دروس في العرفان الحسيني

جريًا على عادته كل عام، أحيا معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية، الذكرى السنوية لملحمة الفداء الحسيني، عبر برنامج عاشورائي يومي استمر طيلة الأيام العاشورائية، وتضمن مجلس عزاء حسيني للقارئ السيد حسين مرتضى، ومحاضرة يومية لسماحة الشيخ شفيق جرادي حملت عنوان دروس في العرفان الحسيني، انطلق فيها سماحة الشيخ من وصية الإمام الحسين عليه السلام لأخيه محمد بن الحنفية: “مَن كان باذلًا فينا مهجته، موطّنًا على لقاءِ اللَّهِ نفسه فليرحلْ معنا فإنّي راحلٌ مصبحًا إن شاء اللَّه تعالى”، ليحدّد أصلين اتّسم بهما أصحاب الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء وهما:

  • باذلًا فينا مهجته.
  • موطنًا على لقاء الله نفسه

ومن هذين الأصلين يؤسس الشيخ شفيق جرادي للحديث عن العرفان الحسيني، المختلف عن الصورة التي شاعت لفترة من الزمن، عن العرفان المعتزل المتعبد في صومعته، ليجعل من العارف ذلك الخارج من مدرسة رسول الله محمد صلى الله عليه وآله، المحافظ على فطرته السليمة، وشروطه:
أولًا أن يحصل العارف اليقين بروحية المعرفة بالله، وهذا اليقين على مستويات أيضًا:

المستوى الأول: الذين يتيقنون من معرفة الله سبحانه وتعالى كفكرة، وهذا يقين، ولكنه يحمل قابليات التطور.

المستوى الثاني: يعرفون الله ويعشقون الله، ويتخطون الفكرة ليعيشوا حالة الوجد مع الله، ويتأملون كثيرًا في نعم الله عز وجل.

المستوى الثالث: الذين يطلقون عليهم إسم الفانون في الله، وهم الذين يصبح كل كيانهم بين يدي ربهم يقلبه كيفما يشاء

أما المستوى الرابع: فهو الذي يخصّ محمد وآل محمد صلوات الله عليهم أجمعين ومن الممكن أن ينتمي نحو انتماء إليه بعض الذين ذابوا حبًا برسول الله محمد وآل بيته، وهؤلاء هم الذين فنوا ثم بقوا في الله، فيصبح كل بقائهم في هذا الوجود مرتبط بالله.

ثانيًا، هو أن يتماهى العارف تمام التماهي ويرتبط تمام الارتباط بمن يمثل كمال البشرية، فيصلي كما يصلي الرسول، ويصوم كما يصوم الأمير، ويجاهد كجهاد الحسين، يسير على مدرستهم الأخلاقية، وهؤلاء هم المتفانون في الله.

ثالثًا: أن تكون الآخرة آخر همه.

          ولأن الجهاد والشهادة اقتداءً بالنموذج الكربلائي، من أهم محطات العرفان الحسيني، أورد سماحته مجموعة من النقاط الهامة في المحاضرة الثانية، على الشكل التالي:

أوّلًا: التولي والتبري

فأشار إلى إن الجهاد لا يمكن أن يكتسب قدسيته إلا إذا كان تحت راية الانتماء والولاء لرسول الله أو أمير المؤمنين أو الإمام الحسن أو الإمام الحسين أو أي من أئمتنا عليهم جميعًا صلوات الله، كما هو حال الجهاد الآن، والذي إذا قام – وهو قائم – فإنما قيامه هو تحت راية الولاء للقائم من آل بيت رسول الله محمد.

ثانيًا: مقومات الجهاد

كما أنه لا يمكن الحديث عن معرفة لله وأوليائه دون الولاء له، فلا يمكن لك الحديث عن جهاد دون معرفة الولي الذي تقاتل تحت رايته، فمن أهم مقومات الجهاد تحديد مع من نقاتل ومن نقاتل، والجهل بمقومات الجهاد هو الخطوة الأولى في طريق الضلال، وهذا ما جرى مع قوم الحسن والحسين عليهما السلام.

