الفن العاشورائي.. بين الأصالة والتقليد

الفن العاشورائي.. بين الأصالة والتقليد

حوار مع الأستاذ أحمد همداني

  • الأستاذ الباحث الموسيقي أحمد همداني، حبذا لو نبدأ حوارنا بلمحة سريعة على مسيرتكم العلمية والثقافية الموسيقية

على مستوى الموسيقى، أحمل خبرةً ومراسًا، ودراسةً أكاديميةً موسيقيةً، ودراسةً أكاديميةً بحثيةً،

وعلى مستوى المراس، في جعبتي حوالي 26 سنة من التأليف الموسيقي لفرق أناشيد، وتلفزيونات المقاومة، وللأطفال، والمدارس، أظن أنها فاقت الألف عمل.

أما على مستوى الدراسة الأكاديمية التخصصية، فقد درست الموسيقى، والبيانو في الكونسلفاتوار لمدة 9 سنوات، ثم حصلت على الماجستير في العلوم الموسيقية من الجامعة الأنطونية وكانت الأطرحة تحت عنوان المأتم الحسيني عند الشيعة في لبنان، مقاربة موسيقية تربوية.

إضافة إلى المساهمة في تأسيس قنوات للأطفال ومنها قناة طه، كما أنشأنا مشروع أطوار للتربية الموسيقية، ومن أهم إنجازاته حتى الآن هو تأليف مناهج موسيقية تربوية أقرته وزارة التربية، وهو الآن معتمد من قبل حوالي 10 مدارس وجهات في ساحتنا المجتمعية.

  • لا طالما لاحظنا حضورًا قويًا للفن بأنواعه المختلفة من الرسم، للموسيقى، للنغم أو الرقص حتى في الشعائر الدينية لمعظم الديانات فهل هناك رابط ما بين الإحياء الديني والفن؟

بالطبع، الفنون هي أدوات تواصلية،  وتختلف أنواع هذه الفنون ومعانيها ودلالاتها التواصلية من قوم ومن حضارة ومن شعب إلى آخر، ولكن تبقى – الفنون – اللغات التواصلية الأكثر جذبًا، كما يقول الإمام الخامنئي “إن الفن هو من أكثر وسائل التبليغ فعالية”.

حاول الإنسان منذ بداياته أن يمارس طقوسه الدينية مستخدمًا كل الأساليب التواصلية ومن ضمنها كانت الفنون والموسيقى، التي كان لها حظًا من هذ الموضوع، كما ذكر الكثير من الباحثين وبينهم نيتشة الذي قارب الطقوس الدينية عند الوثنيين.

  • برأيكم ما هي الشروط الواجب تحققها لنَسِمَ الموسيقى بالدينية؟

قبل الإجابة على هذا السؤال يفترض أن نتفق على مقدمة، وهو أن الموسيقى من المنطلق العلمي تشمل الأداءين الصوتي والألاتي، وسنعتبر أن سؤالكم ينظر إلى الأداءين، فالشخص الذي يؤدي صوتيًا معتمدًا على الآلة التكوينية الإلهية “الحنجرة”، يمارس الموسيقى بكل تفاصيلها وبكل ما لها من تفاصيل البناء العلمي المعروف.

يمكن أن نقول أن الموسيقى ذات أهداف دينية عندما يصبح لها أهداف مقدسة كما يقول السيد القائد، فعندما يصبح الهدف هدفًا سام تكتسب الموسيقى قداستها وصبغتها الإنسانية أو الدينية أو ما شابه، طبعًا يفترض من الشخص الموسيقي أن يمتلك من الدراية، والخبرة، والمعرفة ما يكفي كي يطوّع هذه العناصر الموسيقية الموجودة والحسابات الموسيقية الموجودة، من أجل أن تخدم هدفه، وعادةً ما يكون الهدف هو خلق الحالة الحسية عند المستمع. فإذا كان هدفك مرتبط بحالة حماسية فعليك أن تحسن استعمال العناصر الموسيقية لتولد لك هذه الحالة.

الآن في عاشوراء، عندما يكون هدفك من الشعيرة الحسينية هو الإبكاء – وهي إحدى الأهداف الثابتة للشعائر الحسينية – فعليك أن تولد من الموسيقى أثرًا حسيًا إبكائيًا، ولذلك أصوله وطرقه وقوانينه التي تدرس في محلها.

