أريحية الصبر وفلسفة الابتلاء

أريحية الصبر وفلسفة الابتلاء

مقدمة … أريحية الصبر من ينبوع الضمير

هذا مقال حول الصبر بأريحيته الإنسانية والابتلاء الإلهي للنفس البشرية؛ خيرها وشرها؛ نبلها وفلسفتها؛ والصبر مرتبط بالابتلاء؛ فلا يوجد صبر بدون بلاء؛ فالصبر إيجاب والبلاء سلب؛ ولذلك نسعى أن يعم الصبر الإيجابي؛ صبر غير استسلامي، والإفادة من الابتلاء لتطهير النفوس وغسل القلوب. والصبر الجميل له علاقة بضمير الفرد وضمير الجماعة، فليس كل أمريء قادر على الصبر والسلوان، بل يجب أن يكون للضمير الإيماني دور في الانتصار على النفس، فالصبر نعمة عظيمة أنعم الله بها على الإنسان وفضله بها على كثير من المخلوقات.. وأمر الله المؤمنين بأن يتواصوا بالصبر فيما بينهم حتى يفلحوا في دنياهم وأخراهم.. ولولا الصبر لفسدت كثير من الأمور في حياة الإنسان، والصبر خلق كريم يمنع من فعل ما لا يحسن؛ وهو تحمل البلوى من غير شكوى أو ضجر.

الصبر القرآني

القرآن العظيم كتاب توحيد وعدل؛ والتوحيد والعدل مرتبطان ولا يمكن فصلهما؛ والقرآن نزل من السماء ليُنفذ ويُطبّق على البشر في الأرض؛ ومن طبيعة الأحوال البشرية، يحدث صراع بين المؤمنين وغير المؤمنين؛ بين الخير والشر؛ ويلجأ الأشرار إلى الأساليب غير الشريفة في الصراع الأزلي، من ضمنها التضييق والقتل؛ ولكن الأخيار يرفضون خيانة الوسيلة ويعتصمون بالصبر.

استطراد

من غرائب الأمور أن البشر في العالم يسمّون أبناءهم (قابيل) كما في اللغة العربية، أو(قايين) في اللغات الأوروبية، ولا نعرف من تسمّى باسم (هابيل) عند أغلب الشعوب، على الرغم أن قابيل هو الظالم القاتل، وهابيل هو المظلوم المقتول[1]، ويمكن اعتبار ذلك الأمر نوعًا من الابتلاء لكثير من الشعوب، كما أن الصبر على البلاء مستمد من صبر هابيل، فكان صابرًا عندما توعده أخوه قابيل بالقتل، ويعني الأمر أيضًا، أن قصة الصراع بين الخير والشر ممتدة عبر الزمن، وهذا يعرّفنا لماذا تنتظر الشعوب المخلّص الذي ينتصر النصر النهائي على الباطل، والمخلص الموعود، هو صاحب الزمان، الإمام القائم المهدي المنتظر(عج) الذي يراقب في غيبته الكبرى الصراع الدموي الذي تقوده قوى الاستكبار، وفي زمن انتظاره علينا أن نكون إيجابيين في الانتظار مستعدين لظهوره الميمون[2] .

نعود بعد هذا الاستطراد إلى الحديث عن الصبر القرآني.

لقد وردت كلمة صبر في القرآن في ثلاثة ومئة موضع (103)، وجاءت في واحد وأربعين موضعًا بصيغة الاسم، من ذلك قوله عز وجل: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ﴾[3]، وجاءت في اثنين وستين موضعًا بصيغة الفعل، من ذلك قوله سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا﴾[4]، وأكثر ما جاءت كلمة صبر بصيغة الفعل الماضي.

فالصبر سلوك إنساني الفعل، إلهي المصدر؛ ولذلك فقد تميز صاحب الضمير الحي والأريحية المثالية بمدى صبره على الخير والشر والابتلاء.