ثالثًا: الجهاد بمضمونه النبوي

حتى نستطيع استكشاف معاني العرفان، في الجانب الأول لا ينبغي لأحد أبدا أن يخرج من باله ارتباط الجهاد في الإسلام بنيل وتحقيق ثواب الله، فواحدة من المميزات التي تسم من ينتمي للمشروع المحمدي الأصيل عن غيرهم ممن يقاتلون تحت رايات مختلفة، أنهم حينما يقاتلون ويتحدثون عن نيل ثواب الآخرة إنما يريدون أولًا وبالذات أن ينالون رضوان الله سبحانه وتعالى، وأن يؤدون تكليفًا يرضي الله، بينما نرى من هم في الضفة الثانية يذهبون طمعًا بملذات ربما لو أغري بها أحدهم في الدنيا لترك الجهاد، ولكن هذا المقصد السامي الذي هو رضوان الله سبحانه وتعالى يجعل المؤمن المجاهد محافظًا على قيمه المعتقدية التي يؤمن بها وتتبناها.

معالم العرفان الحسيني

يمكن استخلاص معالم العرفان الجهادي الحسيني من خلال مجموعة الأحاديث التالية:

  • الحديث الأول

“الجهاد باب من أبواب الجنة، فتحه الله لخاصة أوليائه…” الإمام علي بن أبي طالب.

وأولياء الباري على قسمين: إما الولي الذي هو الإنسان الكامل الذي بقي بعد أن فني بالله أي محمد وآل محمد صلوات الله عليهم أجمعين.

أو أناس ولجوا إلى ربهم بولاية محمد وآل محمد.

  • الحديث الثاني

في الرواية أيضًا حول موضوع الجهاد عن أمير المؤمنين يحدد فيها مستويات الجهاد:

“أيها المؤمنون إنه من رأى عدوانًا يؤمر به ومنكرًا يدعى إليه، فأنكره بقلبه فقد سلم وبرئ، ومن أنكره بلسانه فقد أُجر، وهو أفضل من صاحبه، ومن أنكره بالسيف لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الظالمين هي السفلى، فذلك الذي أصاب سبيل الهدى (بعد هذا الكلام كل من لديه أدنى تردد في قتال واضح المعالم لديه ثغرات في ولائه) وقام على الطريق، ونور في قلبه اليقين”.

أي أنه من قاتل وجاهد عن وضوح للرؤيا سلك طريقا آخر للعرفان، فيقذف الله في قلبه نور المعرفة لله ويجعله ممن يكونون في نفس فسطاط رسول الله محمد بن عبد الله.

  • الحديث الثالث:

يُسأل أمير المؤمنين عن الإيمان فيقول:

“بني الإسلام على:

  • الصبر.
  • واليقين.
  • والعدل.
  • والجهاد

والجهاد منها على أربعة شعب:

  • الأمر بالمعروف.
  • النهي عن المنكر.
  • الصدق في المرابط.
  • شنئان الفاسقين.

ثم يفصل الأمير فيقول: فمن أمر بالمعروف، شد ضمور المؤمنين”

ومن أهم عناصر الأمر بالمعروف هي المبادرات، أن تبادر الناس لبث القيم التي تنتمي إلى مدرسة أبي عبد الله الحسين ومدرسة محمد بن عبد الله.

“ومن نهى عن المنكر أرغم أنوف المنافقين”

والمنافق هو الذي يظهر الإيمان ويبطن الكفر، فعندما تنهى عن المنكر تكسر شوكته.

“ومن صدق في المواطن قضى ما عليه”

أي أدى واجبه

“ومن شنئ الفاسقين وغضب لله، غضب له الله وأرضاه”.

خصائص النهضة الحسينية

تتضمن رسالة الإمام الحسين إلى أخيه محمد بن الحنفية التي أوردناها في بداية التقرير، الخصائص الأساسية للنهضة الحسينية “من مكان باذلا فينا مهجته وموطنًا على الله نفسه فليرحل معنا فإني راحل مصبحًا إن شاء الله”. وبالتالي هناك ما يمكن أن نسميه بأمانة إرث الدم، دم الحسين عليه السلام، الذي يقوم به على نحو الفعلية وعلى نحو تام بحسب معتقدنا هو القائم من آل محمد عجل الله تعالى فرجه الشريف، وكل الذين يتصلون بعد الإمام الحسين بالمسار الزمني وصولًا للقائم من آل محمد هم معنيون بهذا الإرث، وكل من يريد أن يكون معنيًا بهذا الأرث على النحو العملي يجب أن يضع في ذهنه أنه منضوٍ في رحلة الجهاد الحسيني. بناءً عليه لا أحد يتصور أن الحدث بدايته كانت مع الإمام الحسين، بل وحتى لا يمكن اعتبار كربلاء اكتمال لصورة هذا الحدث العظيم لأنه مستمر عبر التاريخ، وهو حدث تاريخي يمتد في الزمن ويتناوب عصر بعد عصر، ولا تحده حدود مشخصة، بل إن تحديد عصر الاكتمال في هذه المسيرة هي بيد الله سبحانه وتعالى.

