by الشيخ شادي علي | مايو 27, 2025 1:00 م
تُعدّ سيرة الإمام محمد بن علي الجواد (ع)، الإمام التاسع من أئمة أهل البيت (ع)، من أبرز المحطات التاريخية التي شهدت تطورًا فريدًا في الفكر الإمامي الشيعي، لا سيما مع توليه زمام الإمامة في سن مبكرة جدًّا. لم تكن إمامته مجرّد حدث تاريخي عابر، بل كانت ظاهرة استثنائية فرضت نفسها كتحدٍّ عقائدي وفكري وسياسي في عصر اتسم بالصراعات على السلطة والتحريفات العقائدية. يهدف هذا المقال إلى تحليل الأبعاد المتعدّدة لإمامة الإمام الجواد (ع)، متناولًا الجوانب الفلسفية والعرفانية والفقهية التي ميّزت شخصيته وعلمه، ومستعرضًا التحديات التي واجهها في ظل الحكم العباسي، وأخيرًا، تأثير إمامته المبكرة على تطور الفكر الشيعي اللاحق، خاصة في عصور الغيبة.
إن تولّي الإمام الجواد (ع) مهام الإمامة وهو في عمر سبع سنوات يمثّل “نقطة محورية تتطلب تحقيقًا وتدقيقًا عميقين”. هذا الحدث لم يكن له سابقة واضحة في تاريخ الإمامة الشيعية من حيث صغر السن بهذا القدر، مما أثار “إشكالات وتساؤلات” حول قدرة طفل على قيادة الأمة. طرح هذا الإشكال على الإمام الرضا (ع) في حياته، عندما سُئل: “إذا حدث أمر فلمن نرجع؟”، فأجاب: “إلى ولدي محمد أبي جعفر”. وحين استغرب السائلون لصغر سنه – ست سنوات آنذاك – رد الإمام الرضا (ع) بالاستدلال القرآني: “لقد كان عيسى بن مريم حجة وهو في المهد”. كما أشار إلى يحيى (ع) الذي أوتي الحكم صبيًّا. هذه الاستدلالات القرآنية قدّمت أساسًا شرعيًّا لإمكانية إيتاء النبوة أو الإمامة في سن الطفولة، مؤكدة أن “القدرة على الولاية الإلهية لا ترتبط بالضرورة بالنضج العمري”.
من منظور فلسفي وكلامي، يمكن تحليل هذا الجدل. فالعقل، كحكم في تقرير إمكان أو امتناع الشيء المرتبط بالواقع التكويني، “لا يمنع إسناد وممارسة وظائف الإمامة للإنسان الصغير السن”. القاعدة الأساسية في الفكر الفلسفي والكلامي تقول: “إن أية قضية نظرية لا تصطدم مع مستحيل من المستحيلات البديهية هي ممكنة”. وبالتالي، فإن القول بإسناد الإمامة لمن هو صغير السن مع توافر شروطها الأساسية، وهي “العلم والعصمة والكفاءة”، لا يستلزم منه أي محذور عقلي، “إذن هو أمر ممكن”. هذا الطرح تجاوز النظرة التقليدية للعقل التي تربط القيادة بالنضج العمري والتجربة الحياتية المكتسبة، ليؤكد أن “عظمة الإنسان بروحه ونفسه ومواهبه الربانية، لا بجسمه وأيام عمره”.
يُشير الباحثون في مقارنة الأديان إلى حالات مشابهة في الديانات الأخرى تدعم فكرة “الظاهرة الدينية” التي تقع كمقتضى للحكمة الإلهية. فمثلًا، تحدث القرآن الكريم عن حكمة يحيى (ع)، ونبوة عيسى (ع) في المهد، وهو ما يدعم هذا المنظور. يبرز ذلك أن العقل السليم لا يجد مانعًا في أن يكون الإنسان ذا بصيرة وعلم في سن مبكرة إذا كان ذلك بعون وتأييد إلهي.
