by الدكتور عادل بالكحلة | فبراير 2, 2017 7:54 ص
تعني لفظة «فن» لدى أكثر مستعمليها منذ أكثر من ستين سنة بالعالم المعاصر جملةً من الأنشطة كالموسيقى والمسرح والرسم والنحت والشعر والرواية والسينما… ويعتبر الناس والمختصون أن «بعض الأشياء فنية بوضوح تام و أخرى ليست كذلك»[1][1] في سياق خلفيةٍ جوهرها الفن. لكن أكثر أطروحات علم الاجتماع تختلف مع هذه الأفكار التي تبدو بَدَهِيّة في تناولها ماهية الفن؛ فهي ترى عدم وجود خصائص فنية ذاتية ودائمة؛ أي قطعية. فصفة الفنية «صفة توسم بها من قَبْلُ بعض الجماعات المعنية بالشأن الفني»[2][2]، سواء كان المجتمع شاملًا أو منتجًا تلك القطعة، بقصد أو دون قصد، وربما كانت الصفة محل نزاع ، أو كانت محل توافق أو تواطؤ. وتميل أطروحات علم الاجتماع إلى ربط العمل الفني بما هو سياسي أو ديني أو ثقافي أو معاشيٌّ، وبسياق الاختيارات التاريخية. وإنه من الضروري عدم فصل العمل الفني عن تلك اللوازم وتلك الاختيارات، لأن فصله عنها يعني عدم فهمه و جعله شأنًا متحفيًّا محنطًا لا حياة له.
ويرتاب الباحثون الاجتماعيون و الإنسانيون في ترتيب الأعمال الفنية إلى «جيدة» و«غير جيدة»، ويرفض عدد هام منهم النظر إلى فنون مُنتَحَلات الشعوب و الطبقات و الأجيال والجنسين نظرة تطورية من الأسفل إلى الأعلى، أو نظرةً مركزيةً تعتبر اختيارًا فنيًّا لنحلة ما هو المركز وغيره من فنون النِّحَل تدور حولها ضرورةً، إلا إذا أثبت البحث الموضوعي تلك التبعية وذلك الاقتداء، كما يرفضون مفاضلة الباحث الاجتماعي لأنواع الفنون ويعتبرونها تدخلًا تعسفيًّا.
إن ما يهمنا هنا هو محاولة فحص التأثير المتبادل بين الفن والاجتماع، ومن المفيد محاولة فهم العمل الفني في سياقه الثقافي العام. ولكن من الضروري هنا التدقيق في محتوى الناحلة ونشأتها وأرانها[3][3] التاريخي مع اعتبار الاختيارات الجمعية والسلطوية وحتى الفردية في تشكّلها. فالفن عالم خاص ولكنه ينتمي إلى عالم أشمل، وقد يكون ذا بعد نسبيّ وقد يكون ذا تبعية نسبية للحقول الاجتماعية الأخرى.
ويبدو في نظر الكثير من الباحثين أن «كل عمل عظيم ينتج عن الدين ويعبر عن رؤية للعالم مماثلة للدين وموازية له على اعتبار أن العمل الفني فهم مصغر للكون؛ أي نموذج أو إشارة لعالم لم يُنْظَر إليه من خلفية فهم كلّي»[4][4]. وبهذا الاعتبار، إذا ضاع الدين والرؤية الدينية الكونية تموت النشاطات الفنية (والرمزية عمومًا) في اللحظة ذاتها[5][5]، ومن غير الممكن تقديم العمل الفني سلعةً سياحيةً منسوخةً لأنها ستكون متوافقةً مع الطلب الإسقاطي للشائع فلن تكون وليدة سياق ثقافي طبيعي. وتماهي الفن بالدين «كان عبد ودائمًا إلى الدلالة على التسامي»[6][6]، وعن إيجاد توسل يتجاوز الموت، وقد يكون توسطًا لمزيد النجاعة في الالتزام أو التفاوض الاجتماعيين. بناءً على هذه المقدمات سنُعْنى في هذا التحقيق بمعرفة تعيّنات الدين في الفن وتعيّنات الفن في الدين، وبمعرفة الشروط الإضافية المكيّفة للحقل الفني وشروط الحقل الفني المكيّفة للحقول الاجتماعية الأخرى، من خلال حالة الدين الإسلامي.