  • في رأيكم هل يمكن لنا الحديث اليوم عن اتجاه موسيقي عاشورائي على غرار النمط الموسيقي الصوفي والكنسي على سبيل المثال؟

إذا تكلمنا عن لبنان، فلا يمكن أن نقول أن ذلك موجودًا، ولكن قد نجد ذلك في بلدان أخرى. فبمعزل عن التشخيص الفقهي لهذه الطقوس، أذكر على سبيل المثال مواكب التطبير، وهنا تكمن مفارقة كبيرة، في ظاهرة مواكب التطبير، حيث نرى المدافعين عن هذه المواكب من الناحية الفقهية والمصرين على أصالتها، ويعاندون كل من يحرمها، هم من أكثر المدارس الفقهية تشددًا على مستوى استخدام الآلات الموسيقية، بل ويقولون بتحريمها أصلًا، إلا في مواكب التطبير تراهم يستخدمون الآلات الموسيقية القرعية كالطبل، والصنوج، والآلات الموسيقية النغمية كالأبواق على أنواعها. وبحسب المتابعة، تشكل هذه المواكب جزءً من السلوكيات العاشورائية في بعض المناطق.

وفي إيران أيضًا تقام مسرحية عاشورائية يسمونها التعزية، وليس حاضرًا في ذهني إذا كان العنصر الموسيقي الآلاتي موجودًا هناك.

فنعم في بعض المناطق تحضر الآلات ويحتاج هذا الأمر للمتابعة لنتمكن من دراسة وتوصيف شكل هذا الحضور.

  • ذكرتم أن المائز الأهم لنسم الموسيقة بوسم “الدينية” هو الهدف ولكن ألا يمكن الحديث برأيكم عن شروط أخرى تتدخل في الحكم على الموسيقى بشقيها الصوتي والآلاتي؟

بما أنك ذهبت للباب الفقهي فأنت تعلم بأنك تطرق بابًا يخرج منه الكثير من المشاكل، فالأمر الفقهي بين العلماء بخصوص الموسيقى فيه من التعقيدات ما لا يفهم منه شيء، وأنا أدعو هنا لإيجاد طريقة ما على مستوى المناهج الحوزوية، لعدم حصر البحث الموسيقي في حياة المتفقه وطالب الدين ضمن باب المكاسب المحرمة، لأنه طالما طالب العلم والفقيه في مسيرته الفقهية كلها لا يقارب الموسيقى ولا يلامس هذا العنوان إلا تحت عنوان المكاسب المحرمة، فستبقى النتائج متوقّعة.

ذكرت أعلاه أن الإنسان بشكل عام يحتاج من أجل تحقيق الهدف القدسي لأن يكوّن من المعرفة والدراية والعلم ما يجعله قادرًا أن يطوع العناصر الموسيقية بين يديه من أجل أن يحقق هذا الهدف.

هذا الكلام رغم أن ظاهره ليس فقهيًا، إلا أن في باطنه الحل. فلنفترض أن الإنسان الذي سيتصدى لتنفيذ العمل الموسيقي هو إنسان متشرّع، ولديه مجموعة من العناصر الموسيقية لتحقيق هذا الهدف، في العمق، سيملك المعرفة والدراية والتي من ضمنها المعرفة الفقهية، إضافةً للمعرفة والدراية الموسيقية والتخصصية ودلالات العناصر الموسيقية حتى يستخدمها بشكل يناسب هدفه، وعندها بتقديري هذا الجانب الخطر أو المشكل من الموضوع سيضيق كثيرًا، وللأسف طبعًا أن كل الذين تصدوا للعمل في المجال الموسيقي لم يتم تشجيعهم على تحصيل المعرفة والدراية التخصصية الموسيقية، بل أحيانًا كان يحرّم ويعاب عليهم ذلك، لذلك لا بد، ولا مناص، ولا مهرب من تحقيق المعرفة والدراية والعلم الموسيقي لنبدأ من تقليص مساحة الحرمة في الموسيقى، وخصوصًا الآلاتي منها، لأن البحث الآلاتي مرتبط بالبحث التاريخي، فكل آلة مرتبطة بشعوب وفلكلور وثقافة موسيقية وطابع غلب عليها.

أما إذا كان الكلام عن الأداء الصوتي فيمكن أن يكون من دون دراسة، والفلكلور الديني قائم على ذلك من العزاء والقرآن وغيره، ولكن في كثير من الأحيان يجدوا أنفسهم بحاجة لتنويع الإنتاج الفني، بل ويبحثون عن المساعدة والدراسة، ولكن المشكلة أنهم لا يجدون أماكن معينة تليق، حيث في الكونسرفاتوار والجامعات سيكون عليهم المرور على دراسة كم كبير من الرصيد الغنائي المحرم، وهذه الإشكالية التي نعمل على حلها في “أطوار” من خلال إنشاء أكاديمية الإنشاد الديني.