ونرى ذلك واضحًا في صمود وصبر وانتصار المقاومة الإسلامية ضد العنصرية الصهيونية المدعومة من الباطل الاستعمارية الاستكبارية؛ وهو ابتلاء حقيقي نعيش فصوله. صراع أريحية الحق بصبره ضد الباطل بنرجسيته وبابتلائه.

على أيه حال، فإن أركان الصبر ثلاثة، هي: حبس النفس عن السخط بالمقدور، وحبس اللسان عن الشكوى، وحبس الجوارح عن فعل ما يغضب الرب سبحانه وتعالى، ولا بدّ أن توجد قدوة حسنة للصابرين، والأنبياء هم هؤلاء القدوة، والقرآن العظيم فيه الكثير من صبر الأنبياء، صبر نوح وإبراهيم ويعقوب وأيوب وموسى وعيسى… إلخ، فقد تعرضوا لتكذيب الحق والإيذاء البدني لكل الأنبياء والمرسلين والمصلحين.

الصبر النبوي.

تعرض رسول الله (ص) للأذى البدني والمعنوي؛ ولكن كان صابرًا صادقًا محتسبًا؛ يتعامل بالرفق مع المشركين المكذبين؛ ومع أصحابه القليلين في بداية الدعوة[5].

 وفي السنّة النبوية الشريفة أن النبي (ص)، قال ليس القوي بالصرعة، ولكن القوي هو من يملك نفسه عند الغضب[6]؛ أي يكظم غيظه ويصبر فيعفو ويصفح، وروى عنه (ص) أنه  قال: “الصبر ضياء”[7]، وقال: “ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحد عطاءً خيرًا من الصبر”[8]، وقال كما روي مسلم: عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له.

ولقد صبر رسول الله (ص) على أذى مشركي مكة قبل الهجرة، وصبر على أذى المنافقين بعد الهجرة؛ وكانت حياته الشريفة سلسلة من الصبر الجميل والأريحية الإنسانية؛ فكانت النتيجة انتصار الإسلام.

ولقد واسى النبي كثيرًا المؤمنين المستضعفين الأوائل؛ الذين كانوا يعذبون في بداية الدعوة مثل عمار وبلال وخباب وصهيب؛ وأوصاهم بالصبر وكانوا فعلًا من الصابرين الصادقين[9].

الصبر عند الأئمة (ع).

كما كان للأئمة المعصومين (ع) دور في تبني أريحية الصبر؛ فعن أمير المؤمنين الإمام علي (ع) ما قاله عن الصبر؛ مثل “الكمال في ثلاث: الصبرُ على النوائب، والتورّع في المطالب، وإسعافُ الطالب”[10].

ومن أخلاق الإمام، قوله (ع): “الصبر صبران: صبر على ما تكره وصبر عما تحب”[11]، وقال (ع) أيضًا، ما نستشف منه الصبر الأريحي الإيجابي: “الحياة في موتكم قاهرين والموت في حياتكم مقهورين”[12]، وهو ما نادي به الإمام الحسين (ع) عندما قال: “الموت بعزة خير من الحياة بذلة”[13]، وهي جميعًا أقوال وأفعال تحمي الضمير، فلا تخالف الحق، ولا تستأنس إلا بالخير والنماء.

الصبر الحسيني

لا يوجد صبر مثل صبر الإمام الحسين (ع)؛ صبر على البلاء والابتلاء؛ صبر على الماء والعطش والحصار والقتل؛ وهو الصبر المثالي لكل الشعوب التي ترفض الضيم؛ وتثور من أجل نشر العدل والسلام.

كان الصبر في عاشوراء ملحمة عظيمة، بل ملحمة عاشوراء هي الصبر كله، ففي هذا الموقف الكبير وفي ذلك القتال والحصار التام، حيث حوصر أهل البيت في يوم عاشوراء، تبيَنتْ لنا أعظم ملحمة في تاريخ البشرية، ألا وهي ملحمة صبر الإمام الحسين وأولاده وعائلته…

الصبر وسياسة كظم الغيظ

على درب الأئمة المعصومين كان الإمام موسى الكاظم (ع)، يؤسس مدرسة كطم الغيظ، مع العلم أن الإمام موسى بن جعفر لم يُلقب بالكاظم فقط؛ لأنه اعتق جاريته التي أساءت له دون قصد منها[14].

