مقاربة الوجود في الحكمة المتعالية وفق صياغة عرفانية

مقاربة الوجود في الحكمة المتعالية وفق صياغة عرفانية

إنّ مسألة أصالة الوجود واعتبارية الماهية، وتحقيق وحدة الوجود بشكل تام، تمثّل روح وأساس الأبحاث الإلهية، ويتوقّف عليها حل الكثير من الغوامض الفلسفية والميتافيزيقية.

لم يُكشف النقاب عن هذا الأصل الفلسفي المهم قبل صدر المتألهين، رغم أنّ الشيخ الرئيس ونصير الدين الطوسي وآخرين من أتباع المدرسة المشائية ذهبوا إلى القول بأصالة الوجود، إلاّ أنّ هناك الكثير من الآثار السلبية للإيمان بالتباين في الوجودات لابست كلماتهم وأبحاثهم. ومن ثم، فهُم لا يختلفون عمليًّا عن القائلين بأصالة الماهية. ومن هنا، وقعوا في أخطاء كبيرة في كثير من الأبحاث العقلية التي تناولوها، وقد أشار صدر المتألهين إلى هذه الأخطاء في مواضع كثيرة من كتبه المفصّلة.

ذهب صدر المتألهين – كما ذكر هو في بداية أبحاث الوجود من كتابه الأسفار – في مرحلة تتلمذه في بداية نبوغه الفكري إلى القول بأصالة الماهية، وهو بذلك تابع لأستاذه الجليل السيّد المحقّق الداماد، إلّا أنّه تراجع عن هذا المذهب فيما بعد، واختار القول بأصالة الوجود.

لم تطرح مسألة أصالة الوجود أو الماهية قبل شيخ الإشراق (549 – 587هـ) في الكتب العلمية، بحيث يقيم كل طرف من القائلين بأصالة الوجود أو أصالة الماهية أدلتهم لإثبات نظريتهم.

المحققّون من الحكماء كابن سينا والفارابي وبهمنيار وأبي العباس لوكري وآخرين من أتباع المشّاء ذهبوا إلى القول بأصالة الوجود. ومن الراسخين في الفلسفة شيخ الإشراق والميرداماد اختارا القول بأصالة الماهية. وقد سجّلا براهين متعدّدةً لإثبات ادّعائهما، وقد ناقش صدر المتألهين هذه البراهين واعترض عليها في كتبه الأسفار والمشاعر والشواهد الربوبية. وقد أعطى شيخ الإشراق لبراهينه وجهةً علميةً أضحى الجواب معها على اعتراضاته على القول بأصالة الوجود أمرًا عسيرًا جدًا.

قال صدر المتألهين:

“إنّ للقائلين باعتبارية الوجود، وكونه من المعقولات الثانية، والاعتبارات الذهنية، حججًا قويةً، سيّما ما ذكره الشيخ الإشراقي في حكمة الإشراق، والتلويحات، والمطارحات؛ فإنّه عسير الدفع دقيق المسلك”.

هناك كما ذكرنا اثنان فقط من محقّقي الفلاسفة ذهبا إلى القول بأصالة الماهية، وهما شيخ الإشراق والسيّد الداماد. وقد كان السيّد الداماد أشد تصلّبًا من شيخ الإشراق في مذهبه؛ حيث إنّ شيخ الإشراق صرّح في أواخر كتاب التلويحات بأنّ النفوس الإنسانية والعقول المجرّدة القدسية وجودات بسيطة بلا ماهية، وكأنّ شيخ الإشراق تظاهر بالقول بأصالة الماهية معارضةً لحكماء المشّاء، ونتيجة عدم اقتناعه بصحة أدلّة أصالة الوجود، لكن السيّد عمّم القول بأصالة الماهية على كل الموجودات سوى الحق تعالى الذي هو وجود صرف.