ما رأيكم في الاتجاهات المعاصرة للإنشاد الصوفي؟

أنا لست مطلعًا كثيرًا على التجارب الصوفية في لبنان، حيث أني أكثر اطلاعًا على النماذج التركية والإيرانية والمصرية، ولكن يمكنني القول أن ما شاهدته في لبنان في الفترة الأخيرة من الإنشاد الصوفي، وجدتها تجربة لا تشبه التقليد الصوفي بشيء إلا من ناحية النص، فعلى مستوى الأنماط الموسيقية المستخدمة تجدها كلها أنماط موسيقية غربية، ولا يصدمنا ذلك عندما نرى المسؤول عن القسم الموسيقي في هذه التجربة ليس متدينًا فكيف يمكن أن تمارس طقسًا دينيًا صوفيًا يهدف كما يقول أهل التصوف للوصول إلى “الحالة” مع الله، والعازف هو إنسان لا يؤمن بالله، وهذا يكفي لنسف التجربة، إلا اننا رغم ذلك نظرنا نظرةً فنيةً لها فوجدناها غريبةً جدًا عن الفن الصوفي. الناس كانت بحاجة لتجربة ونموذج بعيد عن الفن الديني المؤطر طائفيًا لذلك تفاعلت معه، ولكن لاحظنا أيضًا أن معظم الذين يتابعون هذه الظاهرة هم ليسوا من أهل الالتزام الديني، وهذه نتيجة طبيعية لأن كل عناصر هذا النموذج هي خارج السياق الديني، لذلك لا يمكننا أن نعتبرها من الأصل طقس ديني صوفي.

حدثنا أكثر عن منهج أطوار الموسيقي، وبماذا يختلف عن المناهج التقليدية وما الجديد الذي يقدمه؟

أود قبل الحديث عن “أطوار” أن أتحدث قليلًا عن الموسيقى في عاشوراء، بما أنها هي موضوع رسالتي للماجستير، ومن المهم التطرق إليه، في هذا المجال أشرت أنا إلى إشكالية مهمة في الأطروحة حول مسألة الهوية الموسيقية للمأتم الحسيني، كما لكل الشعائر التي تقام في لبنان، وفصلت في أبعادها التاريخية والاجتماعية عبر المئتي سنة الأخيرتين. والواقع أننا صار لدينا نوع من التلازم القوي بين الشعائر الحسينية في لبنان والأنماط الغير لبنانية وخاصة العراقية، حتى باتت المطالبة بتخفيف اللهجة العراقية في المأتم غير مقبولة، رغم أن هذه الإشكالية على بداهتها كانت من أهم الإشكاليات التي طرحت في أحدى المؤتمرات التي يعقدها معهد سيد الشهداء، وأخذت حينها جدلًا كبيرًا.

          فالناس ليست مستعدة للنقاش في الأمر وصولًا لدرجة الاستحالة، وهذا الأمر ينسحب على الحيز الموسيقي، فعندما استوردنا المجلس العراقي استوردنا معه أطوار العزاء، وهي عبارة عن قوالب غنائية شعبية عراقية، فالأبوذية على سبيل المثال هي شبيهة جدًا بالعتابا اللبنانية،  وهذا قالب شعبي دنيوي دخل للمجلس العاشورائي، ونحن أخذناه كما هو. سماحة السيد حسن نصر الله، دعا عام 2005 في لقاء مع قراء العزاء والمنشدين لتأسيس هوية لبنانية، وهذه الإشكالية التي عملت عليها في الأطروحة، وطرحت مجموعة من الحلول واحدة منها هي المسار التربوي العام، فعلينا أن نؤسس لأجيال يمكن أن تقوم بعملية تأسيس لإحياء ديني أكثر محلية.

هذه واحدة من مفردات أهمية المسار التربوي الموسيقي الذي بات لا يختلف عليه اثنان، لذلك ولغيره من الأسباب شعرنا بأنه علينا أن نقوم بهذا الدور في أطوار، وهو مشروع يطرح نفسه كوسيلة لتلبية الاحتياجات الموسيقية لبيئتنا وخصوصًا الاحتياجات الموسيقية التربوية لبيئتنا الملتزمة، وهذه الاحتياجات لا يمكن تلبيتها بدون المرور بالمسار التربوي داخل المدارس، وأجرينا على هذا السبيل، دراسة إحصائية في مدارس الضاحية الجنوبية، تمحورت أسئلتها حول هل تدرسون الموسيقى؟ وعلى أي مناهج؟ ومن هم الأساتذة؟ تبين أن الأغلبية الساحقة لا يدرسون الموسيقى لأسباب تتعلق بأولويات الفكر عند القيمين على المدارس، والوضع المادي وغيرها، ونحن أخذنا على عاتقنا تأمين المناهج التربوية الموثوقة بالاستناد على ما حصلناه من علوم موسيقية، وتربوية، وحوزوية وخرجنا منها بمنهج حاز على موافقة مركز البحوث في وزارة التربية، وانتقلنا إلى الخطوة التالية عبر إنشاء دار معليمن لإعداد الأساتذة، كما أفسحنا في المجال لمن يرغب بالمشاركة في دورات التوعية الموسيقية في مراكز أطوار في لبنان والجنوب.