  • باذلًا فينا مهجته

البذل في سبيل الحق وإعلاء رايته هي أول الخصائص، والبذل هو أن يجود المرء بنفسه وبكل ما يمتلك بأقصى قدرته وعن طيب خاطر، فمن يبذل عليه أن يكوّن قناعةً لينسجم مع ما يقوم به، ويتخلق بأخلاق البذل، اللامحدود، من دون أن يمن على نفسه وعلى الله ما قدّم، فالقتال في سبيل الله لا منة فيه، لا على لناس ولا على الله. والبذل هو الإعطاء عن طيب خاطر، هذا الباذل سيبذل قلبه، ووجدانه، وروحه، وعقله، ورزقه، وأسرته، وعائلته ومستقبله في سبيل آل بيت رسول الله وأبي عبد الله الحسين صلوات الله عليهم.

  • موطنًا على لقاء الله نفسه

الجهاد العرفاني الحسيني، هو جهاد يقوم به أصحاب بصيرة تشكل الآخرة أقصى ما يطمحون إليه، وبغير ذلك لا يمكن أن يكونون موطنون على لقاء لله أنفسهم.

  • التمييز بين جهاد الحق والباطل

يمكن التمييز بين جهاد الحق والباطل على مستويين:

على المستوى الفردي: تشكل النية المائز الأساس، فإذا كانت النية هي فعلًا التقرب إلى الله عز وجل، ورغبة في رضا الباري ورضوانه، وسعيًا لتوطيد العلاقة معه سبحانه، فهو إذن على سبيل الجهاد الحق.

وعلى مستوى الجماعة: تبرز أهمية المعتقد، وطريقة التخلق بأخلاق الرسول، والعلاقة بقيمة الرحمة المحمدية.

كما لا بدّ من التنبه لعنصرين أساسيين لا بدّ من مراعتهما على المستويين الفردي والاجتماعي وهما:

  • البصيرة
  • الاستقامة

والبصيرة لا تنحصر بأصحاب القراءة والتحليل، فيمكن أن يتمتع شخص ببصيرة نافذة، وهو من عامة الناس، إذا أن أهل البصيرة هم المتيقظون الذين يستطيعون بقلبهم ووعيهم التدبر وأخذ العبر، وهم أناس وضعوا أنفسهم بيد الله عز وجل، وآمنوا به، والإيمان ليس أن نقول أشهد أن لا إله الا الله، الإيمان هو ارتباط القلب برب العالمين، وبتوحيده عز وجل، وبما يرضيه، وبما يريده سبحانه وتعالى. فالبصيرة إذن هي رشد ووعي ومعرفة والقدرة على تمييز الأمور بأن يكون الملاك لتمييز الأمور الله وما تملكه من رشد.

والبصير كما يصفه أمير المؤمنين عليه السلام، هو “من سمع فتفكر [والمقصود في التفكر هو التأمل، فالمعيار ليس مقدار القراءة، بل التفكر فيما قرأت، وفتح القلب على الوافد إليه لتميز ما بين الأفكار الشيطانية، وتلك التي فيها لطف من الله وأوليائه] ونظر فأبصر، وانتفع بالعبر، ثم سلك جددًا واضحة يتجنب في الصرع في المهواي”، فمثل هؤلاء هم الذين يمكن أن نسميهم بأهل البصيرة حسب رواية أمير المؤمنين عليه السلام.

موقع الإمام الخامنئي بموضوع العرفان

وفي العودة إلى المراحل التي مرّ بها العرفان ومقارنتها بما نتناوله حول العرفان الحسيني، لتمييز الصواب من الباطل فيها، لا بد من أن نذكر أن العرفان مر بمراحل متعددة، فمنه ما كان على الطريقة الصوفية، حيث كان المتصوفة يمشون في البراري ويعقدون جلساتهم الخاصة، التي يقولون فيها جملة من الخواطر تتداولها الناس بعدهم، إلى أن تأسّس فيما بعد العرفان النظري الذي بنى نظامه محي الدين بن عربي، وصارت المدارس العلمية تذهب في تدريس العرفان لكتبه، وكتب طلابه وشروحاته، ولكن بقي لهذا العرفان صفة الفردية من جهة، وانفصالها نسبيًا عن الشريعة وقوانينها، وما قيل أن مثل هذا العرفان موجود عند بقية الاتجاهات الأخرى من المسيحية للهندوسية، هو صحيح، فالكثير من الاتجاهات كانت لديها رياضات لترويض النفس وتهذيبها.

