به بأن يكون جميلًا، وقد ذكر جمهور المفسرين أن المراد بـ (الصبر الجميل) هنا هو الذي لا جزع فيه، ولا شكوى لغير الله، والصبر على أذى المشركين. ونُقل عن ابن عباس (رض) في المراد بـ (الصبر الجميل) في الآية ما يفيد قوله: (لا تشكو إلى أحد غيري). وقال الطبري في بيان المراد: “اصبر على أذى هؤلاء المشركين لك، ولا يثنيك ما تلقى منهم من المكروه عن تبليغ ما أمرك ربك أن تبلغهم من الرسالة[2].
فحاصل المراد فيما ذكره المفسرون في المراد من الآية هو التسلح بالصبر في مواجهة مشاق الدعوة، وعدم الجزع والشكوى، وتسليم الأمر إليه سبحانه.
ونقل الطبري في هذا الصدد عن ابن زيد أن الأمر بـ (الصبر) كان في بداية الدعوة، ثم نُسخ بالآيات الآمرة بقتال المشركين، والحاثة على مجاهدة الكافرين.، وقد بيَّن الطبري أن ما ذهب إليه ابن زيد من دعوى النسخ “قول لا وجه له، وليس ثمة دليل على صحته؛ إذ ليس في أمر الله نبيه (ص) في (الصبر الجميل) على أذى المشركين ما يوجب أن يكون ذلك أمرًا منه له به بداية أمر الدعوة؛ بل كان ذلك أمرًا من الله له به في مراحل الدعوة كافة؛ لأنه لم يزل (ص) من لدن بعثه الله إلى أن توفاه الله في أذى منهم، وهو في كل ذلك صابر على ما يلقى منهم من أذى قبل أن يأذن الله له بحربهم، وبعد إذنه له بذلك.
والأمر الجدير بلفت الانتباه إليه في هذه الآية، هو وصف (الصبر) بـ (الجميل)، وهو معنى لم يطل المفسرون الوقوف عنده؛ لوضوحه، ذهابًا منهم إلى أنه لا يحتاج إلى شرح وإيضاح. مع أن هذا الوصف يحتاج إلى مزيد تأمل؛ وذلك أن الناظر إلى الحياة نظرة واقعية، يجد أن المشاق تشغل مساحة غير صغيرة منها، وللتغلب على هذه المشاق وتحملها، يحتاج الإنسان فيها إلى الصبر، وترك هذا الميدان يعني ترك مساحة كبيرة دون تغطية، والإسلام يحمل الخير والجمال لهذا الإنسان في كل حالاته، وكل مجالاته؛ ولذا لم يترك هذا الجانب دون أن يزينه بجماله، فكان الصبر الجميل، كما نراه ونشتاق إليه في سعينا الدنيوي.
و(الصبر الجميل) تجلّد وأمل، إنه اطمئنان نفسي وروحي، إنه الموقف الأحسن والأجمل، وبعبارة أوضح نقول: إن عملية تجميل الصبر هذه ليست زخرفة قول، ولكنها حقيقة يمكن الإشارة إلى عناصرها الأولية وفق التالي[3]:
– جعل الله للصبر الجزاء الجزيل، والدرجات العلا، وقد تأكد هذا بالكثير من آيات القرآن الكريم، وبالكثير من أحاديث الرسول الأمين (ص)، ونكتفي هنا بقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾[4].
– إن الله تعالى جعل معيَّته للصابرين في آيات عديدة، منها قوله عز وجل: ﴿إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾[5].
– الإيمان بالقدر؛ حيث يطمئن المسلم إلى أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، قال تعالى: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأرْضِ وَلاَ فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ﴾[6].
هذه العوامل تجعل (الصبر) متقبلًا ومتحملًا، فالنفس مطمئنة مرتاحة إلى قدر الله، لا ينتابها القلق، ولا يشل حركتها الخوف. ثم هناك الأمل الكبير بثواب الله، كما أن الراحة عظيمة بشعور المؤمن أن الله معه في صبره يرعاه، ويسدد خطاه، وكلها عوامل إن لم تقضِ على مرارة الصبر، فإنها تخففها إلى حد كبير؛ حتى يصبح مقبولًا، وليست مهمة الجمال في هذا الميدان إلا هذه.