وذلك ابتداءً من النصوص الأساسية للإسلام (القرآن أو الحديث النبوي) والفُهُوم الإخبارية والفقهية والعرفانية والسياسية لتلك النصوص والموجِّهة للممارسات، محاولين تتبع الممارسات الفنية في علاقتها بالسياق الاجتماعي تأثيرًا وتأثرًا، توجيهًا وخضوعًا. وسنحاول الأمر نفسه في مقاربتنا للفنانين باعتبارهم فاعلين اجتماعيين يُوَجِّهون و يوجَّهون. وذلك سواء في العالمية الإسلامية الأولى أو في العالم الإسلامي المعاصر، أو في المبشرات بعالمية إسلامية ثانية ممكنة.
لقد نُظِر طويلًا إلى عالم الإسلام بما هو عالم فقير من الفن ومُفْقر للفن، وملغ له، من قِبَل بعض العائشين ضمنه وبعض العائشين خارجه؛ ولقد آن الأوان لكي نعالج هذا الحُكم من خلال تقليب الزوايا من البسيط إلى المركّب أحيانًا، ومن المركّب إلى البسيط أحيانًا أخرى، ومن الفن أحيانًا إلى الفنانين أخرى. إنها محاولة لا تدّعي إلا جدّيتها وجدَّتهَا، ولكنها غير ضامنة بالضرورة لاستقرار نتائجها أو صحّتها المطلقة، فالمهم أن نفكر ولا ندع غيرنا يفكر لنا.
«النِّحْلَة» أو «الـمُنتَحَل» مفهوم خلدوني يعني جملة الأنشطة والرموز المشتركة والاتجاهات الفنية والحقوقية والأخلاقية التي تميز فردًا أو جماعةً أو طبقةً أو وسطًا أو جيلًا أو جنسًا، فيلزم بها نفسه ويتملكها لتكون ميراثه ونَسَبَه.
فالنِّحْلَة الـمعاشية هي الاختيار الكسبي بما يساوقه من «الأقوات والملابس والمساكن وسائر الأحوال والعوائد»[7][7]. أما الاختيار الكسبي في حد ذاته، فيسميه ابن خلدون «انتحال» : «العرب لبداوتهم لم يكونوا مهرة في ثقافته [البحر] وركوبه»[8][8]، فهي المعرفة المهنية والتجربة التقانية. والنِّحْلَة من الـمعاش قرينة رئيسة في التصنيف الاجتماعي الخلدوني : «اختلاف الأجيال في أحوالهم إنما هو باختلاف نحلتهم من الـمعاش»[9][9].
ومن أصناف الانتحال «النِّحْلَة العلمية» أو «النِّحْلَة من العلم»، فالعمل العلمي هو في الأصل انتحال «للقراءة والأخذ من المشايخ والأئمة»[10][10]، وهو يختلف من جيل إلى جيل، ومن أُمَّة إلى أخرى، ومن طور من أطوار الدولة إلى آخر، ومن إقليم بالعالم إلى آخر. ومن النِّحْلَة عند ابن خلدون، انتحال الألقاب الملكية والشارات والمواكب[11][11]، وانتحال الفضائل[12][12] والرذائل، وانتحال الشعر الذي كان له المرتبة الأولى لدى العرب في «العناية بانتحاله»[13][13]، وانتحال الموسيقى والغناء[14][14]، وخَصَّصَ لفن الموشحات العنصر الأخير من المقدمة، ذاهبا إلى أن انتحال التلحين في الصدر الأول من الإسلام لم يكن «قادحًا في العدالة والمروءة»[15][15].
وقد تناول ابن خلدون في المقدمة التَّنَاحُل، وهو التبادل النِّحْلي، فقد استعار الانتحال الإسلامي الكثير من عناصر النحل الأخرى، كالكيمياء، والفلسفة التي أَكَّدَ على «فساد مُنْتَحَلِهَا»[16][16] في نظره، والعلوم الطبيعية…
ولكنَّ أبا الريحان البيروني كان سابقًا على ابن خلدون في دراسة الانتحال، بل كان همه الرئيس في كتابه في تحقيق ما للهند من مقولة، إذ كان ابن خلدون مُرَكِّزًا على علم اجتماع الدولة. وقد كان بحث البيروني قائمًا على مفاهيم دقيقة في تحقيقه «رموز نحلتهم وموضعات ناموسهم»[17][17]، سبّاقًا إلى مفهوم «الرمز»، معتمدًا العيان لا الخبر، والمقارنة مع النحل الدينية الأخرى، قاصدًا «الحكاية المجردة من غير ميل»[18][18]؛ أي النقل الدقيق دون تحامل. ولتحقيق ذلك كان من الضروري أن يعرف لغة الهنود وينقل كتب البراهمة من مصادرها[19][19].