إلى أن حصل للعرفان مع التطور الشيعي تطوّرًا مع علمائنا، حيث اعتبروا أن العرفان إذا لم يقوم على أصول من العلاقة الطيبة بين الشريعة والمعنوية فلا يمكن الحديث عن عرفان حقيقي، وهنا تمتنت العلاقة أكثر بالبعد الإسلامي، إلى أن جاء التحول مع الإمام الخميني رضوان الله عليه، وأشير هنا إلى أن كل ما قيل عن الزلزال السياسي والمجتمعي الذي أحدثه الإمام الخميني، هو صحيح، ولكن ما يجب الحديث عنه قبل الوجه السياسي والأمني والعسكري، هو الزلزال الذي أحدثه الإمام الخميني في كيفية فهم الإنسان لدين محمد بن عبد الله، ولله والتوحيد.

فحوّل العرفان من حالة فردية، إلى نظام من القيم تربط العلاقة مع الله في أصغر تفاصيل الإنسان، وبناءً عليه يصبح على مؤسساتنا أن تبنى على قيم من حق الله علينا، والمجتمع يجب أن تسود فيه سياسة من هذا النوع إلى درجة أن الحكم والسياسة بات عبادة وتقرب لله، فأخذ العرفان إلى عالم المجتمع وعالم السياسة، وجعل مسألة الجهاد عنصر أساسي في العرفان الإسلامي. هنا دخلنا في مدخل آخر ومختلف لفهم مسألة العرفان، وبعد وفاة الإمام، تابع الإمام الخامنئي نهجه ضمن رؤيته ومعالجاته للسياسة والثقافة، وذلك يبرز في طيات كلامه حفظه الله.

          ومن أهم المسائل التي تناولها الإمام الخامنئي، والتي تندرج ضمن رؤيته العرفانية، هي مسألة البصيرة التي مررنا عليها أعلاه، ومصطلح البصيرة هو مصطلح قرآني مستخدم عند آل بيت رسول الله، ويضع له الإمام الخامنئي شرطين لإنفاذه هما:

  • أن يكون الساعي خلف البصيرة، من أهل العزم، والإرادة، ويجب أن يكون من الناس التي تتخطى ذاتها، في سبيل حفظ الإسلام والمسلمين وفي سبيل الدفاع عن أي مظلوم على وجه الأرض.
  • عدم الانجرار وراء الهوى، والملفت في كلام الإمام الخامنئي أنه يعتبر أن السبب في أي انحراف عن جادة الدين هو الهوى، فالهوى يتحول لمعطل لكل جهاز الإدراك.

كما تستكمل البصيرة كما ينظّر لها الإمام الخامنئي، في هذا الخط العرفاني الحسيني، بالصبر، الذي يشكل عنصرًا هامًا في عرفان الإمامين الخميني والخامنئي.

أقسام البصيرة

وتنقسم البصيرة إلى قسمين:

الأول تسمى البصيرة الكلية: فنظرتك لهذا العالم متصلة لما هو فوق هذا العالم، للآخرة، ولخالق العالم، وعلى نهج أبي عبد الله الحسين الذي سار عليه وآمن به الإمام الخميني والإمام الخامنئي، والتي بناءً عليها يكون التوحيد أكثر من مجرد فكرة، بل نافذة يطل الموحد من خلالها على كل العالم.

الثاني، التدبر والحكمة في تدبير الأمور: وهي البصيرة الجزئية، وتتمثل بالحكمة على معاينة الأحداث بتفاصيلها وإعطائها ما يلزم مما تستحقه.