الرواية حقيقية، ولكن الإمام الكاظم عاش رحابة الأفق في خلقه، فكان يحسن إلى من أساء إليه، ويعفو عمّن اعتدى عليه، ويتّسع صدره في صبر؛ حتى ليحضن أعداءه، ليعلّمهم كيف يحبّ الإنسان الإنسان، بقطع النظر عن التعقيدات التي يمكن أن تتحرك هنا وهناك[15].

كان(ع) يواجه الغيظ من كلّ الذين لا يحترمون إنسانية الإنسان، ومن كلّ المستكبرين في الأرض، والذين يعيشون على أساس الحقد والعداوة والبغضاء، أولئك الذين لا يعرفون معنى الحبّ، ولذلك فهم يعملون على أساس أن ينفّسوا عن حقدهم ضد الطيبين، لكنّ الإمام (ع) كان يكظم غيظه، فلم يتحرّك بردّ فعل سلبيّ، بل كان لديه فعل من نوع آخر، فلقد كان القوم يسيئون إليه، وكان يحاول أن يعطيهم درسًا في معنى الإحسان، ودرسًا في معنى العفو، لذلك سمّي كاظم الغيظ، وكان كتم الغيظ فلسفة إشراقية تربوية تعليمية، أسست السمو الروحي القائم على صبر النفس بكل الطرق، ومنها سياسة كظم الغيظ.

فلسفة الابتلاء

الإنسان مخلوق له عقل وقلب وروح ونفس وجسد؛ حياته تستند إلى النفحة الإلهية التي جعلته يحمل الضدين الخير والشر داخله؛ وترك الله له حرية الاختيار بين الحق والباطل؛ بين الإيمان والكفر؛ ولا بدّ أن يوجد اختبار لمدى الصدق الإيماني؛ فمن سنن الله التي لا تتبدل ولا تتخلف أنه لا بدّ أن يبتلي الناس ليعلم الصادق من الكاذب، والمؤمن من الكافر، والصابر من العاجز والجازع، وليميز كل فريق عن الآخر من أجل أن ﴿لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾[16]

والقرآن الكريم ينص في آياته المحكمات على أن الابتلاء سنة من سنن الله في الخلق، ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾[17].

ومن يتأمل التاريخ والواقع وأحوال نفسه والناس من حوله؛ لا يكاد يرى إنسانًا؛ إلا وقد ابتلي بنوع من أنواع البلاء: إما في نفسه وعافيته وماله، وإما في أهله وأقاربه وعياله، لا يخلو أحد من ذلك على الإطلاق ولكنهم بين معجل ومؤجل.

فالابتلاء قصه طويلة، وتاريخ ممتد بدأ منذ أنزل آدم إلى الأرض.. لا بدّ من الابتلاء حتى لا يكون الإيمان مجرد ادعاء يناله كل من ادعاه دون أن يبتلى لتعرف حقيقة دعواه؛ قال تعالى: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ* وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِين﴾[18]، وقال: ﴿أمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾[19]، و﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُم﴾[20].  

فالابتلاء تمحيص ليعلم أهل الصدق من أهل الكذب، وليعلم أهل الإيمان من أهل النفاق، وليعلم الله الصابرين.

فليس الابتلاء دليل سخط من الله، ولا علامة على عدم الرضا، وإلا فالأنبياء أفضل الخلق وأكرمهم على الله ومع ذلك هم أكثرهم بلاءً، فإذا أيقنا أن البلاء سنة كونية، وحقيقة دنيوية وجب علينا أن نعلم أن الواجب في الابتلاء الصبر.