كانت قدرة الإمام الجواد (ع) على الإجابة عن أعقد المسائل الفقهية والعلمية في سن مبكرة دليلًا ساطعًا على امتلاكه “العلم اللدني”. المناظرة الشهيرة بينه وبين يحيى بن أكثم، قاضي القضاة في الدولة العباسية، تعدّ خير شاهد على ذلك. عندما سأله يحيى: “ما تقول في محرم قتل صيدًا؟”، لم يكتفِ الإمام بإجابة مباشرة، بل طرح سلسلة من الأسئلة التفصيلية التي كشفت عن الأبعاد المتعددة للمسألة الفقهية: “قتله في الحل أم في الحرم؟ قتله بالمباشرة أم بالواسطة؟ قتله متكررًا أم مفردًا؟ قتله في الليل أم في النهار؟ كان من ذوات الطير أم من غيرها؟ كان من صغار الطير أم من كبارها؟ كان من ذوات الظلف أم غيرها؟”. هذه الأسئلة لم تكن مجرد تفريعات فقهية، بل كشفت عن “ظاهرة العلم اللدني للإمام الجواد”.
يشرح النص هذا العلم بأنه “نوع من الوحي”، وتحديدًا “إلهامًا”، يُقذف في قلب الإنسان “معلومة من المعلومات بشكل جازم”، بحيث يشعر بها كأنها “وجدان من وجداناته”. هذا الإلهام لا يقتصر على الأنبياء، بل يمكن أن يشمل غيرهم، ويُضرب لذلك أمثلة من القرآن الكريم كالوحي إلى النحل، وإلى أم موسى (ع). الفرق الجوهري بين العلم اللدني و”النبوغ المبكر” هو أن الأخير “نتاج بشري لثلاث قوى” (الحس، الحدس، الذاكرة)، وهي قوى “مادية”، وبالتالي “ناقصة وفي معرض الخطأ”. أما “الإلهام فهو معلومة صافية جزمية، معلومة صادقة جزمية وليست نتاجًا بشريًّا”، ولذلك “العلم الصادر عن أهل البيت علم لدني وليس صورة من صور النبوغ المبكّر”.
مبادئ العلم اللدني وأثره على الفكر والعرفان: للعلم اللدني ثلاثة مبادئ أساسية:
آثار العلم اللدني.
للعلم اللدني آثار عميقة على شخصية الإمام ودوره:
تحليلات المستشرقين مثل (لويس ماسينيون – Louis Massignon) في أعماله عن التصوف الإسلامي والجنبة الباطنية في الإسلام، و(هنري كوربان – Henry Corbin) الذي ركز على الفلسفة الإشراقية والبعد الروحاني للإمامة في الفكر الشيعي، تُسلط الضوء على هذه الأبعاد العرفانية والفلسفية في شخصية الإمام. يرى (كوربان) أن فكرة الإمام كمركز للفيض الإلهي والمعرفة اللدنية هي جوهر الفكر الشيعي، وأن الإمام يمثل “القطب” الذي تتصل به الأرض بالسماء. هذه الرؤى تتفق مع ما ورد عن العلم اللدني والهداية الأمرية كآثار من آثار هذا العلم، وتؤكد على أن الإمامة ليست مجرد منصب سياسي، بل هي امتداد للنبوة في حفظ الشريعة وهداية الأمة روحيًّا وفكريًّا.
واجه الإمام الجواد (ع) تحدّيات جسيمة، أبرزها “الفرقة الواقفية” التي شكّكت في إمامته وإمامة والده الإمام الرضا (ع). نشأت هذه الفرقة بسبب “الطمع والخيانة” في الأموال التي تراكمت لدى وكلاء الإمام الكاظم (ع). لقد “حرّفوا وزوّروا” الأحاديث لينكروا وفاة الإمام الكاظم (ع) ويدّعوا أنه هو القائم المنتظر. هذا التشكيك تفاقم بسبب “تأخر ولادة الإمام الجواد (ع)”، حيث كان عمر الإمام الرضا (ع) قد تجاوز الأربعين. وقد استغل الواقفية ذلك للادعاء بأن الإمام الرضا (ع) عقيم، “والإمام لا يكون عقيمًا”.
كانت ولادة الإمام الجواد (ع) بمثابة “المولود المبارك” الذي دحض هذه الافتراءات. فبمجرد ولادته، “انهار ما كان يستدل به أولئك المنحرفون”، و”أعادت ولادته (ع) الحياة إلى هيكل الإمامة”. لقد أعلن الإمام الرضا (ع) عن إمامة ولده الجواد (ع) مرارًا وتكرارًا، مؤكّدًا أنه “أعظم بركة على شيعتنا منه”. هذا لا يعني أنه أفضل من الأئمة السابقين، بل أن بركته تكمن في “تكذيب كلام الواقفية وتفنيد أباطيلهم، وإزاحة الشبهات التي آثاروها حول إمامة الإمام الرضا”.
