إبحار في المشروع الفلسفي للدكتور ناصيف نصار

إبحار في المشروع الفلسفي للدكتور ناصيف نصار

في إطار اهتمام موقع المعارف الحكمية الإلكتروني بإجراء لقاءات وحوارات مع أصحاب المدارس الفلسفية المعاصرة، كما رواد المدارس التقليدية، تشرّف قسم الحوارات في الموقع بلقاء جناب الدكتور ناصيف نصار، حيث كان معه الحوار التالي:

1-بين ابن خلدون وكارل ماركس وأفلاطون، أين تقع الأطروحة الفلسفيّة عند ناصيف نصار؟

هذا سؤال ذكيّ جدًّا، ينفذ إلى خلفيّة المشكلات والنظريّات التي اشتغلت عليها، ويصلح موضوعًا لبحث يقوم به طالب من طلاب الدكتوراه في الجامعة اللبنانيّة أو في غيرها من الجامعات. وفي الواقع، ترد الإشارة إلى أفلاطون وماركس في التمهيد لأطروحتي عن ابن خلدون (1965)، حيث قلت إن الفيلسوف العربيّ يحتاج إلى الاستفادة بعمق من فكر ابن خلدون ومن فكر ماركس ومن فكر أفلاطون حتى يتمكّن من ممارسة التفلسف وفقًا للأصول، وبخاصّة حول مشكلتَي الدولة والتاريخ. ولم تكن هذه الإشارة مجرّد إشارة عابرة: فقد ظلّت حاضرة في أبحاثي، (من دون أن تختصر علاقتي بتاريخ الفلسفة)، وإن لم أعد إلى تناولها بشرح مفصّل. وتأثيرها واضح في ثلاث نظريّات في الأقل، مطروحة في مواضع مختلفة من مؤلفاتي، وهي نظريّات الواقعيّة الجدليّة والعقلانيّة النقديّة والمثاليّة الناسوتيّة. ففي بناء هذه النظريّات المترابطة، حول مقولة الفعل داخل نظريّة الوجود التاريخيّ، لا يمكنني أن أزعم أني جمعت روح “المقدّمة” وروح “الرأسمال” وروح “الجمهوريّة” في روح واحدة، (ولم يكن هذا هدفي أصلًا)، بل يمكنني أن أؤكّد أني كنت وفيًّا للدروس التي استخلصتها من هذه المؤلفات العظيمة كما فهمتها، وفقًا للوفاء الأسمى الذي هو الوفاء الخلّاق.

2-دعوتم في أكثر من مجال للتمييز بين الايديولوجية والفلسفة، مع إشارتكم لتقاطعهما في لحظة معرفيّة. حبّذا لو تعرّفوا لنا كلًّا من المفهومين، مع تبيان مجال التقاطع بينهما.

لنظريّة الايديولوجية نصيب وافر من مؤلفاتي، بدءًا من كتابي “طريق الاستقلال الفلسفيّ”. وقد اعتمدت فيها مفهومًا للايديولوجية يأخذ في الاعتبار الناحية البنيويّة والناحية النشوئيّة والناحية الوظائفيّة. فجاء مفهومًا قويّ البنيان، عظيم الفائدة في البحث، وفي التطبيق العمليّ أيضًا. ففي نظري، تشكّل الايديولوجية منظومة من أفكار اجتماعيّة (بالمعنى الواسع للكلمة)، ترتبط أصلًا بوجود ومصلحة جماعة معيّنة، وتشكّل أساسًا لتحديد وتبرير فاعليّة هذه الجماعة في مرحلة تاريخيّة معيّنة. فالايديولوجية بموجب هذا التعريف هي جوهريًّا نظرة جماعة معيّنة إلى نفسها، حاضرًا وماضيًا ومستقبلًا، نظرة منحازة، عمليّة، نضاليّة، سجاليّة، انتفاعيّة، قبل أي شيء آخر. وتفصيل هذه السمات موجود في مقالاتي عن الايديولوجية، وبخاصة في كتاب “الفلسفة في معركة الايديولوجية”، وكتاب “مطارحات للعقل الملتزم” وكتاب “الايديولوجية على المحك”. فمن أراد المزيد، فليرجع إلى هذه الكتب. وفيها يظهر الفرق واضحًا بين الايديولوجية والفلسفة، حيث إن هذه الأخيرة بحث عقلانيّ، بأرقى وأوسع معاني العقلانيّة، في مبادئ الوجود والمعرفة والعمل على مستوى الإنسان كإنسان. فإذا حصل تقاطع في الموضوع – الحكم السياسيّ، مثلًا – فالايديولوجية تراه من زاوية خصوصيّة الجماعة التي تدافع عنها، في حين أن الفلسفة تراه من زاوية كونيّة الظاهرة المتجسّدة فيه. وهي، بالنسبة إلى الحكم السياسيّ، ظاهرة السلطة، في مقابل ظاهرة السيطرة.

