فلسفة الأخلاق الماهية، الضرورة، الأهداف (5)

فلسفة الأخلاق الماهية، الضرورة، الأهداف (5)

أهداف البحث في فلسفة الأخلاق

ثمّة مجموعة من الأهداف والمعطيات يوفّرها لنا البحث في فلسفة الأخلاق، يمكن الإشارة إلى بعض منها:

1) إيضاح المفاهيم المستعملة في علم الأخلاق حتى يمتلك الباحث في هذا العلم تصوراً عنها، ومن ثم تسهيل التصديق بقضاياها. ذلك أننا قبل دراسة أي مسألة من المسائل الأخلاقية نحتاج إلى تحليل المفاهيم المستعملة فيها، وأن نتعرف على كيفية استعمالها، ذلك أن اختلاف الطريقة في التعامل مع المفاهيم الأخلاقية ومفرداتها يؤثر في محتوى الأخلاق.

وأهمية هذه المسألة تتأكد إذا ما علمنا أن تطور الفلسفة الأخلاقية في القرن العشرين ارتكز على مجموعة عوامل، لعلَّ من أهمها التوجّه الذي طرحه الفيلسوف البريطاني جورج إدوارد مور (1873- 1958م) في كتابه (المبادئ الأخلاقية) الذي نُشر سنة (1903م) والذي اعتبره كل من مونيك كانتو وروفين أدجيان أصلَ الفلسفة الأخلاقية المعاصرة([1]).

ويُشدد هذا التوجّه على خصوصية الحقل الأخلاقي في مفاهيمه الكبرى التي تمتلك طبيعة خاصة جداً تتمايز عن سائر الميادين الأخرى الفلسفية والطبيعية والاجتماعية، ويرى أن الكثير من المشكلات المعرفية وليدة المفاهيم والجُمل وكيفية استخدامها.

إن الكثير من المفاهيم التي تتداول في علم الأخلاق، من قبيل: الخير والشر، والسعادة والمصلحة والمنفعة، المسؤولية الأخلاقية، الواجب، الفضيلة، الحسن والقبيح، وغيرها، يتكفّل هذا الفن بتحليلها وإيضاح المراد منها، وتقديم التصورات السليمة بشأنها.

2) بيان الأسس التي يقوع عليها البحث في علم الأخلاق. وبجملة أصح بيان المرجعية السليمة في قيام علم الأخلاق. ذلك أنه يوجد نزاع بين مفكري وفلاسفة الأخلاق في تقديم تصور متماسك للدعامة التي يرتكز عليها هذا العلم، فهل تتمثل تلك الدعامة في الحسن والقبح؟ أم أن علم الأخلاق والشريعة الأخلاقية يقومان على أساس الفضيلة أم الجمال أم اللذة أم الواجب. وما لم يتوفر الباحث في علم الأخلاق على الموقف السليم من تلك الدعامة فلا يتيسّر له عرض مذهب أخلاقي متماسك وجامع.

3) الوقوف عند مختلف النظريات والمذاهب الأخلاقية وتحليلها وتفكيك عناصرها والموازنة بينها بالنقد والدرس. ذلك أن البحث في علم الأخلاق تتجاذبه مذاهب أخلاقية مختلفة، يحاول كل واحد منها أن يطبع هذا العلم بطابعه الذي ينسجم مع رؤيته للكون والحياة والإنسان والقيم التي يرتكز عليها ويسعى لتحصيلها في حياة البشر، ومن ثمَّ فهناك حاجة ملحة لدراسة تلك المذاهب التي تؤثر قيمها وتصوراتها في السلوك الإنساني في مختلف شؤون حياته الفردية والجماعية، وتلقي بظلالها على مختلف علاقاته السياسية والاقتصادية والحقوقية.

إن دراسة تلك المذاهب المختلفة ودراسة تصوراتها المتفاوتة، يتكفّل به البحث في فلسفة الأخلاق، فيستعرض هذا العلم المذاهب وأفكارها في دراسة نقدية موضوعية قائمة على ردّ الحجة بالحجّة والدليل بالدليل.

ومن هذا نعرف أن البحث في فلسفة الأخلاق يؤمن لنا الطرق السليمة في الحياة الأخلاقية للإنسان، ذلك أن الإنسان كائن أخلاقي، وكل تصرف وسلوك منه يخضع للتقييم والتقويم، كما أنه يمارس التقويم ذاته بالنسبة لسلوك الآخرين، فالإنسان في أبسط أحاديثه اليومية وحتى في عملية توصيل المفاهيم والمعلومات للآخرين، يعبّر ضمناً أو بشكل صريح عن مشاعره ومواقفه وتقويمه لما يرويه ويُقرّره من وقائع وأفكار، ومن ثمَّ فإننا نحتاج إلى العلم الذي يؤمن لنا الطرق السليمة في الحياة الإنسانية ومعاييرها في التقويم، من خلال الإضاءة على ملاكاتها في ظل هدْي العقل، بغرض إعطاء البصيرة للإنسان في مواقفه، تلك البصيرة التي تجعله ثابتاً أمام مختلفة العواصف والأمواج المتلاطمة والعاتية في يوميات حياته.