إن الصبر والابتلاء هما وسيلة الانتصار على النفس والانتصار الجمعي على الباطل كله؛ أو كما قال النبي (ص) يوم الخندق عن الإمام علي (ع).. “برز الإيمان كله أمام الكفر كله”[21]، وهو فرز إلهي نبوي لما يحدث بين ممثل الإيمان بصبره، وبين ممثل الكفر بصدوده …. طوبى للشهداء الصابرين في أريحية ضد قوى الباطل، وذلك في كل العصور…

[1]  علي أبو الخير، بين النور والنار، القاهرة، مؤسسة المعبر الثقافي،  2018، الصفحة 15. والحقيقة لفت انتباهنا أن البشرية انحازت لاسم القاتل رغم كراهيتهم له، وهذا يتطلب دراسات كثيرة من علماء الإجماع.

[2]  علي أبو الخير، إيران من الثورة إلى الدولة، المنصورة- مصر، مكتبة الرحمة المهداة، 2007، الصفحة167. وقضية الانتظار تتطلب الثورة على الظلم والتمهيد للموعود المنتظر.

[3] سورة البقرة، الآية45.

[4] سورة آل عمران، الآية 200.

[5]  ابن هشام، السيرة النبوية، دار الريان للنشر، 1987، الجزء 1، بتصرف حول سيرة المؤمنين المستضعفين الأوائل.

[6]  صحيح مسلم، نسخة مكتبة نور الإلكترونية، بدون رقم صفحة.

[7]   المصدر نفسه.

[8] المصدر نفسه.

[9]  ابن هشام، السيرة النبوية، دار الريان للنشر، مصدر سابق.

[10]  نقلًا عن مركز الإشعاع الإسلامي – https://www.islam4u.com/a

[11]  نقلًا عن موسوعة علوم نهج البلاغة، نسخة كمبيوترية nahj.org/shortresearchwisdomstring/

[12]  الإمام علي (ع) نهج البلاغة، بيروت، دار العلم للملايين، 1996، الخطبة 51.

[13]  شعار الموت بعزة خير من الحياة بذلة لسيد الشهداء، هو شعار مشهور يوجد في كافة المصادر ومنها كتاب علي أبو الخير، في رحاب كربلاء، القاهرة، مركز يافا للدراسات، 2001، الصفحة 5.

[14]  علي أبو الخير، الدور التربوي والثقافي والعقلي عند الإمام موسى الكاظم (ع)، بحث تم تقديمه ونشره في العتبة العباسية، كربلاء المقدسة، يوليو 2024.

[15]  المصدر نفسه.

[16]  سورة الأنفال، الآية 37.

[17] سورة الملك، الآية 2.     

[18]  سورة العنكبوت، الآيتان 2، 3. 

[19] سورة آل عمران، الآية 124.

[20] سورة محمد، الآية 31.

[21]  ابن كثير، البداية والنهاية، المكتبة السلفية، القاهرة، 1988، المجلد 7، الصفحة 215. والرواية موجودة في كافة كتب السيرة والحديث النبوي، وعند كل فرق المسلمين.



المقالات المرتبطة

جدلية المعرفة الحضورية والزمنية عند الإمام الخميني قده

يقدم لنا الأستاذ علي فخري في مقاله هذا قراءةً أجراها في كتاب الإمام الخميني، جدلية المعرفة الزمنية والحضورية،

التعددية الدينية المعرفية بين خلفيات ومناشئ غربية ورؤية نقدية

إن التعددية الدينية[1] تمثل مفصلًا أساسيًّا من مفاصل الدرس الكلامي الحديث، حيث إن سجالات وإشكاليات متنوعة ومتشعبة قد نجمت عنها

اللغة والقول الفلسفي

اللغة أداة تواصل إنساني ومحتوى وعيه أو لاوعيه، بالتالي لا يمكن التعامل معها باعتبارها مجرد أداة تواصل، فهي تشكل مرآة عاكسة للذات في بنيتها العميقة والظاهرة

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<