3-طرحتم في كتابكم “طريق الاستقلال الفلسفيّ” أن الفلسفة كونيّة الطابع. ولكنها تعمل في إطار خصوصيّات ثقافيّة. وإنّ على الفيلسوف العربيّ أن يخرج من تاريخ الفلسفة ليصبح فيلسوفًا بحسب الخصوصيّة الثقافيّة العربيّة. هل من الممكن أن توضحوا لنا نظريّتكم في هذا المجال؟

أجل، الفلسفة كونيّة الطابع بموضوعاتها ومفاهيمها، خلافًا للايديولوجية التي تخدم جماعة بعينها، كالاشتراكيّة بالنسبة إلى الطبقة العاملة أو كالصهيونيّة بالنسبة إلى اليهود. ولكنها في الوقت عينه ممارسة نظريّة مشروطة بمنظومة من العوامل، كاللغة والسياق التاريخيّ، تضفي على كونيّتها ألوانًا من الخصوصيّة لا يمكن تجاهلها. وعلى هذا النحو، تصنع الفلسفة تاريخها الخاص، عبر المجتمعات والعصور، بحيث إن مشكلة الفيلسوف المبدع ليست في كيفيّة التخلّص من جدليّة الكونيّة والخصوصيّة، بل في كيفيّة تموقعه وتعامله مع تاريخ الفلسفة، أي في كيفيّة اضطلاعه بأعباء جدليّة أخرى، هي جدليّة تاريخ العقل كتراث وتاريخه الراهن كبحث وإبداع. فالخروج من تاريخ الفلسفة – بالمعنى المشار إليه في السؤال – ليس خروجًا من طبيعة الفلسفة نفسها، وإنما هو إشارة إلى ضرورة تنظيم فعلها وتأدية مهمّتها وفقًا لما يقتضيه مطلب الكونيّة إنطلاقًا من الوضعيّة الراهنة للثقافة العربيّة. فالأولويّة في الطريق إلى الفلسفة هي للتاريخ الحيّ بأسئلته ومشكلاته، التاريخ الذي نصنعه ويصنعنا، ومن ثمّ يأتي توظيف تاريخ الفلسفة توظيفًا هادفًا ومثمرًا. ولكن، من الواضح أن توظيفًا كهذا لا يمكن توافره إلّا بشرط امتلاك تاريخ الفلسفة امتلاكًا علميًّا ونقديًّا في أعلى المستويات. وهذا لعمري، ليس بالأمر اليسير.

4-شكّلت نظريّة “السلطة” موضوعًا رئيسيًّا في مؤلفاتكم. إضافة لتخصيصكم مؤلّفًا كاملًا حولها تحت عنوان “منطق السلطة”. ما هو الجديد الذي قدمه الدكتور ناصيف نصار تحت هذا العنوان؟ 

في معرض تقييم الكتابة الفلسفيّة الأصيلة، لا يمكن استبعاد السؤال عن الجديد فيها. ولكن قبل طرح هذا السؤال، لا بدّ من دراسة موضوعها، أي المشكلة التي تتصدّى لإثارتها ومعالجتها، من حيث أهمّيتها وصحّة النظريّة المطروحة حولها وعمقها ونتائجها وسوى ذلك من جوانب التأليف الرصين. أن نفكّر تفكيرًا فلسفيًّا صحيحًا في أسئلة كونيّة صحيحة، هذا هو المطلوب أوّلًا. فلا ينبغي أن يكون السؤال عن الجديد في البحث الفلسفي مستأثرًا بعمليّة التقييم المقارن الواجبة حول إنجازه. ولذلك لا يهمني في الدرجة الأولى أن أقول لقارئ “منطق السلطة” أين هو الجديد فيه، وبالنسبة لمن. فالمسألة متروكة له ولكلّ باحث متخصّص في الفلسفة السياسيّة. وإنما يهمّني أن يقتنع بأن هذا الكتاب يتصدّى لمسألة كونيّة صحيحة – وهي في غاية الأهميّة عربيًّا – ويوظّف في معالجتها منظومة صارمة من المبادئ والقواعد الفلسفيّة. وبعد، هل ثمة في تاريخ الفلسفة السياسيّة كتاب آخر مبني، من أوله إلى آخره، على فكرة واحدة تقول: “السلطة هي الحقّ في الأمر”؟ أظنّ أن أستاذ الفلسفة السياسيّة في جامعة الحسن الثاني في الدار البيضاء (المغرب)، الدكتور عبد الاله بلقزيز، كان يجيب عن هذا السؤال، وعن أسئلة أخرى مرتبطة به، عندما وصف كتاب “منطق السلطة”، في الجزء الثاني من دراسته المطوّلة عن “العرب والحداثة”، بأنه “بحث متميّز وغير مسبوق في موضوعه وفي البناء النظري لهذا الموضوع” (ص 104).