مفهوم أصالة الوجود

مسألة أصالة الوجود من المسائل الغامضة في الفلسفة، وعلى أساسها تعالج مشكلات كثيرة من أسس الفلسفة. وقد طرح الخلاف بين أهل الفن في هذه المسألة على نحوين:

  1. هل أنّ لمفهوم الوجود، مع قطع النظر عن إعمال العقل وتحليل الذهن، مصداقًا؟ أم ليس له مصداق؟

ذهب المتكلّمون إلى أنّ الماهية أصيلة في كل الموجودات، وأنّ الوجود ينتزع من الماهيات بإعمال العقل وتحليل الذهن. وقالوا إنّ العقل عبر تحليل دقيق ينتزع مفهوم الوجود من الماهيات في وعاء الذهن، وليس للوجود فرد ومصداق سوى الحصص الذهنية المضافة للماهيات، وإضافة الوجود إلى الماهية أمر ذهني خالص.

  1. بعد الإذعان بأنّ الوجود ليس مجرّد اعتبار ذهني وعقلي، بل إنّ مفهوم الوجود ينتزع دون إعمال العقل من الماهية الخارجية، يطرح الاستفهام التالي: هل لمفهوم الوجود مصداق وفرد بالذات، أم أنّ الوجود أمر انتزاعي، وفرده – الذي هو مصداقه بالذات – هو الماهية؟

الأصالة – في محل النزاع – تعني: التحقّق ومنشئية الأثر.

فالقائل بأصالة الوجود يرى أنّ الجاعلية والمجعولية، الشدّة والضعف، التقدّم والتأخّر، وكل ما هو خارج ذات الماهية من حيث هي هي فهو في الحقيقة وجود، ولا يرى واقعيةً وحقيقةً للماهية، ولا تتعدّى الماهية لديه سوى أنّها حد للوجود. أمّا القائل بأصالة الماهية فهو يخص الواقعية بالماهية، ولا يرى للوجود واقعًا وتحقّقًا.

ذهب صدر المتألهين إلى أنّ الفائض عن الحق، والصادر عن المبدإ هو الوجودات الخاصّة، وأكّد أنّ هناك أفرادًا حقيقيةً لمفهوم الوجود الانتزاعي. قال:

“فصل في أنّ للوجود حقيقة عينية: لمّا كانت حقيقة كل شيء هي خصوصية وجوده التي يثبت له، فالوجود أولى من ذلك الشيء – بل من كل شيء – بأن يكون ذا حقيقة، كما أنّ البياض أولى بكونه أبيض ممّا ليس ببياض ويعرض له البياض. فالوجود بذاته موجود، وسائر الأشياء غير الوجود ليست بذاتها موجود”.

إثبات أصالة الوجود

طرح صدر المتألهين براهين كثيرةً من زاوية التحقّق والجعل لإثبات أصالة الوجود. وقد دوّن كل هذه البراهين في كتاب المشاعر. وقد ذكرنا تلك البراهين بنحو تفصيلي في كتابنا الوجود في ضوء الفلسفة والعرفان. أمّا هنا، فنحاول – على نحو الاختصار – إثبات أصالة الوجود وفقًا لكلمات الشيرازي، ثم نأتي على إثبات وحدة أصل حقيقة الوجود، وتوحيد الخواص، وأخص الخواص.

المفاهيم والماهيات – الكليات الطبيعية – تتوفّر على التحقّق والتعيّن حينما يتحقّق لها فرد بالذات – بالحمل الشائع الصناعي -، فنفس الماهية والمفهوم دون تحقّق خارجي وبلا ملاحظة الخارج لا تكون منشأ أثر وحكم، وإنّما تكون الماهية منشأ أثر حينما تتحقّق في الخارج، ويكون لها فرد بالذات. وما هو مبدأ للأثر لا يمكن أن يكون من سنخ الماهيات، إذ لو كان الأثر مترتّبًا على نفس الماهية – بلا لحاظ أمر أو سنخ – يلزم أن تكون الماهية مبدأً للأثر في كل موطن تتحقّق فيه، وعلى هذا المقياس يلزم أن يكون مبدأ الأثر أمرًا من غير سنخ الماهية، والأمر الذي هو من غير سنخ الماهية الوجود أو العدم.

