الديقمراطية الدينية في الفكر السياسي الشيعي المعاصر

الديقمراطية الدينية في الفكر السياسي الشيعي المعاصر

لشراء الكتاب

تحميل المقدمة

المقدّمة

لقد تحوّل الفكر السياسيّ الإسلاميّ إلى محور لاستقطاب الاهتمام العلميّ في العالم الإسلاميّ، بل في العالم أجمع إثر التطورات التي حصلت في العالم الإسلامي، وبخاصة بعد انتصار الثورة الإسلاميَّة في إيران وما تلاها من أحداث لها طابعها الفكري ولونها الثقافي الخاص. ويتضاعف هذا الاهتمام وترتفع وتيرة الحساسية وتبدو أكثر عيانا، في مواطن التماس والتلاقي بين المفاهيم الإسلاميَّة وتلك الوافدة من خارج جغرافيا الفكر السياسيّ الإسلامي. ومن جملة الأمور التي تثير اهتماما خاصاً مفهوم الديمقراطيَّة. ولا شك في أن هذا الاهتمام يكشف عن الحركية والحيوية في النظام المعرفيّ الإسلامي. وقد سعينا في هذا العمل البحثيّ إلى توضيح مفهوم “الديمقراطيَّة الدينيَّة” وشرحه ومعالجة الإشكاليّات المؤثّرة في وضوحه. وعلى هذا الأساس، حاولنا بادئ ذي بدءٍ استعراض مسيرة مفهوم الديمقراطيَّة في سياق الفكر الغربيّ في مرحلتيه المعاصرة وما قبلها، ووجدنا أنّ هذا المفهوم في الفترة السابقة على العصر الحديث كان يتمتّع بهذه الخصائص: – وجود حدود للمشاركة السياسيَّة – عدم تمتّع المرأة بالحقوق السياسيَّة – سير الحريَّة الفرديّة من رأس الهرم باتجاه القاعدة – طرح مفهوم الفرد من الطبقة إلى التشخص الفرديّ. بينما نجد أنّ هذا المفهوم في المرحلة الحديثة يتوفّر على الخصائص الآتية: – التأكيد على الدفاع عن الحقوق الفرديّة للمواطن – الاهتمام بدور العلم والوعي في المشاركة السياسيَّة – تقديم الحلول المناسبة للحؤول دون انحصار السلطة بيد الأكثريَّة – التأكيد على المنفعة والمصلحة الفردية – الاهتمام بالحريَّة بمعنى رفع الموانع (البعد السلبيّ للحريَّة). ومبرر البحث عن هذا المفهوم هو أنه تسرّب من النظام المعرفيّ الغربيّ إلى نظامنا المعرفيّ. وبالرغم من وجود تيارين أساسيين في التعاطي مع مفهوم الديمقراطيَّة (التيار الأول يرى إلى الديمقراطيَّة بوصفها مجرد نظام سياسي وطريقة للحياة السياسيَّة، والثاني ينظر إليها من زاوية الفلسفة الاجتماعيَّة والقيم الخاصّة التي تفرضها تلك الأيديولوجيا) وعلى الرغم من هذين التيارين فإن لمفهوم الديمقراطيَّة في الغرب معنىً سيّالا. ومن هنا، عندما ورد مفهوم الديمقراطيَّة إلى النظام المعرفيّ الإسلاميّ تعرّض لتغييرات وتحوّلات واكتسب معنىً مستقلاً، يختلف عن معناه الذي كان له في السياق الغربيّ وتولّد منه مفهوم جديد هو مفهوم الديمقراطيَّة الدينيَّة، وقد حصل الأمر عينه مع مفهوم الدستور والملكيّة الدستوريّة إبّان عصر المشروطة. وهذه التغيّرات الطارئة ناتجة عن خصوصيّات النظام المعرفيّ الإسلاميّ وآليّاته المعتمِدة على النصوص الدينيَّة؛ لأجل هذه الأمور مجتمعة نرى من الضروريّ، أن تكون الخطوة الثانية بعد بيان هذا المفهوم المركّب