5-طرحتم أن استقلال الفيلسوف العربيّ هو استقلال عن تاريخ الفلسفة لكي يخرج من الانحصار بين التراث الموروث من العصور الوسطى وبين الفلسفة الغربيّة. بحسب متابعتكم ومراقبتكم، هل استطاع المفكّر العربيّ أن يخرج اليوم من هذه الحدود المعرفيّة، ليرسم ملامح فلسفة معاصرة تحاكي حاجات المجتمع العربي المعرفيّة؟

ما طرحته منذ أربعين عامًا ونيّف، حول “الاستقلال الفلسفيّ”، أثار نقاشًا واسعًا بين المشتغلين بالفلسفة في البلدان العربيّة. فأيّده كثيرون عن حماسة وإعجاب، وتحفّظ عنه آخرون، إما انطلاقًا من نظرة منحازة إلى التراث وإما انطلاقًا من نظرة منحازة إلى الفلسفة الغربيّة بوصفها المرحلة المتقدّمة من تاريخ الفلسفة. ومع أني متأكّد من أن تأثيره لم يكن سطحيًّا وعابرًا في أوساط فئات مختلفة من المثقفين الذين نشأوا في العقود الأربعة الأخيرة، إلّا أنني لا أستطيع أن أقول إن مدرسة فكريّة تكوّنت حوله. لماذا؟ وماذا يجري الآن؟ وما هو الممكن في المستقبل؟ هذه أسئلة تحتاج إلى بحث جدّي، وليس لديّ عنها سوى أجوبة جزئيّة، إنطباعيّة في معظمها. وأملي أن يأخذ الجيل الجديد من المشتغلين بالفلسفة في البلدان العربيّة القضيّة على عاتقه بكلّ جديّة، لأنها هي طريق الخلاص من التبعيّة والتخلّف. وذلك على هدى النظريّات التي وضعتها في تصرفه تطبيقًا للمنهج الذي حدّدت قواعده منذ أكثر من أربعة عقود، ولا يزال في نظري صالحًا للتأسيس عليه.

6-أشرتم إلى ضرورة إسهام الفلسفة في النهضة العربيّة الثانية. ماذا تقصدون بالنهضة العربيّة الثانية؟

يتّفق المؤرّخون إجمالًا على أن الصدمة التي أحدثتها حملة نابليون على مصر عام 1798، كانت منطلقًا لنهضة شاملة متدرّجة امتدت تباعًا على كافة الشعوب العربيّة حتى أواسط القرن الماضي، مرورًا بأحداث هامة هنا وهناك، أعمقها تأثيرًا سقوط الحكم العثماني بعد الحرب العالميّة الأولى. أما ما حدث بعد عام 1948، بسبب نشوء دولة إسرائيل وتصاعد حركة التحرّر الوطني، حتى أيامنا، فلا اتفاق بين المؤرّخين على تحقيبه وتسميته. ولذلك وجدت من الضروريّ اعتماد تحقيب معقول يساعدنا على فهم ما جرى ويجري حتى أيامنا، بهدف اكتشاف الاتجاه العريض الذي تحتاج الشعوب العربيّة إلى الوعي به والسير فيه. فبدا لي أن حرب حزيران 1967 بين العرب وإسرئيل كانت حدثًا فاصلًا بين مرحلة الثورة التي سبقتها ومرحلة الهزيمة التي تلتها. والحديث هنا على التاريخ المجتمعي الحضاريّ، وليس على التاريخ العسكريّ والسياسيّ فقط. وتوقّفت طويلًا عند المقارنة بين حملة نابليون على مصر وحرب إسرائيل على مصر وسوريا والأردن عام 1967، (وهي لم تكن في الحقيقة سوى تكملة لحرب عام 1948). وتوصّلت في الخلاصة إلى الاقتناع بأن العمليّة التاريخيّة الحضاريّة المفروضة على الشعوب العربيّة لتجاوز الهزيمة ومفاعيلها الكارثيّة والانخراط بنجاح حقيقيّ في تاريخ العالم إنما هي استئناف حركة النهضة والتحرّر والتحديث، التي أعقبت حملة نابليون على مصر وحاولت مرحلة الثورة جعلها أكثر راديكاليّة، ولكن بحسب الشروط والوسائل المتناسبة مع التقدّم الحضاريّ في العالم، ورموزه المؤسّساتيّة هي الجامعة والمصنع والبرلمان. فليس ما أسميته النهضة العربيّة الثانية سوى إمكان حضاريّ عظيم، من شأنه، إذا تحقّق، أن يحفظ للعرب حقهم الفعليّ في الوجود والتطوّر والاسهام الأصيل المسؤول في مصير العالم.

