الإيمان ومستلزماته
مقدّمة كتاب الإيمان ومستلزماته
إنّ الحديث عن القرآن، هو حديثٌ عن كتابٍ جامع لحياة الإنسان، إنسان اللانهاية، الإنسان المتكامل، الذي لا حدّ لتكامله.
هو حديثٌ عن الهادي والمعلّم، القادر على رعايته على مرّ العصور، فقد ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام:
إنّ هذا القرآن هو الناصح الذي لا يغشّ، والهادي الذي لا يضلّ، والمحدّث الذي لا يكذب، وما جالس هذا القرآن أحد إلّا قام عنه بزيادة أو نقصان، زيادة في هدى ونقصان من عمى، واعلموا أنّه ليس على أحد بعد القرآن من فاقة، ولا لأحد قبل القرآن من غنى، فاستشفوه من أدوائكم، واستعينوا به على لوائكم، فإنّ فيه شفاء من أكبر الداء وهو الكفر والنفاق والعمى والضلال. اسألوا الله به وتوجّهوا إليه بحبّه، ولا تسألوا به خلقه إنّه ما توجّه العباد إلى الله بمثله، واعلموا أنّه شافع مشفّع، وقائل مصدّق وأنّه من شفع له القرآن يوم القيامة شفع فيه، ومن مَحِلَ به القرآن يوم القيامة صدق عليه، فإنّه ينادي منادٍ يوم القيامة ألا إنّ كلّ حارثٍ مبتلى في حرثه وعاقبة عمله، غير حرثة القرآن، فكونوا من حرثته وأتباعه، واستدلّوه على ربّكم، واستنصحوه على أنفسكم، واتهموا عليه آراءكم، واستغشوا فيه أهوائكم”[1].
إنّ دور القرآن الكريم لا يقتصر على هداية الإنسان إلى طريق النجاة في حياة الآخرة، بل هي ترتبط بكافّة جوانب حياة الإنسان. كما يكتسب المجتمع نتيجة الأنس المطرد بالقرآن الكريم متانة داخليّة. وهذه المتانة الداخليّة هي التي تمنح المجتمعات الاقتدار في الحركة والقدرة على تخطّي التحدّيات، فيخرج من ظلمات الخرافات والضلال والخوف والأوهام ويهديه نحو معرفة الخالق، وهذا ما يمثّل في الوقت الراهن حاجة أساسيّة للعالم الإسلاميّ لمواجهة التحدّيات[2].
كما أنّ هداية الإنسان نحو الخير والكمال يبدأ من محوريّة القلب حيث موطن التصديق بما يستدلّ عليه عقله.
يقول الإمام الخميني (قدس سرّه):
إنّ الإيمان عمل قلبيّ، وما لم يكن ذلك فليس هناك إيمان. فعلى الشخص الذي علم بشيءٍ عن طريق الدليل العقليّ أو ضروريّات الأديان، أن يسلّم لذلك قلبه أيضًا، ولأن يؤدّي العمل القلبيّ الذي هو نحو من التسليم والخضوع، ونوع من التقبّل والاستسلام ـ عليه أن يؤدي ذلك ـ لكي يصبح مؤمنًا. وكمال الإيمان هو الاطمئنان. فإذا قوي نور الإيمان تبعه حصول الاطمئنان في القلب[3].
عطفًا على ما سبق، فإنّ الإيمان نورٌ في القلب، وهو فعل إنسانيّ إراديّ اختياريّ؛ وهذا يعني أنّ الإنسان هو محور العمليّة الإيمانيّة والاعتقاديّة. هو حالة وجوديّة، وجدانيّة، قلبيّة نورانيّة اطمئنانيّة، محلّها القلب، يمكن أن تزيد أو تنقص، بحسب فعل الفرد، وعندما تغمر القلب تغيّر مجرى حياة الإنسان وترسّخ اعتقاداته بالله تعالى. قال أبو عبد الله (ع): “إنّ المؤمن أشدّ من زبر الحديد، إنّ الحديد إذا دخل النار لان، وإنّ المؤمن لو قُتل ونشر ثمّ قُتل ونشر، لم يتغيّر قلبه”[4].
وهذا إن دلّ على شيء، فإنّه يعني نوعًا من الارتباط والتعلّق الوثيق بالذات الإلهيّة المقدّسة. وبالتالي، فالعبادة النابعة من الاعتقاد والتسليم والرضا تنقل الإنسان من حالة إلى حالة أخرى كما عبّر القرآن الكريم من الظلمات إلى النور، فتولد عند المرء حالة من القناعة الراسخة الثابتة التي من أجلها يمكن أن يبذل حياته وماله وولده.