الحقل هو جزء من العالم الاجتماعي، وهو «حيز من المواقع والمواقف واتخاذ المواقع الفعلية والممكنة»[20][20]، له قوانينه الخاصة التي تميزه عن الحقول الأخرى، ولكنه قد يخضع لتحديدات اجتماعية من خلال البنية النوعية للحقل. إنه فضاء هيمنة ونزاعات على المواقع. ومن خلال الشكل الخاص لتنظيم الممارسات والامتثالات التي يفرضها الحقل «يقدم على العناصر الفاعلة شكلًا شرعيًّا لتحقيق رغباتها مؤسسًا على شكل خاص من الإيمان»[21][21].
ويرى بورديو أن منتِج قيمة العمل الفني «ليس الفنان، ولكن حقل الإنتاج بوصفه عالـَمًا من الإيمان»[22][22]. فالإنتاج الفني يوجد باعتباره موضوعًا رمزيًّا حاملًا للقيمة إلا إذا كان معروفًا ومعترفًا به؛ «أي قد تأسس اجتماعيًّا باعتباره عملًا فنيًّا بواسطة متلقين مزودين بالاستعداد الجمالي»[23][23]. كما يؤكد بورديو ضرورةَ أن لا نعتبر داخل الحقل الفني الفنانين وحدهم، بل كذلك النقاد ومؤرخي الفن والناشرين والتجار ومدارس الفن، وغيرهم.
«الرِبْعَة» هي حالة فرد أو جماعة، في إطار دولة أو ولاية أو مؤسسة، سامحة له بتدبير شؤونه الخاصة، دون تبعية ظاهرة أو مطلقة للولاية المركزية. فهي امتثال قدرة تسمح للذات بأن تكون «رِبْعِيّةً»، غير تابعة للآخر، مشتغلةً ومتطورةً «باستقلال» عن الآخر. إنها لا تحمل بالضرورة قطيعةً مع الآخر، ولكنها تحتمل الكثير من السيادة الظاهرة على الذات بالذات. وعكسها «الخَوَلية»[24][24]، وهي سيادة الآخر أو الإطار الأوسع على الذات بقوانينه وقدراته ورموزه واستحكام تبعيتها بالاستلزام والاسترهاب. و«رِبْعَة الحقل الفني» هي تفادي هذا الحقل المطالب الخارجية للحقول الأخرى، تنامي القدرة على صياغة قوانينه وغاياته الخاصة به.
في كتاب قواعد الفن: نشأة الحقل الأدبي وبنيته، خصص بورديو جهده لدراسة سيرورة تربيع الحقل الأدبي الفرنسي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ميلاديًا باتجاه السلطات السياسية والـمعاشية الثقافية. فكانت فكرة «الفن للفن» في تحليل بورديو تأكيدًا لحقِّ الكتابة والإنتاج الفني دون التزام سياسي ودون ضغط معاشي ليكون الحقل الفني «عالـَمـًا على حِدَة (من طراز فريد)، خاضعًا لقوانينه»[25][25]، بعيدًا عن أطروحة الفن التجاري «الذي شجعه بذخ النظام الإمبراطوري[26][26] خاضع على نحو مباشر لما يريده الجمهور»، وبعيدًا عن أطروحة «التيار الواقعي» أو «الفن الاجتماعي» الالتزامي المرتبط بالأحزاب. ثم تقدم الأمر إلى ربعية الحقل الفني تجاه الحقل الفني الآخر وتجاه الخطاب الشارح له، فالرسامون مثلًا وصلوا إلى سَوْق[27][27] ملائم يسمح لهم «باستخدام رجل الأدب دون أن يستخدمهم، وبأن يتفادوا علاقة الدونية البنيوية تجاه منتجي ما بعد الخطابات (الخطابات الشارحة) حيث يضعهم مركزهم منتجين لأشياء خرساء بالضرورة، وتجاه أنفسهم في المحل الأول»[28][28].