وبهذا يظل المسلم في رحاب الخير، كما ورد في الحديث الشريف: “عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء، صبر فكان خيرًا له”[7]. رواه مسلم.
الابتلاء العظيم
إن الابتلاء هو قدر المؤمنين منذ بدء الخليقة؛ وذلك لتمحيص الصادقين منهم عبر ابتلائهم، في النفس والمال والأبناء.
قال تعالى:
- ﴿لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾[8].
- ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ﴾[9].
- ويقول الرسول (ص): “الأنبياء هم أشد الناس بلاء ثم الأمثل فالأمثل”[10]. رواه الترمذي.
- ويقول أحد الحكماء: اعلم أخي إنما الله أنزل البلاء، لو كانت الدنيا سعادة .. لاستوت للأنبياء[11].
والواجب اتجاه جميع ابتلاءات الدنيا.. الصبر والرضا بقضاء الله عز وجل وقدره، ولا ريب في ذلك فقد جعل الإسلام من أركان إيمان المسلم (الإيمان بالقضاء والقدر).
وقد ضرب الله لنا مثالًا مضيئًا “للصبر” عبر سيدنا أيوب (ع) الذي ابتلي لسنوات طوال، ولكنه (ع) لم يتضجر أو يتسخط من قضاء الله، بل قابل كل هذه الابتلاءات بالصبر والتسليم لله سبحانه وتعالى، قال تعالى: ﴿وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ﴾[12].
والصبر كما عرّفه العلماء: “هو تحمل البلوى بدون شكوى .. وحبس النفس عن التسخط بالمقدور، وحبس اللسان عن الشكوى، وحبس الجوارح عن فعل ما يغضب الرب سبحانه”[13].
والقرآن الكريم مليء بالتوجيهات الربانية بضرورة الصبر على البلاء، وأن ذلك من صفات أهل الله وخاصته المقربين.
يقول الله عز وجل:
- ﴿وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾[14].
- ﴿وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ﴾[15].
- ﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾[16].
- وفي وصف عظم الأجر الرباني الذي ينتظر الصابرين يقول الإمام الأوزاعى: “ليس يوزن لهم ولا يكال، إنما يغرف لهم غرفًا”[17].
ويقول الرسول (ص):
– “ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله تعالى وما عليه خطيئة”[18]. رواه الترمذي.
– “إن عظم البلاء مع عظم الجزاء، إن الله إذا أحب قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط”[19]. رواه الترمذي.
ومن الأقوال المأثورة للإمام علي بن أبى طالب (ع) عن الصبر:
– “ألا إن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا قطع الرأس باد الجسد، ثم رفع صوته فقال: ألا إنه لا إيمان لمن لا صبر له”[20].
– “الكمال في ثلاث: الصبر على النوائب، والتورع في المطالب، وإسعاف الطالب”[21].
– “ثلاث من كن فيه رزق من خير الدنيا والآخرة هن: الرضا بالقضاء والصبر على البلاء والشكر في الرخاء”[22].
– “إن صبرت أدركت بصبرك منازل الأبرار، وإن جزعت أوردك جزعك عذاب النار”[23].
– وقال الإمام الحسن (ع): “قطرتان وجرعتان؛ فما جرعة أحب إلى الله عز وجل من جرعة غيظ يكظمها عبد بحلم يبتغي بذلك وجه الله، وجرعة مصيبة موجعة يصبر عليها عند الله”[24].
– وقال سفيان الثوري: “عليك بالصبر في المواطن كلها، فإن الصبر يجر إلى البر، والبر يجر إلى الجنة، وإياك والحدة والغضب؛ فإنهما يجران إلى الفجور، والفجور يجر إلى النار”[25].
إن السخط والشكوى من الابتلاءات ليست من خلق المؤمن الحق؛ لأن من عقيدة المؤمن أن كل شيء في الكون يجري بقدر الله وحكمته سبحانه .. وكل قضاء الله خير، وواجب المؤمن الرضا بقدر الله.