أما الاستقامة فهي بحسب الإمام الخامنئي الثبات على الصراط المستقيم، بأن تنتهج نهج هذا الدين الذي صدح به رسول الله وأن تثبت عليه، وأن تواجه كل الصعاب والابتلاءات والزلات والفتن التي يمكن أن تعترضك وأنت ثابت على صراط الله العزيز، وأن تكون على هدي من الله. والاستقامة، بحسب ما يعتبر الإمام الخامنئي أيضًا، ضرورية حتى نستطيع أن نحقق كل المثل التي نطمح إليها، فلا يمكن لرجل فاسد أن يربي أسرته على التقوى، ولا يمكن لمن يضعف أمام الهوى أن يجنب أولاده المعصية، ولا يمكن أن نتحدث عن عدالة إن لم يكن المتصدين للشأن العام عادلين، بل لم يكن ليقدر الإمام الحسين أن يملأ دنيانا بروح الجهاد لو لم يكن هو ممتلئًا بذلك.

الصراط لغةً

يعبر الإمام الخامنئي عن الاستقامة بـ”الصراط”، والصراط لغةً من الصرط، وهو الأمر الذي ما إن تحل فيه حتى يأخذك إلى الأقصى، ولذلك في مشهد يوم الحشر، أهل الصراط هم الذين ما إن يقفوا على صراط الله حتى تستقبلهم ملائكة الله بالترحاب أدخلوا الجنة أهلا بكم.

الصراط والاستقامة في القرآن الكريم

وقرآنيًا تقول الآيات {وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا}[1]، ويفهم منها أن الاستقامة شرط الرحمة والعطاء الإلهي، ففي اليوم الذي يشعر فيه أن مجتمع من المجتمعات بدأ يعاني من المصاعب يجب أن يتنبه أنه خالف الاستقامة، ولم يلتزم فيها، وهناك أمثلة في التاريخ عن فرص كان من الممكن أن يحكموا فيها أهل الإسلام وضاعت الفرص منهم عندما ضلوا عن الصراط والاستقامة.

وفي آية أخرى على مستوى الآخرة يقول الباري {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ}[2]

فبعد أن يتحقق الشرطان: 1- إن الذين قالوا ربنا الله: هم أهل بصيرة ونظرة للكون والعالم، 2- ثم استقاموا: وهم أهل الاستقامة، تتنزل الملائكة بالسكينة عليهم.

الاستقامة في خطاب الله لرسوله

خاطب الله سبحانه رسوله الكريم في بعض المواضع في القرآن الكريم بلغة الأمر كحين أنزل عليه سبحانه {قل هو الله أحد} وكان ذلك في هذه الآية لأهميتها، لأن أصل كل التوحيد في هذه السورة، ولعظمة الاستقامة أيضًا خاطب الله سبحانه رسوله الكريم بلغة الأمر أيضًا حين أوحى له {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}[3] وهذه الآية هي من أوضح الآيات في تبيان خلوص الفطرة عند رسول الله صلى الله عليه وآله؛ في أصل وجوده النوراني قبل أن يخلق الله الخلق، وفي أصل وجوده الترابي كان خالصا لله عز وجل، فقال له استقم كما أمرت، أما الآخرين الذين يريدون أن يتبعوه عبر التاريخ هم {ومن تاب معك} لأن المعصية قد تكون أبعدتهم عن حقيقة الاستقامة.

لذلك نحن شيعة محمد بن عبد الله، الجماعة الخاصة برسول الله، نقول أن الذي يلي رسول الله في الحكم لا يصح إلا أن يكون من نفس سر رسول الله محمد، في أصل وجوده وخلقه هو على التوحيد مثل أمير المؤمنين وأئمتنا سلام الله عليهم.

والاستقامة هي صنو البصيرة، فلا يمكن أن تسير على خط الصواب إذا لم تتعلق روحك بالحق، هذه الاستقامة إذا أخذت قرارك فيها تصل إلى مقام القرب من الله عز وجل. وموضوع الاستقامة ينبغي أن يكون ناشئ عن وعي وبصيرة وثبات عليهما، وينبغي أن يكون القرار فيه واضح، فلو أردت تحقيق هدف الوصول إلى الجنة أعمل بكل ثبات وإصرار على ذلك. وبحسب الروايات هناك ضمانتان الأولى أن تكون من الناس الذين حققوا رضا محمد وآل محمد وخاصة رضا السيدة الزهراء عليها السلام. الأمر الثاني أن تكون من خدام مجالس أبي عبد الله الحسين، وهذه المجالس لا تنحصر في الليالي العشر، بل في كل كلمة وموقعة وموقع تجاهد فيه لإعزاز ذكر رسول الله هذه خدمة في مسير رحلة أبي عبد الله الحسين. والشهداء مثال على ذلك، فالروايات واضحة أن كل الناس يفتنون في قبرهم إلا الشهيد.