ويلاحظ بورديو أن سيرورة الحقل الفني نحو درجة أكبر فأكبر من الرِبْعَة تتساوق مع تعميق تمايز صيغ تعبيره وانكشاف تدريجي للأشكال الملائمة، الأكثر استقلالًا عن الحقول الأخرى كالحقل الديني والدولة، فلا يستجيب لوظائف محددة سلفًا من قِبَلِها.
2. 4. مقولة الإمّة[29][29]:
لقد نحت ميشال فوكو مقولة «الإپسْتِــمَه»[30][30] قاصدًا به نسق العلاقات التي تربط «بين الممارسات الخطابية التي تفسح فضاءً»[31][31] لصيغ معرفية (علمية، فنية، تقانية)، وعند الاقتضاء لأنساق معقدة. فهي مجمل العلاقات التي نستنبطها من خلال الانتظامات الخطابية[32][32]، وهي الشرط للنسق المعرفي-الموقعي تفتح على الاختلاف وتباين المواقف داخل الحقل الواحد.
أما الإمّة، كما أَقْتَرِحُهَا، فهي النواة المركزية التي تتحكم في النسق المعرفي-الموقعي واعيًا كان أو غير واع، واعيةً كانت أو غير واعية.
إنها العنصر الأهم في النسق المعرفي الموقعي، محدِّدةً في الآن نفسه دلالة هذا النسق وتنظيمه ومدى قدرته على التوجيه والتأثير الاجتماعيَّين وهي قائمة على وظيفتَين أساسيتَين:
– الوظيفة التوليدية: فهي العنصر الذي به تُخلق العناصر المكونة للنسق المعرفي-الموقعي داخل الحقل الاجتماعي المعين، فيتخذ شكله ودلالته بتلك الإمّة، وبها تأخذ عناصر النسق العرفي-الموقعي معانيها وقيمها.
– الوظيفة التنظيمية: فالإمّة تحدد طبيعة الصِّلات التي تجمع بين عناصر النسق المعرفي-الموقعي في الحقل. فهي العنصر الجامع للنسق فتجعله قارًّا تشكيكيًّا.
فالإمّة هي النواة المركزية بالنسق المعرفي-الموقعي، تجعله قادرا على التأثير في الحقل الخاص أو تغييره أو الإقامة فيه، وربما التأثير في المواقع الأخرى أو حتى في الحقول المجاورة الأخرى. فهي تنظّم الإپسْتِمَه وتبنيها جاعلةً إياها متميزةً عن بقية الإپستمات.
وتتكون الإمّة من أنماط ثلاثة من العناصر:
– العناصر المعيارية: وهي العناصر المرتبطة بالتاريخ الجمعي أو الفردي ونسق القيم بالكيان الجمعي أو الفردي وهي التي تحدد الأحكام واتخاذ المواقع المرتبطة بالإپسْتِمَه ، مكونة الإطار المرجعي للإبستمه، وانطلاقًا منها يكون تقييم المشروعية الاجتماعية لها.
– العناصر الوظيفية: إنها عناصر مرتبطة بتسجيل النسق المعرفي-الموقعي ضمن الممارسات الاجتماعية والإجرائية، أو إحداها. فتحدد تلك الممارسات التي لها مشروعية الظهور عندما يتواجه الأفراد والجماعات مع موضوع الإپسْتِمَه ، خالقةً مشروعيتها الخاصة، ذات الرِبْعَة التشكيكية أو ذات التبعية، تجاه الإپسْتِمَه المهيمنة.
– العناصر المختلطة: ولها بعد مزدوج، معياري ووظيفي في الآن نفسه، متدخلةً في توجّه الممارسات وإنتاج الأحكام معًا[33][33].
الثقف صفة مشبهة، يقول ابن منظور: «رجل ثَقْفٌ وثَقِفٌ وثَقُفٌ : حاذق فهِم ، وأَتبعوه فقالوا : ثقْفٌ لقْفٌ . وقال أبو زياد : رجل ثقْف لقْف رامٍ راو . اللحياني : رجل ثقْفٌ لقْفٌ ، وثقِفٌ لقِفٌ ، وثقيف لقيف، بيِّن الثقافة واللقافة . ابن السكيت [34]: رجل ثَقْفٌ لَقْفٌ إذا كان ضابطًا لما يحويه قائمًا به . ويقال : ثَقِفَ الشيءَ وهو سرعة التعلم . ابن دريد [35]: ثقِفت الشيء حذَقته وثقِفته إذا ظفرت به . قال الله تعالى : ﴿فَإِمَّا تَثقَفَنَّهُمْ فِي الحَرْبِ﴾[36] (الأنفال، 57). وثقُف الرجل ثقافةً أي صار حاذِقًا خفيفًا مثل ضَخُم ، فهو ضَخْم ، ومنه المثاقفة . وثقِف أيضًا ثَقَفًا مثل تعِبَ تَعَبًا أي صار حاذِقًا فطِنًا[34][37] فهو ثَقِف». أمّا «ثَقِفٌ» فهو اسم مفعول؛ أي من كان ثَقِفًا لا بإرادة عصامية، وإنما بإرادة جبرية وموضوعية حصرًا. ولذلك سنستعمل صيغة «ثَقِفٍ» لأنها مطلقة، وليست قائمةً على فهم إسقاطي لظهور هذا الكائن الاجتماعي.