الجديد، هي محاولة تحليل ملحقات هذا المفهوم على المستويين الخارجيّ والذهنيّ. ومبرر ذلك هو الهدف الذي اخترنا متابعته وهو السعي لاكتشاف نظام سياسيّ يستند إلى النصّ الدينيّ، كما هو المفترض في النظام المعرفيّ الإسلاميّ. والعناصر النظريَّة المشار إليها هي مجموعة من العناصر التي تتميّز ببعد نظريّ (ثيوريك) صرف، وسوف أعبّر عنها في هذه الدراسة بالأصول أو المبادئ النظريَّة أحياناً. والعناصر الخارجيّة هي تلك المجموعة التي تجاوز حدود الذهن والمعتقد لتتحقّق في الواقع الخارجي المنفصل عن الذهن. والهدف الذي أرمي إليه من هذا التصنيف هو تسهيل محاكمة النظريَّات والحكم لها أو عليها، على ضوء هذه العناصر بعد تحليل النظريَّة إلى عناصرها المكوّنة لها في بعديها: النظري الذهني، والخارجيّ. وقد حاولت تنظيم النظريَّات السياسيَّة التي عالجتها، وتبويبها في إطار نماذج عدّة هي: نموذج ولاية الفقيه العامّة، ولاية الفقيه من باب الحسبة، الولاية من باب جواز التصرف، وفصل الدين عن الدولة، وفي هذا التصنيف محاولة لملأ فراغ موجود في نظريَّة من خلال النظريَّات الأخرى. والأساس الذي اعتُمِد لحصر هذه النماذج هو استقراء ما أنتجه الفقهاء في هذا المجال. ومن ثمّ، وبعد حصر هذه النظريَّات طرحت عليها ثلاثة أسئلة مهّدت أرضيّة تقييمها. هذا ويعتقد بعض الباحثين أنّ مفهوم “الديمقراطيَّة الدينيَّة” تركيب إضافي، وهو بهذا المعنى يختلف عمّا أقصده في هذا البحث عندما أستخدم هذا التعبير بوصفه مصطلحاً سياسيّاً جديداً. ويعتمد هؤلاء الباحثون في رؤيتهم لأنواع الإضافة على أساس التحليل الذهنيّ والتأمل في مباحث الألفاظ، وبالتالي تكون أنواع الإضافة على النحو الآتي: التركيب الإضافي الترخيصي، التركيب الإضافي البياني، التركيب الإضافي الوصفي، التركيب الإضافي الاستعاري، التركيب الإضافي الاقتراني. ويمكن تلخيص الدليل على عدم صحة هذا التصور: إمكان عدم مطابقته للواقع، تجاهله للتجارب المعاصرة في مقام العمل، وعدم الاهتمام بالمفاهيم والمضامين في مجال الفكر الإسلامي والاهتمام الصرف بالألفاظ والتراكيب. وبالنظر إلى النظام المعرفيّ الإسلامي، فإن مفهوم “الديمقراطيَّة الدينيَّة” يجب أن يُتعاطى معه بشكل أعمق من كونه بحثاً لفظياً، والإبهام الموجود في مفهوم الديمقراطيَّة سوف ينتقل إلى هذا المفهوم الجديد، عندما يصنف التركيب بين الدين وبين الديمقراطيَّة في باب التركيب الإضافي. ومن خلال الإشارة إلى الإشكالية الموجودة في رؤية القائلين بالتركيب الإضافي، يتضح الرد على القول بعدم إمكان الجمع بين الديمقراطيَّة والدين؛ وذلك لأنَّ الإشكال والاعتراض يرد بناء على القول بالتركيب الإضافي. وسوف نشير في الباب الأول من هذه الدراسة عن موقفنا المؤيد لمصلطح الديمقراطيَّة الدينيَّة، بعيداً عن استخدامه عند أنصار ما بعد الحداثة. وهناك سوف نشير إلى وجود نموذج من الديمقراطيَّة الدينيَّة في أوروبا، واعتراف بعض المنظرين بصحة وصف هذه