إذًا، فبين الإيمان والعمل نوع من الملازمة؛ كلّما ازداد الإيمان كثُر العمل، وكلّما ازداد العمل تعمّق الإيمان.
بعد ذكر أهميّة القرآن الكريم والسعي لتفسيره وتحصيل الفائدة من آياته وتوجيهاته، وأنّ الإيمان أمر مهمّ توقد في القلب شعلة السعي الحثيث نحو ما يريده الله تعالى، يأتي هذا الكتاب ضمن إطار توصية الإمام الخامنئي (حفظه الله) لتفسير القرآن واستخلاص العبر منه.
وهو جزء من كتاب أكبر أعدّه ونشره مركز صهبا في إيران. طرح فيه الإمام الخامنئي (حفظه الله) في جلسات تفسير قرآنيّة في شهر رمضان المبارك عام 1353 ه. ش في مدينة مشهد المقدّسة كليّات المطالب في الفكر الإسلاميّ من الإيمان والتوحيد والنبوّة والولاية.
أخذ معهد المعارف الحكميّة على عاتقه ترجمته وإعادة نشره مجزّءًا كلّ قسم على حدة لأهميّة مطالبه العلميّة المؤسّسة للأصول العقائديّة بشكلٍ ميسّر.
وقد ارتأينا اختيار عنوان “الإيمان ومستلزماته” لهذا الجزء، وهو عبارة عن سبع جلسات. عمد الإمام الخامنئي (حفظه الله) من خلال تفسير الآيات المرتبطة بالموضوع إلى تعريف الإيمان ومعنى العبوديّة والطاعة لله وشروطها، ومتى يكون الإنسان مورد رحمته تعالى. كذا، معنى المغفرة والغفران. وذكر علائم التقوى، والخصال التي تؤهّل الفرد أن يكون مؤمنًا.
كما أشار إلى نوعين من الإيمان، وأنّ الإيمان الواعي هو المطلوب مقابل الإيمان العصبيّ والتقليديّ، وبالتالي هو وليد التزامات عمليّة من صلاة وصوم وزكاة وكذا هجرة الأنا والديار الكافرة. وقد يكلّف هذا الإيمان المؤمن مسؤوليّات من جهاد ورفض للظلم وبذل للنفس والمال وغير ذلك.
ثمّ تعرّض لبحث قيمة الإيمان ونتيجته والبشائر التي أعدّها الله للمؤمنين، والأمور التي توصل الإنسان إلى الشعور بالرضا والسعادة الشاملة، وأهمّ هذه البشارات هي: الهداية والنور والطمأنينة والسكينة.
هذا عرضٌ موجز لجزء الكتاب الكبير الذي سيتمّ نشره على أقسام لتحصيل الفائدة المرجوّة منه، ولكي يأخذ حقّه وقدره من الاهتمام. والعبرة في كلّ ما ذُكر هو جعل الإيمان بالله تعالى أصلًا محوريًّا في سلوكنا في الحياة الدنيا، فلا يبقى الإيمان محلّه القلب فحسب، بل يصبح الدافع من أجل التحرّك في الحياة كلّها على أسسه وما يقتضيه هذا الإيمان.
علّ ذلك الإيمان يغمر قلوبنا فتحيل لحظة صدق مع أنفسنا وخالقنا حياتنا إلى عبادة واعية لله تعالى، وأرواحنا نقيّة تستحقّ القرب والزلفى من الباري. ويكون الإيمان عنصرًا أساس من عناصر التماسك الاجتماعيّ؛ يدفع الأفراد نحو التعاون والتفاهم ويبعدهم عن التنازع والتخاصم.
سكينة أبو حمدان
[1] خطب الإمام علي (ع)، نهج البلاغة، شرح الشيخ محمّد عبده (قم: دار الذخائر، الطبعة1، 1412ه/ 1370ه.ش)، الجزء 2، الصفحة 92.
[2] خطاب الإمام الخامنئي (حفظه الله) بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك 29-6-2014.
[3] الإمام الخميني (قده)، الأربعون حديثًا، تعريب محمّد الغروي ( مؤسّسة دار الكتاب الإسلاميّ، 1991م)، الصفحة 47.
[4] أحمد بن محمّد بن خالد البرقي، المحاسن (طهران: دار الكتب الإسلاميّة، 1370 ه. ش)، الجزء 1، الصفحة 251.