by الدكتور أحمد ماجد | سبتمبر 23, 2016 6:54 ص
لا يعتبر مفهوم القوة الناعمة[1][1] من المفاهيم الحديثة المستجدة على التفكير الإنساني، فهذه القوة ما انفكت تواكب حياة الإنسان، وتشكل جزءًا كبيرًا من تاريخه، لجأت إليها العديد من الحضارات عندما حوّلت طاقتها الحضارية من شكلها المادي الفظّ إلى شكله الرمزي عبر توظيف آليات ودلالات رمزية بهدف السيطرة على الآخر والتأثير عليه ايديولوجيًا وعقائديًا، أو احباطه ودفعه للاذعان والخضوع وتقديم تنازلات عبر التأثير عليه. وتفيض الشواهد التاريخية بالممارسات الرمزية، فقد وصل المغول إلى هزم العديد من الأمم قبل أن تهزمهم آلتهم العسكرية.
وهذا التقديم يجعل من المنطقي أن نصنف القوة الناعمة باعتبارها قوة ذات طبيعة رمزية، لأنّه يعبر عن حراك إنسانيّ يستفيد من الرمز وقدراته من أجل السيطرة على الآخرين، فهو إذن تطوير في آليات ممارسة العنف والانتقال به من شكله الحسيّ إلى مستويات أكثر عمقًا مستفيدًا من التركيب النفسي للإنسان. حيث تصبح الضحية قانعة بقدرها، تسير إليه دون انتباه أو وعيّ، لأنّ الجلاد يسعى إلى جعلها تتبنى تصوراته ومسلماته ولغته والصور التي يريد أن يعممها عن نفسه، مما يفقدها القدرة على تسيير نفسها، وبالاعتماد على نظرية جوزيف ناي وتعريفه للقوة الذكية ودورها ووضعها في إطار مفهوم القوة ككل ومع الأخذ بالاعتبار النظريات التى تعاملت مع القوة الذكية يمكننا رصد ثلاثة مراحل هم كالآتي:
فهذا القوة أكثر خطورة من العنف الجسدي لأنّها هادئة وموجهة، تستطيع أن تتسلسل دون قصد من المتلقي إلى شتى الأنساق القيمية، كما بإمكانها أن تضرب الجهاز النفسي للإنسان، وتوقع به أضرارًا كبيرة ليست آنية؛ فالدمار في المؤسسات المادية يمكن تعويضه وإعادة بنائه، بينما الخسائر الناتجة عن القوة الناعمة لا يمكن أن تعوض، لأنّها تتلاعب بالأصول المرجعية، وتعمل على تبديل محتواها دون تنبه المتلقي، وهذا ما كان “بير بورديو” و”جون كلود باسرون” قد نبها اليه عام 1970 في كتابهما المشهور “إعادة الإنتاج” حين اعتبرا أنّ الغرب يسعى للتلاعب والتأثير على المقدرات الحضارية للأمم عبر فرض دلالاته: ” بوصفها دلالات شرعية، حاجبًا علاقات القوة التي تؤصِّل قوته”[3][3]، فالقوة الناعمة تسعى إلى إعادة انتاح دلالات المتلقي والتلاعب بها عبر ممارسات لاعنفية وإن ترافقت مع العنف في احيان أخرى، إلا أنّ الأصل في هذا العنف ليس العنف نفسه، إنّما الدلالات التي تسعى إلى تغييرها، أو إجراء تعديل عليها، وقد عرفها جوزف ناي عموما بأنّها القدرة على التأثير في الأهداف المطلوبة، وتغيير سلوك الآخرين، فالقوة الناعمة هي: “القدرة على الحصول على ما تريد من خلال الاقناع وليس الاكراه”[4][4].