هنا يقول الإمام الخامنئي، أن الثبات بمعنى الصمود في المعركة هو ثبات صحيح ولكنه مشترك عند الكثير من أصحاب القناعات، ولكن الاستقامة عند الإمام الحسين مختلفة، فهو آمن بالخروج فخرج، ولكن الصف الأول من العلماء والأعيان منهم نصحوه ومنهم خذلوه، لكنه بعض كل هذه الضغوطات التي بعضها باسم الدنيا وبعضها باسم العاطفة وبعضها باسم الدين، لم يتراجع الإمام الحسين قيد أنملة، بل وأصحابه أيضًا، خين أسقط عنهم التكليف لم يقبلوا بالتخلف عنه لأنهم عندما انفتحت بصيرتهم ووعوا بقلوبهم وبثبات مواقفهم أنهم سيكملون الخط حتى ولو أحلهم الإمام الحسين، لأن مقتضى البصيرة والاستقامة أنهم عرفوا أن من يحقق دين الله هو جد الحسين، وأمه، وأبيه، والذين سيأتون بعده.

الشروط المعنوية للاستقامة

  • المراقبة: ويعتبر هذا الشرط، واحدة من المستحبات المؤكدة في الأدبيات الأخلاقية، وفي شروط تهذيب النفس والسير والسلوك في الإسلام، ويمكن أن تكون مراقبة فردية، يراجع فيها الفرد نفسه قبل أن يقاتل على سبيل المثال، ليرى هل قتاله هو من أجل المال على سبيل المثال، أم أن الهدف والغاية هو الله سبحانه. كما يمكن أن يكون على صعيد المجتمع والسياسة بشكل عام، وبسبب عدم وجود هذه المراقبة انتهت الكثير من الحركات الإسلامية في تاريخنا المعاصر، وسقطت تجربتها لضعف مراقبتها لخلوص النية وتطابق العمل مع النية.
  • اللجوء إلى الله: وهو الاعتصام بحبل الله، والتحصن بحصنه المتين المنيع في مواجهة أمرين
  • الأول في مواجهة إبليس.
  • الثاني في مواجهة النفس.

فأول سقوط يمكن أن يقع به أي إنسان على وجه الأرض، عندما يقول “أنا” قادر على المواجهة لذلك نلاحظ أدبيات آل البيت عليهم السلام في الأدعية: “اللهم لا تتركني إلى نفسي طرفة عين أبدًا”، هذه الأدعية تربينا على أن يكون لجوءنا دومًا إلى الله،

  • ألّا ننسى الله، في كل تفاصيل حياتنا، في عملنا، في جهادنا، في عبادتنا، في عوائلنا في كل حياتنا. فنسيان الله سينسيك نفسك، لتقع في التيه والقلق وكل عوامل الاضطراب، وفي السياسة يقول السيد القائد في معرض شرحه لقول الله تعالى: فأنساهم أنفسهم؛ أي أنساهم هويتهم. فقبل الإمام الخميني عاشت الأمة الإسلامية فترات طويلة من عمرها ناسيةً هويتها، كانت تستورد القيم والثقافة وأنظمة الحكم من الدول الغربية والشرقية. الهوية تصنعها – يضيف سماحة الشيخ – عندما تستطيع أن تركب حُكمًا قائمًا على الاجتهاد، وتجربة الحكم التي استطاع أن يرسيها الإمام الخميني ويربي أمته عليها ها هي تقدّم اليوم كأطروحة سياسية اسمها السيادة الشعبية الدينية.
  • ألّا ننسلخ عن الدين، والانسلاخ عن الدين هو الفسوق، فعندما تكون هويتك الإسلام وثقافتك هو الدين وأحكامك، عند خروجك عن التزامك وقناعاتك تقع في الفسوق.
  • ألّا ننحرف عن هذا الدين، والحديث عن الانحراف موجه للمؤمنين. فالأصل أن نبقى على خوف دائم من الضلالة بعد الهداية، ومن الوصول إلى ما وصل إليه رجال من الكوفة كانوا من أصحاب الحسين وارتدوا عليه لأن الدنيا ومصالحها غلبتهم. ومن يحصر الدين بالصلاة أيضًا وهو ينظر إلى كل ما يجري في العالم ولا يتحرك فهذا وجه من وجوه الانحراف.

[1]  سورة الجن الآية 16.

[2]  سورة فصلت، الآية 30.

[3]  سورة هود، الآية 112.


لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<