  • بعض النصائح لقراء العزاء، وللمجتمع المتذوق للموسيقى

للقراء الأعزاء:

  • عليهم أن يلتفتوا، إلى أن قارئ العزاء لديه الفرصة لتغيير العالم، وعندما نمتلك تلك الفرصة علينا أن نتفكر بالأسلحة المناسة، والسلاح الأنسب هو إخراج السيرة الحسينية، فقارئ العزاء عليه أن يكون مخرجًا، لأن هناك مشهدًا معروفًا، وصورةً واحدةً، والمخرج هو الأكثر قدرة على مقاربة هذا المشهد في كل مرة بزاوية مختلفة فيكشف تفاصيل لم نكن ملتفتين إليها مسبقًا، وهذا ما نحتاجه في قراءة العزاء.
  • الابتعاد عن اللهجات الغريبة.
  • الابتعاد عن سرد السيرة بالطريقة العادية، يجب أن نحصّل كل الوسائل الفنية لإخراج هذه السيرة بشكل فني، وأهم الوسائل هي التمكن من العناصر الموسيقية، فقارئ العزاء ليس مضطرًا لقراءة كل الأبيات بشكل متلاحق، فيحتاج لفترات الصمت مثلًا على المستوى الإقاعي.
  • على المستوى اللحني الإقلال من الطبقات الحادة، والمُحليات الصوتية كالصدى مثلًا لأنها تؤثر على وضوح الكلام.
  • الابتعاد عن المغالات.
  • الابتعاد عن التصنع في المؤثرات الصوتية من الشهشقة والنواح.
  • الانتباه بأن قارئ العزاء اليوم يسمعه عبر وسائل التواصل الاجتماعي كل البشر فهو أمام إما أن ينشر الفكر الحسيني للعالم، وإما أن يؤدي عملًا ينفر العالم من الثورة الحسينية.

لمتذوقي الموسيقى

  • الموضوع الموسيقي في ساحتنا ولد ونشأ في ظروف غير متوازنة وبالتالي عليهم أن لا يعتبروا أن كل ما يصل إليهم هو سليم، فعليهم أن يكونوا انتقائيين خصوصًا على مستوى النص، فنحن نطمح أن نصل في يوم من الأيام ينتشر فيه الوعي الموسيقي بين الناس حتى تستطيع أن تنتقي وتحاسب، وهذا صعب اليوم في بيئة ليست معتادة على النقد العلمي البناء، فأي نقد قد تقدمه سيهاجم. ونحن حاضرون للتعاون إلى أقصى الحدود كمتطوعين وعلى مستوى المدارس والمؤسسات والتلفزيونات.
  • وفي الموضوع الموسيقي كذلك يحتاج الأمر لتذوق، وإحسان الإصغاء لنلزم المتصدين ببذل المزيد من الجهد والوقت لإتقان عملهم.



المقالات المرتبطة

في الشعر والتصوف شذرات للنقاش

التقسيم التقليدي للعلوم يعين الشعر من الفنون الأدبية، والتصوف من المدارس الفلسفية لكن التجربتين الشعرية والصوفية تنهلان من مصادر مشتركة

نزوع الإنسان نحو الله والعالم “نظريّة الجعل الفطريّ”

تنفتح تجربة الحياة عند الإنسان على عالم الأحداث التي تحيطه منذ ماضيه الخاصّ وحاضره، مرورًا بما يمكّنه من المدى والعمر.

اجتهادات لوركا

الشعوب لا تنسى من قدموا تضحيات فى سبيل حريتها، فما بالنا إذا كانت التضحية بالروح. والتاريخ يستطيع فى معظم الأحيان تسجيل الحقائق مهما تكن قوة من يزيفونه.

  1. ousama
    ousama 5 مارس, 2017, 23:32

    استاذ احمد اريد نسخة من اطروحتك المأتم الحسيني اني اشتغل علي طروحة تشبه لاطروحتك و اريد الاستدلال بكتابك لو ممكن تنزلو pdf

    الردّ على هذا التعليق
  2. ousama
    ousama 5 مارس, 2017, 23:35

    ارجو منك استاذ ان تضع اطروحتك المأتم الحسيني علي شكل pdf لكي نستفيد منها فأنا لديا اطروحة تشابه اطروحتك اريد ان استدل باطروحتك ان المساعدة استاذ احمد

    الردّ على هذا التعليق

أكتب تعليقًا

<