فالقوة الناعمة ليست جديدة كفكرة، ولكن أهمية الكلام فيها، تقبع في تحولها إلى سياسة تطبيقية، أخذت مجريات تنفيذية في واقع الأمة الإسلامية، حيث سعت الولايات المتحدة إلى تعديل وإعادة صياغة العقل الإسلاميّ بما يتلاءم مع سياستها الخارجية، حيث أدت السياسات الأمريكية ما بعد الحرب الباردة إلى إلى تطويقها، مما أدى إلى صعود موجة المعارضة لها، بالتالي فكانت الحرب الناعمة خيارها الأفضل لتخفيف حدة العداء لها وفي الوقت نفسه للحفاظ على مصالحها، وفي هذا المجال عملت على تشجيع وإنشاء وتمويل الكثير من المؤسسات المدنية التي تتلقى معونات بمئات الآلاف من الدولارات تحتت شعار نشر ثقافة حقوق الإنسان أو تدريب الصحفيين على الكتابة البناءة والمتوازنة أو نشر ثقافة السلام، أو الترويج للفكر الحر في البرامج التلفزيونية، إضافة إلى تمويل الدراسات والأوراق البحثية التي تطال البنية الدينية والسكانية للأمة الإسلامية، كما قامت باستيعاب جزء كبير من الطيقة المثقفة ووظفتها ضمن برامجها، واستثمرت في جزء من الحالة الإسلامية ضمن رؤيتها الاستراتيجية ودخلت معها في حوار استيعابي أدمجتها في اطار مشروعها العام، وبذلك فتحت أمامها أفق التغيير، الذي يفضي إلى ثورات تغييرية هادئة تعيد دمج المجتمعات الإسلامية في فلكها، حتى إذا استعصت بعض الدول يتمّ اللجوء إلى حروب الأقليات والأديان والمذاهب، وعند ذلك تدخل في حروب غير مكلفة تدير من خلالها اضطرابات دائمة، مما يؤدي إلى قيام كيانات رخوة وغير متماسكة، تمتلك القدرة على التأثير عليها والتحكم بها.
هذا، وقد استغلت الولايات المتحدة ما سمي بالربيع العربي منذ عام 2011، ووسعت من استخدام وسائل التواصل الاجتماعي من أجل فرض نموذجها القيمي، وعملت على استبدال الأنظمة القائمة بأخرى بديلة تلبي احتياجاتها، حتى إذا ما اصطدم المشروع بمعوقات لجأت إلى الحروب الداخلية مستفيدة من استثمارها في الحالات التكفيرية، وأفسحت المجال لها لايصال صورتها التي تشتمل على القتل والذبح واضطهاد الأقليات الدينية لنشر صورة الرعب وبناء أجواء هستيرية مخيفة في وسط الناس والجماعات، وهي تقصد من ذلك تعزيز الصورة الرمزية الخاصة بها باعتبارها تمثل التطور الحضاري في مقابل الإسلام الذي يقوم على القتل، وهذا ما يؤدي إلى ضرب صورة رمز الذات لدى المسلم والآخر، وهي بذلك تنهك المجتمعات الإسلامية، وتدمر مقدراتها، وتظهر فشك المشروع الحضاري الإسلامي، بالتالي فالقوة الناعمة تتحالف مع قوة صلبة، وتخدم هدفًا استراتيجيا: “وذلك من خلال أفعال خارجة على القانون، تستهدف خلق حالة من الذعر الشامل في المجتمع”[5][5]وذلك عبر: “القتل المنظم الذي يهدد الأبرياء ويلحق الأذى بهم، بهدف خلق حالة من الذعر”[6][6]، حتى إذا ما استنفذت مصالحها منهم تخلت عنهم، وقامت بتقديم مشروع لبرلة المجتمعات الإسلامية.