الابتلاء السياسي
وفي واقعنا المعاصر تزداد الأزمات والابتلاءات ليل نهار على الشعوب الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها، نتيجة مؤامرات ومخططات أصبحت مكشوفة، وهذا هو الابتلاء السياسي الذي نتخذ من الصبر الجميل الإيجابي نبراسًا لمقاومة هذا الابتلاء.
وما يحدث في غزة ولبنان وسوريا والسودان وغيرها؛ خاصة في غزة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023م من قتل وتدمير وتخريب على يد العدو الصهيوني .. يشيب له الولدان ويتألم له كل أحرار العالم.
سينتصر في النهاية كما انتصروا على إرهاب داعش والصهيونية فالحق اسم….
ولكن الفلسطينيين واللبنانيين والسوريين بإيمانهم الراسخ ويقينهم الثابت، بأن الحق سينتصر في النهاية كما انتصروا على إرهاب داعش والصهيونية، فالحق اسم من أسماء الله الحسنى .. وقابلوا ذلك بالصبر واليقين.
فالصبر والابتلاء هما قدر المؤمن من بداية الرسالة حتى تقوم الساعة.
هذا ما يؤكده القرآن الكريم والعترة المباركة والسنة المطهرة ودروس التاريخ.
[2] ابن جرير الطبري، تاريخ الأمم والملوك، مكتبة نور الإلكترونية، مقدمة الكتاب، الصفحتان 25و 26.
[3] سورة البقرة، الآية 153.
[4] سورة الزمر، الآية 10.
[5] سورة البقرة، الآية 153.
[6] سورة الحديد، الآية 22.
[7] صحيح الإمام مالك، المكتبة الشاملة الإلكترونية، الجزء3، الصفحة 349.
[8] سورة الأنفال، الآية 37.
[9] سورة محمد، الآية 31.
[10] سنن الترمذي، القاهرة، دار الشروق، 1999، ببعض التصرف.
[11] نقلًا عن أحد خطباء الجمعة في مدينة طنطا – مصر.
[12] سورة الأنبياء، الآيتان 83-84.
[13] ابن القيم الجوزية، مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، القاهرة، دار الريان للنشر، 1987، الجزء4، الصفحة 187.
[14] سورة الأنفال، الآية 46.
[15] سورة النحل، الآية 126.
[16] سورة الزمر، الآية 10.
[17] شمس الدين الذهبي، سير أعلام النبلاء، فصل عن الإمام عبد الرحمن الأوزاعي، المكتبة الشاملة الإلكترونية.
[18] سنن الترمذي، مصدر سابق، ببعض تصرف.
[19] المصدر نفسه، ببعض تصرف.
[20] خالد محمد خالد، في رحاب علي، القاهرة، الإنجلو المصرية للنشر، 2000، بتصرف من صفحات الكتاب.
[21] محمد الريشهري، ميزان الحكمة، الجزء 3، الصفحة 2747.
[22] خالد محمد خالد، في رحاب علي، مصدر سابق، بتصرف.
[23] خالد محمد خالد، في رحاب علي، مصدر سابق، بتصرف.
[24] حسن محمد كامل الملطاوي، الإمام الحسن، المنصورة، مصر، مكتبة الرحمة المهداة، 1982، الصفحة 87.
[25] نقلًا عن موقع الإسلام ويب – https://www.google.com/search?q
المقالات المرتبطة
حوار الدهشة والرهبة بين لحظتي انبثاق
الوقوف على الحوار الإسلامي-المسيحي، يقتضي الرجوع إلى اللحظة الأولى لانبثاق الدعوة الإسلاميّة، فهي جاءت في محيط جاهليّ، ولكنّه لم يخلُ
تأملاتٌ سريعة في سورة الإخلاص المباركة
إن النظر في آيات سورة الإخلاص المباركة يضعنا أمام تصوّرٍ يمكن الانطلاق منه في تحديد الغاية المحورية التي دارت حولها
مشاريع فكرية 11 | الدكتور علي رضا أعرافي
بدأ تعليمه الابتدائي وبعض الدروس الحوزوية في مسقط رأسه، ثم انتقل عام 1970 م إلى قم فأتمّ مرحلة المقدّمات والسطوح بسرعة مُلفتة والتحق بالبحث الخارج على النظام المعهود.