7- هل تعتبرون أن الفلسفة العربيّة استطاعت أن تقدّم إضافة لعموم الفلسفة وكونيتها؟

إذا كان المقصود بهذا السؤال الفلسفة العربيّة في العصور الوسطى، فإني أعتقد، مع كثير من المؤرّخين والفلاسفة، أنها تنطوي على إضافات متعدّدة إلى الفلسفة بمداها الكونيّ، ولم تكن كما قال بعض المستشرقين مجرّد نقل للفلسفة اليونانيّة بأحرف عربيّة. وإذا كان المقصود الفلسفة العربيّة في هذا العصر، فإني أضيف إلى ما قلته في جواب سابق إن البحث في قضايا محض عربيّة، مثل قضيّة التراث أو التأخر التاريخيّ، لا يقصيه الجانب الفلسفيّ المتضمّن فيه عن الكونيّة بكامل أبعادها. ففي هذه الحالة، قد تكون الكونيّة متمثّلة في المنهج، أو في المقارنة مع خصوصيّات أخرى، أو في إظهار ما للخصوصيّة العربيّة من مكانة في إطار نظرة شاملة إلى التاريخ العالميّ للفكر والثقافة. وبعد، لا يجوز أن نترك للآخرين أن يقرّروا وحدهم ما هو كوني أو غير كوني في قضايا الفكر والبحث النظريّ في الإنسان والتاريخ والكون. فالمسألة متعلّقة بنا أيضًا، بحيث يتوجّب علينا الدفاع عن التأليف الفلسفيّ العربيّ المعاصر المتّصف بالكونيّة أمام الآخرين، ومناقشتهم في الأمر، بحسب الأصول، بلا عقدة من أي نوع كانت.

8-هل العلمنة والالحاد هما شرط التبحّر الفلسفيّ، أم لكلّ فهم نظامه المستقل؟ خاصة مع ما يشاع اليوم من نفي الفلسفة أو العلم لكلّ اللاهوت؟

أفترض أن هذا السؤال لا يجمع العلمنة والالحاد على سبيل الترادف. وعليه، فنحن أمام سؤالين حول ما يشترطه التفكير الفلسفيّ حتى يصبح “متبحّرًا”. وبقدر ما أفهم معنى التبحّر، فإني أرى أن الشرط الأساسيّ للتبحّر الفلسفيّ إنما هو استقلاليّة العقل وحرّيته في السؤال والبحث في مبادئ الوجود والمعرفة والعمل. والعلمانيّة هي، بلا شكّ، وضع يحمي استقلاليّة العقل وحرّيته، لأنها تضع كلّ سلطة في نطاقها الخاص، بلا هيمنة من أي واحدة منها على غيرها. للدين نطاقه ووظيفته، وللعقل نطاقه ووظيفته، وللسياسة نطاقها ووظيفتها، والحريّة للجميع على أساس الاحترام المتبادل والتواصل والتعاون لحلّ النزاعات. وهذا مع العلم أن العقل الفلسفيّ لم ينتظر ظهور العلمانيّة وانتصارها حتى ينشط وينتج مذاهب عظيمة لا نزال ندرسها ونستمدّ منها أفكارًا ومواقف وإيحاءات تغني تفكيرنا بوجه أو بآخر. والعلمانيّة نفسها كانت ثمرة من ثمرات ذلك النشاط. وباعتبار أنها ليست مذهبًا ميتافيزيقيًّا، ولا محكمة متعالية، فإنها لا تتدخّل في قضايا الإيمان والالحاد، ولا تعتبر نفسها، في حدّ ذاتها، المرجع الصالح للحكم في النقد المتبادل أو في النزاعات المفتوحة بين الدين والفلسفة والعلم.



لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<