وليست فئة الثُّقَفاء فئةً مهنيةً، مثل الأطباء والصحافيين والمحامين. إنها فئة تنتمي «إلى قمة»[35][38] اجتماعية، فبعض عناصرها قريبون إلى السلطة السياسية أو الـمعاشية، حتى إذا لم يكونوا جزءًا «من الطبقة المسيطرة أو الموجهة»[36][39]، وبعضهم الآخر على قطيعة معها إلى حد التهديد المتبادل.
إنهم «من أصحاب البلاغة»[37][40]، يطلِقون خطاباتهم عن حقول متنوعة. وهم من أهل «الفضاء العام»، باصطلاح هاترماس. فهم «محترفو الكلام والكتابة والاستبطان والتحليل والعمل العقلي»[38][41]. فهم يمتلكون انتزاعًا ثقافيًّا خصوصيًّا؛ أي محمولًا للفرد الثقف أو لجماعته الثقفة (بيت الحكمة، إخوان الصفاء، حلقة فيانا، مدرسة فرنكفورت…) وقد يكون نبيًّا أو حكيمًا أو عارفًا أو فنانًا أو حاملًا لجملة من هذه المحمولات.
ويمكننا تعريف الثّقِف بأنه: «من يبدع النِّحْلَة ويوزّعها ويمارسها»[39][42] فهو يساهم في الممارسة
الثقافية الانتزاعية للعالم الرمزي الخاص بالإنسانية، «المتضمن للفن والعلم والدين»[40][43]، فهو يعتني بالقيم المركزية في المجتمع؛ أي بإمّته الثقافية والامتلالية[41][44]. فإذا اهتم بمجمل تلك القيم المركزية؛ أي إذا راقب الإمّة المجتمعية مجازفًا بنقد جذورها القصوى وارتباطاتها السلطوية والميتافيزيقية كان ثَقِفا كليًّا. فإذا كان هذا الثقف الكلي غير مستنفر لذكائه الجمالي والعقلي، فحسب، بل لِزَمَنِهِ الشخصي وجسده واستعماله للحمى إلى حد المجازفة بحياته وربما بحياة بيئته (جماعةً فكريةً أو فنيةً، العائلة، الأصدقاء…) كان ثَقِفًا ملتزِمًا؛ أي حاملًا لبعد سياسيّ وربما نقضيّ للإمّة والسلطة السائدين، فهو يمزج الذكاء الكلي الخاص بالخبرة الدنيوية والـمناضَلة الدائمة والمتراكِمة عبر أطوار. فهو ليس ثَقِفًا منسحِبًا، لا يهمه الناس، يعيش الهمّ الكلّيّ والشأن العام، بالمطلبية والاحتجاجية والتحسيس والاستماع للآخرين والتفاوض والانخراط الحزبي والنقابي والـمُقاومي والثوري والحركي…فهو متوتر، قبولًا ورفضًا، في صِلاته بالعالم.
هذا العمل يسعى -كما فعل فْرَنْكَاسْتِل[42][45]– تشكيكيًّا[43][46] إلى القطع مع تاريخ الفن، بما هو مُصادرة على أنّ الآثار الفنية وأساليبها ذات تطوّر ذاتي. فهو يجتهد لأن يعيد بناء السيرورات والتجارب والقيم الفنية، ضمن تاريخيتها الجدلية، الجمعية والفردية معًا، بحثًا عن إمَّتِها بما تحمله من نواة مركزية تُوجِّه تلك الرؤى والتجارب.