الأنظمة بأنها أنظمة ديمقراطيَّة. وبالعودة إلى المباني النظريَّة عند المفكّرين والعلماء، على ضوء الأسئلة الإطارية الأربعة التي سوف نطرحها على كلّ نظريَّة سياسيَّة، وسوف يتضح مدى القرابة بين هذه الأطر وبين مفهوم الديمقراطيَّة الدينيَّة. في السؤال الأول من هذه الأسئلة، حاولنا البحث عن ميزان الحريَّة والاستقلال الفردي في طرح المنظّر الذي نحاول استجواب نظريته؛ وفي السؤال الثاني حاولنا التساؤل عن مصدر مشروعيَّة النظام الديمقراطي الديني المدعى في النظريَّة. وفي هذا السؤال نهدف إلى تشخيص حدود تجارب الدولة مع المواطن مثلاً: هل يشترط في تجاوب الدولة وانسجامها مع المواطن أن يسمح نظامها بتغيير الحاكم أو الحكّام في هذا النظام الديمقراطي الديني؟ وفي السؤال الثالث حاولنا استجواب النظريَّة وصاحبها حول الموقف من السلطة المعترف بها للشعب؟ وهل هي سلطة منفصلة عن السلطة السياسيَّة، لها كيانها القائم بذاته؟ وكذلك حول الموقف من رقابة الأمَّة على الدولة والإدارة الحاكمة؟ وعن موقع هذه الرقابة هل من خارج النظام السياسيّ أم من داخله؟ وقد حاولنا في هذا المجال تقصّي موقف المنظّر من عناصر الرقابة التي يجب، أو يمكن أن تخضع لها السلطة السياسيَّة. هذا وبالرغم من وجود مشاكل عدة، وعقبات واجهناها خلال البحث مثل: الإبهام في مصطلح الديمقراطيَّة الدينيَّة، وجدة هذه الظاهرة، وعدم انسجام الأفكار والنظريَّات التي تمت معالجتها مع طرح مشروع البحث، واكتفاء بعض الباحثين بالتعريف اللفظي لهذا المفهوم، وعدم وجود إجماع حول مفهوم الديمقراطيَّة الدينيَّة، بل وجود من ينكر إمكان الربط بين الديمقراطيَّة والدين؛ بالرغم من ذلك كله جرت محاولة جمع الوجوه المشتركة بين النظريَّات المطروحة في مجال “الديمقراطيَّة الدينيَّة”، بهدف المقارنة بينها. وقد أُعطي هذا الجهد عنوان: “تصنيف نظريَّات الديمقراطيَّة الدينيَّة”. وقد استبعدنا من هذا التصنيف، ما طرح على نحو الجدل، أو الأسلوب الخطابي، واكتفينا بالاستناد إلى الأفكار التي عرضت بطريقة علمية تستند إلى الدليل. ولم نحاول إدراج رأي أي عالم أو مفكّر، إذا لم يكن له رأي بُني على أساس ما تقدم. وبعد دراسة التصنيفات حاولنا دراسة النظريَّات بشكل فردي لاستخراج وجوه الاشتراك بينهما فكانت أربعة نماذج أساسية، تتميز بما يأتي: 1- الاعتراف بتدخل الدين في الحياة الاجتماعيَّة للإنسان، غاية الأمر أن بعضهم يرى إلى الدين بوصفه أمراً فردياً وآخرون يرون فيه أمر اجتماعياً. 2- الاعتراف بمقدار من الحريَّة والاستقلال للأفراد في النظام السياسيّ الديمقراطي الديني؛ ولكن بعضهم قيّد هذه الحريَّة بالقوانين المطابقة للشريعة، وبعضهم اكتفى بقيد أن تكون هذه القوانين منسجمة مع الشريعة. 3- الاعتقاد بمشروعيَّة النظام الديمقراطي الديني المبني على التأييد الشعبي، سواء في ذلك النظام الإلهي – الشعبي أو الإلهي؛ مع اختلاف الآراء في مدى تأثير رأي الشعب في هذا النظام. 