الصراع مع السلطة العباسية: لم يكن المأمون العباسي بعيدًا عن هذه الصراعات، بل كان طرفًا فيها. فرغم محاولاته الظاهرة لتبجيل الإمام الجواد (ع)، إلا أن الهدف الحقيقي كان “لتنفيذ الخطة التي كانت في ذهنه ضدّ الشيعة، وضدّ الإمام الرضا .. بشكل خاص”. إمامة الإمام الجواد (ع) المبكرة كانت “تحدّيًا حقيقيًّا لتقليدية الحكم العباسي”. الخليفة العباسي، الذي كان يعاني من “محنة عدم النضج والتكامل”، كان يواجه “خطرًا حقيقيًّا يطيح بكل مبتنياته”.
المناظرات العلنية التي أقامها المأمون بين الإمام الجواد (ع) وكبار علماء الدولة، مثل يحيى بن أكثم، كانت تهدف إلى إظهار صغر سن الإمام وعدم أهليته، ولكنها جاءت بنتيجة عكسية. فقد أظهرت “تفوق الإمام الجواد (ع) في العلم والفقه”، و”انتصاره عليه”، مما كان له “بركات عظيمة” في “رفع معنويات الشيعة”. هذا الانتصار أثبت أن “الخلافة ليست قضية وراثية نسبية تقليدية، بل هي قضية إلهية لا يمكن تجاوزها”.
تتفق هذه الرؤية مع تحليلات المؤرخين الذين يرون أن المأمون كان يعيش “قلق الاستحقاق الحقيقي” الذي يجده في آل البيت، و”هاجس انتقال السلطة من البيت العباسي إلى البيت العلوي”. لذا، فإن حياة الإمام الجواد (ع) “مثّلت مقطعًا مهمًّا من الصراع بين فلسفتين متناقضتين في الحكم والسياسة والحياة بجميع مفاصلها”. ومع كل هذه الأهمية، يلاحظ النص أن هذا المقطع التاريخي “قد ألغيت فصوله التاريخية، أو اختفى منها الكثير، وصودر الأكثر” بسبب “ندرة النصوص”، و”التعتيم على هذه الفترة التاريخية الحرجة” من قبل المؤرخين.
كان الأئمة الأطهار، ومنهم الإمام الجواد (ع)، “بحرًا زاخرًا في علم الفقه والشريعة” منذ طفولتهم. تجلّى عمق الإمام الجواد (ع) الفقهي في حادثتين بارزتين:
كانت الإمامة المبكرة للإمام الجواد (ع) حدثًا محوريًّا له تداعيات بعيدة المدى على الفكر الشيعي، لا سيّما في تمهيد الطريق لقبول فكرة الغيبة الصغرى والكبرى للإمام المهدي (عج)، والذي تولى الإمامة أيضًا في سن مبكرة جدًّا. يمكن تتبع هذا التأثير في عدة جوانب:
إن سيرة الإمام محمد الجواد (ع) ليست مجرد فصل تاريخي في حياة الأئمة، بل هي منظومة فكرية وعقائدية متكاملة قدّمت دروسًا عميقة حول طبيعة الإمامة الإلهية، والعلم اللدني، ودور القيادة الروحية في مواجهة التحديات السياسية والعقائدية. لقد كانت إمامته المبكرة بمثابة “تحدٍّ حقيقي” للعقل البشري المعتاد على ربط القيادة بالنضج العمري، وأثبتت بالبرهان العملي أن الاصطفاء الإلهي يتجاوز كل هذه الحسابات. كما أن تأثير إمامته امتد لقرون لاحقة، ممهّدًا لقبول فكرة الغيبة الكبرى للإمام المهدي (عج)، وترسيخ مفاهيم مركزية في الفكر الشيعي كالاعتماد على العلم اللدني، والولاية المطلقة للإمام، وضرورة الثبات على الحق في مواجهة الشبهات والتحريفات. إن إهمال المؤرخين أو تعتيم السلطات على تفاصيل حياته “المثيرة” لم يقلّل من أهميتها، بل دفع الباحثين المعاصرين إلى الغوص أعمق في أبعادها، مستفيدين من مناهج الفلسفة والعرفان والفقه المقارن، لإعادة صياغة قراءة شاملة لهذه الشخصية العظيمة التي كانت منارة للعلم والهداية في مهد التحدي.
المصادر والمراجع:
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
Source URL: https://maarefhekmiya.org/imamjawad/
Copyright ©2025 معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية unless otherwise noted.