إننا نريد في فلسفة الأخلاق أن نُجلي أتربة الأوهام والمزالق عن علم الأخلاق وتصوراته ومفاهيمه، الأخلاق التي تعبّر عن مسيرة الإنسان في هذه الحياة. وبعبارة أخرى: إن فلسفة الأخلاق تهدي الإنسان إلى المذهب الأخلاقي الأمثل الذي يؤمّن له سعادته، ويحيط مواقفه وسلوكه برعايته، سيما إذا ما التفتنا إلى أننا نؤمن برؤية إلهية في الحياة (الدين الإسلامي) من جملة أهدافها تتميم مكارم الأخلاق وتزكية الإنسان.

ثمة في عالم اليوم الكثير من المشاكل والإثارات التي يواجهها البحث في علم الأخلاق، تطلب معالجات وإيراد مقاربات لها، وإن الموضع المناسب لحلول تلك المشكلات لابد أن يسبق علم الأخلاق الذي يتكفل تقديم شريعة أخلاقية فيما ينبغي فعله وما لا ينبغي.

لقد ذكر بعض الباحثين الغربيين كجيمس ستيربا أن المذاهب الأخلاقية الرئيسية في علم الأخلاق والمتمثلة في المذهب الأرسطي ومذهب الواجب الكانطي ومذهب المنفعة، يواجه ثلاثة تحديات مهمة لابد لها من تقديم معالجات لها، وهذه التحديات تنشأ من البيئوية والنسوية والتعددية الثقافية.

فالبيئوية تؤكد وفقاً لمبررات تراها وجود انحياز إنساني في علم الأخلاق على حساب بقية الأحياء في هذا العالم! فعلم الأخلاق وفق أصحاب النزعة البيئوية قد فشل في الأخذ بالاعتبار مصالح الكائنات غير البشرية بشكل كاف. ويركز أمثال بيتر سينغر في كتاباته عن تحرير الحيوان على إثنين من أكثر مشاكل استغلال الحيوان خطورة وهما المزارع الصناعية والاختبار العلمي على الحيوانات، ويستند سينغر إلى مبدأ الأهمية المتساوية الذي يشكل ركناً مركزياً في علم الأخلاق المنفعي لإدانة التمييز النوعي الذي يمارس ضد الحيوانات.

وأما النسوية فهي تؤكد على وجود انحياز ذكوري في علم الأخلاق وتسعى لأجل تصحيحه ومعالجته. فعلم الأخلاق كما تؤكد النسوية أخفق في الأخذ بالاعتبار وبشكل كافٍ مصالح المرأة! يؤكد أمثال كارول جيليغان المهتمة في العصر الحديث بهذه المشكلة، أن هذا الانحياز يتمظهر في عدم الملائمة العملية في نظريات العدالة والتمييز بين العام والخاص وغيرها.

وهكذا الحال في التعددية الثقافية، إذ يؤكد أصحاب هذا التوجه على وجود انحياز غربي في علم الأخلاق على حساب بقية الثقافات، فعلم الأخلاق التقليدي قد أخفق في الأخذ بالاعتبار الثقافات غير الغربية سيما ما يتعلق بمجموعة المبادئ الواجب تعلمها([2]).

إن مثل هذه الإثارات وبغض النظر عن تماميتها مقدار الصواب فيها، إلا أنها تتطلب معالجات لما تمثله من تحد أمام أية نظرية ومذهب أخلاقي يدعي الشمول والكمال، ومن الجلي أن تقديم مثل تلك المعالجات لا بد أن يسبق تظهير مذهب أخلاقي متماسك، وإن المحل المناسب لذلك هو فلسفة الأخلاق، فإنها تتكفل بعرض مثل تلك الإشكاليات وتفكيك عناصرها وتقديم مقاربات لها، وبعد ذلك يأتي علم الأخلاق ليأخذ النتائج الجاهزة والثمار ويقدم على أساسها شريعة أخلاقية متماسكة خالية من الثغرات.

4) هدف أو معطى منهجي، يتمثّل في لملمة المسائل والأبحاث التي تقع في رتبة سابقة على البحث في علم الأخلاق، وتعتبر من مصادرات هذا العلم، في أو علم بشكل منظم واستخراجها من شتى العلوم والفنون الأخرى، وجعلها بين يدي الباحثين وقادة الرأي ليدلي كل واحد منهم بقناعاته وتصوراته عنها، وبذلك يُثرى البحث ويتكامل وتتدعّم نقاط الضعف فيه باستكمال نواقصها.

هذه بعض الأهداف والمعطيات التي يوفرها لنا البحث في فلسفة الأخلاق، نضعها بين يدي الباحثين وقادة الرأي، عسى أن تكون خطوة ومحفّزاً في سبيل الاهتمام بهذا الحقل الجاد والمؤثّر في ميادين مختلفة كالسياسة والحقوق والفقه، والذي يستدعي الاهتمام به ما نعيشه من أزمة أخلاقية حادة ومستعرة، أضحى وقودها الضمير الإنساني والإنسان نفسه!

([1]) الفلسفة الأخلاقية، مونيك كانتو سبيربير- روفين أدجيان: 11، ترجمة الدكتور جورج زيناتي، دار الكتاب الجديد المتحدة، الطبعة الأولى 2008م.

([2]) للمزيد من التفاصيل عن هذه المشكلات والاطلاع على رؤية في معالجتها ومقاربتها ينظر: ثلاثة تحديات أمام علم الأخلاق، البيئوية والنسوية والتعددية الثقافوية، جيمس ب. ستيربا، ترجمة جوان صفير، أكاديميا إنترناشيونال 2009م.



لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<