4- الإجماع واتفاق الرأي على أهمية ومنزلة العناصر الرقابية التي تؤدي إلى تقييد السلطة السياسيَّة. وفي هذا المجال يرى بعضهم أن الرقابة تابعة للتفويض من السلطة الدينيَّة الحاكمة، ويرى آخرون أنها غير تابعة للتفويض. 5- الاعتراف بالمشاركة السياسيَّة للشعب في النظام الديمقراطي الديني؛ ولكن هذه المشاركة السياسيَّة تبعية وتنفيذية بحسب رأي، وبحسب آخر يُنظر إلى هذه المشاركة بوصفها عنصراً رقابياً. 6- الإجماع على قضية العدالة في النظام الديمقراطي الديني، ولكن مع الاختلاف في مصاديق العدالة الاجتماعيَّة – السياسيَّة. وبشكل عام يمكن القول حول مفوم الديمقراطيَّة الدينيَّة: هو طريقة ومنهج للحياة السياسيَّة لشعب يقبل النظام الديني ويؤمن به، وفي الوقت عينه يراعي هذا النظام السياسيّ حقوق الشعب. ونظراً لما في هذا البحث من جدة، فقد واجهتنا في اختيار الآراء وتنظيمها وتشذيبها صعوبات ذلَّلتها هداية ودراية سماحة الشيخ داود فيرحي الذي أدّت ملاحظاته إلى حذف وتلخيص بعض المطالب ليتوفر هذا البحث على الانسجام الداخلي والترتيب المنطقي. وهذا الترتيب مدين أيضاً لآراء نقدية لعدد من المقومين لهذا العمل، كان لكل منه سهم في تصويب مسيرة الدراسة لتأخذ شكلها الحالي على النحو الآتي: الباب الأول: خُصص الباب الأول لوصف المطالب العلمية التي يُحتاج إليها في البحث عن الديمقراطيَّة الدينيَّة، حيث افتُتِح هذا الباب بالبحث عن مفهوم الديمقراطيَّة والتحولات التي طرأت عليه في النظام المعرفيّ الغربيّ، ثم ضممت إلى ذلك البحث عن الديمقراطيَّة الدينيَّة وطبيعة الإضافة في هذا المركب الجديد، وسعيت قدر المستطاع في سبيل توضيح العناصر الذهنية والخارجية لهذا المفهوم الجديد، وختمت بشرح الأهداف المتوخاة منه بشكل مختصر. الباب الثاني: خصّصته للبحث عن المباني النظريَّة للعلماء المسلمين حول مفهوم الديمقراطيَّة الدينيَّة، وقد صنَّفت النظريَّات المطروحة في هذا المجال إلى أربعة نماذج هي: ولاية الفقيه من باب الحسبة، الولاية العامة للفقهاء، جواز التصرف، فصل الدين عن الدولة. وأمّا الباب الثالث: فقد خصِّص لتصنيف النظريَّات المطروحة حول مفهوم الديمقراطيَّة الدينيَّة، التي جُمِعت استقرائياً. وفي هذا التصنيف سعيت وحاولت البحث بشكل مقارن حول الفكر السياسيّ المستنبط من النصوص الدينيَّة، وحاولت قدر الوسع والطاقة بيان نقاط الضعف والقوة في كلّ نموذج من النماذج المطروحة. وأمّا الخاتمة: فقد حاولت فيها جمع وجوه الاشتراك بين النظريَّات المطروحة، والخروج بتصور خاص ورؤية ذاتية لهذا المفهوم (الديمقراطيَّة الدينيَّة). وفي ختام هذه المقدمة لا يسعني إلا تمنِّي أن يكون هذا العمل محاولةً في سبيل تثبيت الديمقراطيَّة الدينيَّة وترويجها في البلاد الإسلاميَّة. متقدّماً من جميع من كان لهم الفضل في ظهور هذا الكتاب بالشكر الجزيل.

مسعود پور فرد

ربيع 1384


لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<