من خلال ما تقدم، نلاحظ أنّ القوة الناعمة هي حرب متكاملة، لا تستهدف البنى الواعية في المجتمع، وإنّما تعمل على تقويض أسس المجتمعات الإسلامية عبر العمل على البنى العميقة اللاوعية، ولذلك لا تُظهِرُ هذه الحرب الأدوات المستخدمة، بل أنّها لا تعمل على الخطاب المباشر، فهي تتستر بمظهريات تنتمي إلى الحضارة المستهدفة، وتعمل على الاشتغال عبر تعديل محتواها بما يتوافق مع النموذج، لذك على المؤسسات الثقافية النظر إلى هذه الحرب باعتبارها الأكثر أهمية والخسارة فيها، تعني خسارة الأمة لمقدراتها الثقافية ومستقبلها، واعتماد استراتيجيات ثقافية غير تقليدية، تخاطب موجبات هذه الحرب، واعطاء هذا الجانب أهمية خاصة وتعمل على مقاومتها لأنّها كما قال الإمام الخامنئي دام ظله في معرض وصفه لوسائل الإعلام التي تعتبر احدى أدوات الحرب الناعمة: ” لا نكون في موقع المبالغة إذا حددنا أنّ كل فضائية معادية تعادل سرب من الطائرات أو حاملة طائرات في قوتها الناعمة في سياق هذه الحرب الجديدة، وكل موقع أو شبكة انترنت تعادل مدفعًا ثقيلًا في قوتها الناعمة، وكل مقالة أو تصريح يعادل قذيفة صاروخية في قوته الناعمة”[7][7]، ومن واجبها اعطاء هذا الموضوع أولوية خاصة عبر:
وكل تغافل عن رصد هذه التيارات الفكرية والتنبه لها والتقليل من قيمتها سيؤدي إلى عدم وضوح ساحة المواجهة، مما يساعد على تثمير مشروعه وتعميمه، وهذا ما سيعيق المواجهة في المرحلة اللاحقة؛ أي مرحلة ما يعد الأزمة.
فالمواجهة الثقافية، هي مواجهة تقوم على البصيرة، فلا يمكن لمثقف يواجه العدو أن يعتمد على انفعالات قد تترك أثرًا سلبيًا في أذهان المخاطبين أو تمس رمزيات لديه أو تزعزع الثقة بالمشروع الذي يحمله، وإن كان هذا المخاطب في موقع الخصم.
وهي تحتاج إلى اليقظة والتنبه، فكل كلمة قد تكون محسوبة في صالح أدوات القوة الناعمة، وتخدم توجهاتهم في الوقت الذي فيه هذه المعركة تحسب على أسس هندسية تتحكم فيها أرقام الربح والخسارة، وليس الانتاج الكمي، فقد تصدر أطنانًا من الأوراق وتخسر الحرب في حال لم تستطع أن تؤثر في الخصم.
_ مخالفة هذا التيار لتراث الأمة.
[1][9] وإن كان هذا المفهوم حضر تحت مسميات عديدة مثل الديبلوماسية الهادئة والحوار الفكري، والإقناع… إلا أنّ أول من استخدم لفظ القوة الناعمة هو جوزف ناي الذي شغل منصب مساعد وزير الدفاع لشؤون الأمن الدولي في الولايات المتحدة الأمريكية حتى عام 1995 م.
[2][10] Joseph S. Nye, J, “Soft Power”, Foreign Policy, No. 80, Twentieth Anniversary (Autumn, 1990), pp. 153-171, Published by: Washingtonpost.Newsweek Interactive, LLC, Article DOI: 10.2307/1148580, Article Stable URL: http://www.jstor.org/stable/1148580.
[3][11] بير بورديو، العنف الرمزي، ترجمة نظير الجاهل، (بيروت: المركز الثقافي العربي، 1994)، الصفحة 5.
[4][12] ص 25.
[5][13] عزت سيد إسماعيل، سيكولوجيا التطرف والإرهاب، الرسالة 110، حوليات كلية الآداب، الكويت، الحولية 16، 1996، ص1
[6][14] م.ن، م.ن.
[7][15] 27
[8][16] خطاب لسماحة السيد القائد أمام النخب العلمية في 30-10-2009.
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
Source URL: https://maarefhekmiya.org/7830/%d8%a7%d9%84%d9%82%d9%88%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d9%86%d8%a7%d8%b9%d9%85%d8%a9-%d9%88%d8%af%d9%88%d8%b1-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%a4%d8%b3%d8%b3%d8%a7%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d8%ab%d9%82%d8%a7%d9%81%d9%8a%d8%a9/
Copyright ©2024 معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية unless otherwise noted.