by هنري كوربين | يوليو 18, 2016 6:54 ص
مقدمة المؤلف هنري كوربان للطبعة الثانية
(1) نحن لا نعود ننظر بالعين نفسها إلى كتاب تكونت فكرته وحُرِّرَ قبل عشرين عاماً. لقد صدرت الطبعة الأولى لهذا الكتاب في عام 1958م. وحين تلطَّف ناشرنا فعزم على إعادة طبعه، انتابتنا في الحال الرغبة في تضمينه ثمرة البحوث التي أجريت خلال تلك الفترة. ولكن الشروع في ذلك سيكون إفراطاً وعبثاً.
(2) لا شك إنه كان بمقدورنا في الواقع أن نوسِّع الشروح ونُكثر من الإشارات. ولكن هذا الكتاب يظل بالنسبة لكاتبه نقطة انطلاق جديدة، ولحظة فريدة أضاءت بنورها الدرب الذي سلكه بعدئذ. فنحن قد لا نفسِّر تعاليم ابن عربي تفسيراً مغايراً اليوم. فالنصوص التي ترجمناها وشرحناها لا نزال نراها هي النصوص التي انطوت على المواضيع البارزة. وقد أشرنا إليها مرات عديدة في أعمالنا، طالما كانت هذه الأعمال تُشَّكل امتدادا لها. وقد تُرجِمَ المؤَلَف إلى الإنكليزية. وقد انتهى كل ذلك بمنح الكتاب هويته في “عالم ملكوت الكتب”. فلا يمكننا المساس به دون تغيير هذه الهويّة. وإن كان ولا بد، فالأجدر هو كتابة كتاب جديد عن ابن عربي. ولكن ذلك لم تحن ساعته بعد، ونحن نعتقد إن الرسالة التي يحملها هذا الكتاب لا تزال تحتفظ بدلالتها وقوتها.
(3) لذلك فالتعديلات التي أدخلت على هذه الطبعة الجديدة، بجانب توسعة الكشَّاف، تشمل بالأساس تحديث المؤشرات إلى المراجع المذكورة في الهوامش والملاحق. إذ إن بعض المقالات أصبحت كتباً، وبعض المؤلفات التي أُعلن عنها قد ظهرت بالفعل.
(4) وهذا ينطبق بوجه خاص على المؤَلَف الضخم عن تاريخ وتصنيف مؤلفات ابن عربي، الصادر عن المعهد الفرنسي بدمشق عام 1964م، والذي وضعه صديقنا عثمان يحيى [انظر الهامش1 في المقدمة أدناه]، الذي اضطلع أيضاً بعمل هائل آخر، وهو تحقيق كتاب الفتوحات المكية، والعناية بطباعته. وهو قيد النشر في القاهرة، وقد صدر منه أربعة أجزاء من أصل سبعة وثلاثين!
(5) في الوقت نفسه، استطعنا أن نتعاون، عثمان يحيى وأنا، لنقدم مساهمة مثمرة لدراسة ابن عربي وفي الوقت نفسه للدراسات الشيعية، وذلك بنشر مجلدين من أعمال حيدر الآملي (القرن 14م) التي تمكنّا من ترميمها، وقد ضمناهما مقدمات وافية: الأول هو “خلاصة الفلسفة الشيعية”؛ والآخر هو التمهيدات للمؤَلَف الذي عَنْوَنَه “نص النصوص” وهو شرح لفصوص الحِكَم، أي للكتاب الخلاصة الذي لَخَصَ فيه ابن عربي الحكمة الإلهية النبوية كلها والذي يرد ذكره كثيراً في الكتاب الحالي.
(6) حيدر الآملي هو علم سامٍ ، يمثل تمثيلاً بارزاً الروحانية الشيعية الإيرانية. فلا ريب إنه كان مبدأ الصلة التي تمت بين الحكمة الإلهية لابن عربي والحكمة الإلهية الشيعية. غير إنه مهما كان إعجابه وإخلاصه للشيخ الأكبر، إلا أن ثمة أمراً لا يمكن لحيدر الآملي وهو الحكيم الإلهي الشيعي أن يتساهل فيه، لأنه أساسي في مسألة مبحث النبوة ومبحث الإمامة في التشيُّع. فالولاية هنا هي الاصطفاء الإلهي الذي يضفي صفة القداسة على أولياء الله والذي يُشَكِّل عند كل نبي الشرط المُسبَق لرسالته النبوية. ثمة دائرة للنبوة، وثمة دائرة للولاية تليها، وهي دائرة الإسرار الروحي.