بدايةً نريد إعادة اكتشاف إمة الفن في النص الإسلامي التأسيسي، ثم نمرّ إلى إعادة اكتشاف الفاعلين الاجتماعيين بالحقل الفني في الإسلام، بين العصر القريب من الزمن التأسيسي للانتحال الإسلامي وعصر ما بعد «الاستقلالات» وتأسيس الدولة الوطنية بعالم الإسلام من حيث التواريخ الفردية والجمعية التي أنتجتهم، ومواقعهم بالحقل الفني والحقل الثقافي عمومًا والحقل السياسي، وإماتهم الخصوصية ضمن الأران الاجتماعي الشامل.
وللوصول إلى هذه الأغراض، توخينا الاعتماد على الوسائل التالية:
– جمع النصوص الشاهدة على تأسيس الحقل الفني أو إعادة تأسيسه أو على تحديد المواقع داخله، وقد نظرنا إلى النص باعتباره خطابا، أي نسقا معرفيا ذا موقع في الأران والصراع الاجتماعيَّين والثقافيَّين، وذا شبكة من المقولات تحمل إمة تنظم تلك المقولات وتراتبها وتبنيها.
– انتزاع الرابط بين التاريخية السياسية والثقافية لشعوب عالم الإسلام (الفاعلين الجماعيين) وتجاربها الفنية، منتزعين الإمّة التي نظمت تلك التجارب ومنحته دلالاتها وتمايزها التشكيكي عن بعضها، سياقا أو فهما للموقف الفني للنص المؤسس أو وظيفة اجتماعية وسَوْقية.
– محاولة إعادة بناء السِّير الأرانيّة للفاعلين الفرديين ضمن سياقات مختلفة ومتقاطعة في الآن نفسه: العائلي والسياسي والـمعاشي والحمويّ.
– إعادة اكتشاف أطروحة الفن لدى المفكر المسلم المعاصر، ضمن إعادة بناء شبكية تفترض إمّة تنظّم تلك الأطروحة وتُراتِبُ عناصرها الرّهانيّة وتبْنِيها.
وقد سعيتُ أيضًا إلى تغطية أكثر ما يمكن من الاختيارات الفنية (الموسيقى، الشعر، الرقص، المسرح، التصوير، السينما…)، حتى تكون الرؤية أشمل، ومن ثمة أعمق، لكي أستطيع في الـمنتهى أن أثبّت افتراضي أن الإِمّة المركزية التي تشق أطروحاتها وتجاربها جميعًا واحدة تشكيكيًّا، وقد اختبرتُ ذلك مع الفاعلَيْن: الفردي والجماعي.
4. التغطية الحِمَوِيّة
حِمَويّة هذا العمل هي العالم الإسلامي، أثناء العالمية الإسلامية الأولى[44][47]، وبعد «الاستقلالات» عن الاحتلالات الغربية.
هناك عالم إسلامي على الخريطة الثقافية والأديانية للعالم، ولكننا مازلنا لا نجد عالميةً إسلاميةً ثانيةً. فالعالمية، ليست بالضرورة خاضعةً للتحمية الأكثرية، فهي بناء اقتداري متدامج، ثقافيًّا ومعاشيًّا وسياسيًّا وعسكريًّا يُغطّي حمًى واسعًا من العالم، فالعالمية الإسلامية لا تفترض قدْرًا من تكامل العالم الاسلامي ورِبْعَتِه، بل أيضًا وجهةً تأثيريةً واسعةً في سيرورة العالم.
لقد سعيتُ إلى تغطية حِمَوِيّة تراعي في الآن نفسه الأحْمِيَة المركزية في إنتاج أطروحة الفن وتجاربه في عالم الإسلام (الحجاز، مصر، إيران، الشام) وكذلك الأحمية الـمُهَمَّشَة توقيفيًّا (مالي التاريخية أي إفريقيا الغربية الإسلامية، والسودان، والبُسْنَة[45][48] بأوروبا الشرقية الإسلامية وداغستان، مثلًا)، مُبَيّنًا فرادة تلك الأحمية المهمشة توقيفيًّا في إنتاج أطروحة الفن وتجاربه، لتصبح في نهاية العرض ليست أقل مركزيةً مما اعتبر مركزيًّا وتوقيفيًّا.
[1][49] ديفيد انجليز، «التفكير في الفن سوسيولوجيًّا»، ضمن: ديفيد انغليز وجون هغسون، سوسيولوجيا الفن: طرق للرؤية، الصفحة 32.
