عبيد الدنيا تجار الدين

عبيد  الدنيا  تجار  الدين

يصف  الإمام  الحسين(ع)  حال  المجتمع  الذي  كان  في  زمانه؛  يعتبر  أن  أهله  باتوا  عبيدًا  لدنياهم،  وأن  انتمائهم  للدين،  وحديثهم  في  أمور  الدين  صار  سلعة  تلوك  الألسن  الترويج  لها،  بغية  استدراج  العطايا  من  سلطان  المال  والسياسة.

ولا  يخفى  أن  من  استخدم  الدين  لغاية  ما،  فهو  أقرب  ما  يكون  لبيعه  وتركه،  عندما  لا  يوصله  الدين  إلى  غاياته  المصلحيّة  والشخصيّة.  يقول  سيّد  الشهداء عليه السلام:  “الناس  عبيد  الدنيا،  والدين  لعق  على  ألسنتهم،  يحوطونه  ما  درّت  به  معائشهم  فإذا  مُحِّصوا  بالبلاء  قلّ  الديّانون”.

الدنيا  وعبيدها

يولد  المرء  على  هذه  الأرض،  وما  بين  ولادته  وموته  يرسم  حياته  الدنيا.  وما  تعبير  الحياة  الدنيا،  إلّا  من  باب  إبراز  الفارق  بينها  وبين  الآخرة،  فالآخرة  دار  رفعة  وسلامة  ودوام  أما  أرض  الحياة  فهي  مشوبة  بالذل  والآفات  والزوال.

فالدنيا  دنيّة  إذا  ما  قيست  إلى  الآخرة.  إلا  أنّ  الأدبيّات  الإسلاميّة  والنص  المعصوم  اعتبر  أن  طبيعة  الحياة  على  الأرض  حياديّة  تجاه  الخير  والشر،  والذي  يقرّر  ملاك  الخير  والشر  فيها  هم  سكّانها  من  الناس.

إن  استقلاليّة  إرادة  الناس  ورغبتهم  عن  القيود  الآسرة  التي  تفرضها  وقائع  الحياة  الدنيا  تؤهّلهم  ليكونوا  أحرارًا  في  أنفسهم،  ومثل  هكذا  حرّيّة  ترفعهم  لقيمٍ  سامية  حاكمة  على  الواقع  فاعلة  فيه  إذ  الرفعة  تعني  أن  يربط  المرء  نفسه  بالحق،  والحق  هو  الله.  ولما  يعظم  الله  في  قلوب  الناس  يصغر  ما  دونه  من  جمال  زائف  وسلطان  زائف  وهنيء  عيشٍ  زائف.  بذا  يمتلك  الدنيا  حينما  تحرّر  من  أسرها.  عن  الإمام  علي عليه السلام:  “من  كرُمت  نفسه  صغُرت  الدنيا  في  عينه”.

أمّا  الذين  غيّبوا  عن  حقائقهم  كل  حقيقة  ورضوا  بالوهم  والزيف  وعالم  الأشياء  فهم  الذين  وقعوا  أسارى  نكد  الدنيا  ومشاحناتها..  لقد  خاضوا  الحرب  لا  لشيء  إلا  لمال  يقتنونه  وظلم يغتالون  فيه  وجوه  المحبة  والسلام،  وربطوا  كل  قناعة  بالرغبة  والهوى،  وعن  أمير  المؤمنين عليه السلام:  “ألستم  في  مساكن  من  كان  قبلكم  أطول  أعمارًا،  وأبقى  أثارًا،  وأبعد  مالاً،  وأعدّ  حديدًا،  وأكثر  جنودًا؟!”.

تعبّدوا  للدنيا  أي  تعبّد،  وآثروها  أي  إيثار،  ثمّ  ظعنوا  عنها  بغير  زادٍ  مبلّغٍ  ولا  ظهرٍ  قاطع”.  ثمّ  إنّه  يضيف  البعد  النفسي – الذي  تؤسسه  الحياة  الدنيا  وتصوغ  على  مقتضاه  شخصية  الناس – حينما  يقول عليه السلام:

قد  خرقت  الشهوات  عقله،  وأماتت  الدنيا  قلبه،  وولهت  عليه  نفسه،  فهو  عبدٌ  لها،  ولمن  في  يديه  شيء  منها،  حيثما  زالت  زال  إليها،  وحيثما  أقبلت  أقبل  عليها“.

فعناصر  العبودية  وأركانها  النفسية  لدى  المرء  ثلاث:  شهوة  تذهب  بالعقل،  ودنيا  تميت  القلب  الواعي  بحبّها،  وهوى  نفس  يهيم  بأشياء  هذه  الأرض  فيقبل  أو  يدبر  حسب  المصالح  والمنافع..  بحيث  لو  كان  تحقيق  مصالحه  الدنيوية  يتمّ  بالدين  لكان  من  أهل  الدين،  وعندما  تبتعد  تلك  المصالح  عن  الدين  فهو  أول  من  ينقلب  عليه  ويغتال  أقدس  مقدساته  ألا  وهو  الإنسان..

ولو  كان  ذاك  الإنسان  هو  الحسين  بن  علي عليه السلام. 

الشيخ شفيق جرادي

الشيخ شفيق جرادي

الاسم: الشيخ شفيق جرادي (لبنان) - خريج حوزة قُمّ المقدّسة وأستاذ بالفلسفة والعلوم العقلية والعرفان في الحوزة العلميّة. - مدير معهد المعارف الحكميّة (للدراسات الدّينيّة والفلسفيّة). - المشرف العام على مجلّة المحجة ومجلة العتبة. - شارك في العديد من المؤتمرات الفكريّة والعلميّة في لبنان والخارج. - بالإضافة إلى اهتمامه بالحوار الإسلامي –المسيحي. - له العديد من المساهمات البحثيّة المكتوبة والدراسات والمقالات في المجلّات الثقافيّة والعلميّة. - له العديد من المؤلّفات: * مقاربات منهجيّة في فلسفة الدين. * رشحات ولائيّة. * الإمام الخميني ونهج الاقتدار. * الشعائر الحسينيّة من المظلوميّة إلى النهوض. * إلهيات المعرفة: القيم التبادلية في معارف الإسلام والمسيحية. * الناحية المقدّسة. * العرفان (ألم استنارة ويقظة موت). * عرش الروح وإنسان الدهر. * مدخل إلى علم الأخلاق. * وعي المقاومة وقيمها. * الإسلام في مواجهة التكفيرية. * ابن الطين ومنافذ المصير. * مقولات في فلسفة الدين على ضوء الهيات المعرفة. * المعاد الجسماني إنسان ما بعد الموت.  تُرجمت بعض أعماله إلى اللغة الفرنسيّة والفارسيّة، كما شارك في إعداد كتاب الأونيسكو حول الاحتفالات والأعياد الدينيّة في لبنان.



لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<