(7) ولأن هذه المسألة لا يعالجها الكتاب الحالي أساساً، فلنتذكر فقط إن في الحكمة الإلهية الشيعية لا يكون ختم الولاية إلا للإمامة المحمدية، متمثلة في الشخصية المزدوجة المكونة من الإمام الأول كخاتم للولاية المطلقة، والإمام الثاني عشر كخاتم للولاية ما بعد المحمدية. في حين أن ابن عربي كان يرى في يسوع [عيسى (ع)] خاتم الولاية المطلقة، وبحسب رؤية رآها في المنام حملت إليه هو نفسه فكرة كونه خاتم الولاية ما بعد المحمدية، وإن كان لا يبدو أنه يجهل إن فكرة هذا الخاتم تشير إلى شخص آخر…لقد نقد حيدر الآملي نقداً شيعياً أساسياً مفهوم ابن عربي هذا، لأنه يفك الصلة بين الرسالة الظاهرية للنبوة والرسالة الباطنية للإمامة.
(8) بالمقابل، ففي كل جوانب ميتافيزيقا ابن عربي وعلومه الباطنية، كان حيدر الآملي معجباً به وشارحاً رائعاً له، حيث ستغدو مؤَلَفاته فيما بعد دليلاً ضرورياً لدراسة ابن عربي. وكما هو معروف، كان ابن عربي مُدرِكاً أن كتاب الفصوص لم يكن من إنشائه الخاص، بل إنه من وحي النبي إليه في رؤيا شهودية. وهكذا جُرَّ حيدر الآملي إلى فكرة البرزخ الروحي الذي وصفه ب “ما بين الكتابين”. فالنبي هو بين الكتاب الذي تسلَّمه من السماء، أي القرآن، والكتاب الذي صَدَرِ عنه، أي كتاب الفصوص الذي أوحى به إلى ابن عربي. وابن عربي هو أيضاً “بين كتابين”: الكتاب الذي تسلَّمه من النبي، أي الفصوص، والكتاب الذي صَدَرَ عنه، أي كتاب الفتوحات الضخم. إن هذا التنصيف في “ظاهرة الكتاب المقدس” هو ما سيكون حاضراً في أذهاننا حين نقرأ هنا الاقتباسات العديدة التي نقلها من كتاب الفصوص، وكذلك التوضيحات التي قَدَّمها ابن عربي فيما يخص أصل كتابه العظيم، الفتوحات (انظر هامشينا 328 و333 أدناه).
(9) فإذا كانت التجربة الشهودية هي أصل الفصوص، فإن تجربة ابن عربي الشهودية هي كذلك ما يوجِّه البحث الحالي عن دور الخيال الخالق في المذهب الروحاني. فالتجربة الصوفية لا يمكن في الواقع أن تُفهَمَ من جانب واحد، فقط من جانب أنَّ المنهج السالب [طريق التنزيه] via negationis يُفضي إلى غياب الصور. فطريق التنزيه يصطدم بحدٍ هو علامة لنقطة البداية للارتداد إلى الخلف، وإفساح المجال لتفتح الرؤى المثالية visions imaginales في التصوف الشهودي….
[1]
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
Source URL: https://maarefhekmiya.org/4705/%d8%a7%d9%84%d8%ae%d9%8a%d8%a7%d9%84-%d8%a7%d9%84%d8%ae%d8%a7%d9%84%d9%82-%d9%81%d9%8a-%d8%aa%d8%b5%d9%88%d9%81-%d8%a7%d8%a8%d9%86-%d8%b9%d8%b1%d8%a8%d9%8a/
Copyright ©2024 معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية unless otherwise noted.