[2][50] المصدر نفسه، الصفحة 32 أيضًا.
[51] [3] الأران: Dynamique, Dynamic (Noun) .
[4][52] فيليب لابورت تولرا وجان بيار فارنييه، أثنولوجيا، أنثروبولوجيا، الصفحة 251.
[5][53] المصدر نفسه، الصفحة 251.
[6][54] المصدر نفسه، الصفحة 252.
[7][55] عبد الرحمن ابن خلدون ، المقدمة، الصفحة 116.
[8][56] المصدر نفسه، الصفحة 225.
[9][57] المصدر نفسه، الصفحة 116.
[10][58] المصدر نفسه، الصفحتان 121 و410.
[11][59] المصدر نفسه، الصفحات 214 و 215 و 327.
[12][60] المصدر نفسه، الصفحة 246.
[13][61] المصدر نفسه، الصفحة 287.
[14][62] المصدر نفسه، الصفحة 466.
[15][63] المصدر نفسه، الصفحة 466.
[16][64] المصدر نفسه، الصفحة 435.
[17][65] البيروني، في تحقيق ما للهند من مقولة، الصفحة 5.
[18][66] المصدر نفسه، الصفحة 4.
[19][67] المصدر نفسه، الصفحة 6.
[20][68] بيار بورديو، قواعد الفن، الصفحة 312.
[21][69] المصدر نفسه، الصفحة 308.
[22][70] المصدر نفسه، الصفحة 308.
[23][71] المصدر نفسه، الصفحة 308.
[24][72] مفهوم خلدوني إذ يقول ابن خلدون عن العرب في علاقتهم بشعوب الإسلام الأخرى: «صارت أمم العجم خَوَلاً لهم»، ابن خلدون، مصدر سابق، الصفحة 279.
[25][73] بيار بورديو، قواعد الفن، الصفحة 83.
[26][74] المصدر نفسه، الصفحة 113.
[27][75] سَوْق : «استراتيجيا» في اللغات الأوروبية.
[28][76] بيار بورديو، قواعد الفن، الصفحة 194.
[29][77] هذه المقولة الانتزاعية، ركّبناها من التوليفة بين مقولة جان كلود أبريك (النواة المركزية للامتثال)، ومقولة ميشال فوكو (الإپسْتِمَه)، من أجل الإمساك بأران الحقل الفني المقصود وأران فاعليه.
[30][78] الميم هنا بالإمالة.
[31][79] J-C Abric, «Représentations: Aspects théoriques », in: Pratiques sociales et représentations, P.22.
[32][80] Michel Foucault, Archéologie du savoir, P.250.
[33][81] ج.ك. أبريك ، مصدر سابق، الصفحتان 35 و36.
[82] [34] ليس بالضرورة أن تكون النِّحلة والانتحال حِذْقًا وفطانةً. فإذا وَصَف الباحث الاجتماعي والإناسي النِّحْلَةَ بأنها انتحال كان إسقاطيًّا وذا حكم مسبق وتحكّمي.
[83] [35] جيرار لِكْلَرْك، سسيولوجيا المثقفين، الصفحة 14.
[84] [36] المصدر نفسه، الصفحة 14 أيضًا.
[37][85] المصدر نفسه، الصفحة 15.
[38][86] المصدر نفسه، الصفحة 15 أيضًا.
[39][87] المصدر نفسه، الصفحة 16.
[40][88] المصدر نفسه، الصفحة 16.
[89] [41] راجع مفهوم «الـمِلّة» (والامتلال) في: ابن خلدون، المقدمة، الصفحتان 198 و201. مثلا. وهي أقرب إلى «الإيديولوجيا» في الاستعمال الحديث.
[42][90] P Francastel, Peinture et société, oeuvre1, P.15-16.
[43][91] «التشكيكي» هو «النسبي» في لغة عصر «النهضة» العربية وما بعده.
[44][92] هذا المصطلح دشّنه أبو القاسم حاج حمد في كتابه العالمية الإسلامية الثانية، ولكنه لم يجعل منه مقولة علمية، إذ لم يقدّم تعريفًا لها.
[45][93] هكذا كُتِب اسم هذه البلاد عندما كتب أهلها لُغَتَهم بــ «الأعجمي» (أي بالهجاء العربي متلائمًا مع نطق حروفها).
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
Source URL: https://maarefhekmiya.org/8703/art/
Copyright ©2024 معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية unless otherwise noted.