على هذا الأساس، يلزم أن يتحقّق لمفهوم الوجود المصدري فرد بالذات، حيث تضحي الماهية مبدأ أثر بفضل التجائها واتحادها بتلك الحقيقة. إذًا، يلزم أن يكون الوجود موجودًا بالذات، وتكون الماهية موجودةً بالعرض، أي إنّ التعيّن والتشخّص للحقائق الوجودية أمر ذاتي، وللمفاهيم الكلية أمر عرضي.

إيضاح وتحقيق: إنّ ذات الماهية بما هي هي لا تتوفّر على حقيقة في مرتبة الذات والجوهر سوى ذاتياتها وأجزاء ذاتها، ومثل هذه الحقيقة عارية في مرتبة الذات عن جميع أنحاء التعيّن والتشخّص التي هي من خصوصيات الخارج. وجميع أنحاء التشخّص نظير العلية والمعلولية، التقدّم والتأخّر، الموجودية، الوحدة والكثرة، مسلوبة بالسلب البسيط التحصيلي عن ذات الماهية، وما يرتبط بالخارج من جهات وجودية أو ما يناقضها خارجة عن مرتبة التقرّر الماهوي والثبوت المفهومي. مثل هذه الحقيقة تحتاج للاتصاف بالصفات المتقدّمة إلى أمر غير مسانخ لذاتها، وهذا الأمر إمّا أن يكون الوجود أو العدم. إذًا، فالماهية لكي تتحقّق تحتاج إلى حقيقة الوجود، وحقيقة الوجود متشخّصة بنفس ذاتها.

وبعبارة أخرى، إنّ الماهية بحسب نفس الذات لا تناقض العدم، وما لا يناقض العدم باعتبار الذات يحتاج لطرد العدم والظهور الخارجي إلى أمر يناقض العدم بالذات، وما يناقض العدم بالذات هو عين الوجود.

تحقيق: الماهية – التي اختلف الحكماء في أصالتها وعدم أصالتها – هي عين الطبيعة والمفهوم الذي يعبّر عنه بالكلي الطبيعي، وهذا المفهوم تعرض عليه الكلية في الذهن والجزئية في الخارج. وهو فاقد في صميم ذاته وجوهره حقيقة الاشتراك وعدم الاشتراك بين كثيرين، وإذا أريد للماهية أن تصدق على المتكثّرات وتنطبق على المتشخّصات فعندئذ نحتاج إلى حقيقة غير ذات الماهية، حيث إنّ ضم مفهوم كلي إلى مفهوم كلي ليس ملاكًا للصدق على الخارج، ولا يقتضي الجزئية، وليس علةً للتشخّص، ولا تتشخّص أي طبيعة كلية بذاتها.

ويمكن القول: إنّ الماهية لا يمكن أن تكون بالذات مصداقًا لحمل الوجود، كما لا يمكن أن تكون مصداقًا لحمل ماهية أخرى أيضًا، ذلك؛ لأنّ الماهية غير متوفّرة على شيء سوى ذاتها وذاتياتها، ومن هنا تحتاج إلى أمر خارج عن ذاتها في مقام المصداقية للمفاهيم الثبوتية، وحيث إنّ المفاهيم الثبوتية بما هي ثبوتية لا تنتزع من الجهات العدمية، وإنّ المفاهيم العدمية من حيث كونها جهات عدمية لا تنتزع من الجهات الثبوتية، يلزم – على هذا الأساس – أن تكون الماهية توأمًا لأمر خارج عن ذاتها وغير مسانخ لها، أن تكون مصداقًا للجهات الثبوتية، بل حتى لوازم الماهية – كالإمكان لنفس الطبيعة، والزوجية لكون العدد أربعة – لا تثبت للماهية بدون اعتبار الوجود.

وفي ضوء التحقيق، يمكن القول: إنّ كل ماهية تحتاج إلى الوجود في التوفّر على ذاتياتها، وما دام الوجود غير متحقّق، فالثبوت والتقرّر الماهوي – الذي يلحظ إزاء نحو من أنحاء الوجود – لا يتحقّق.

إنّ حمل الحد على المحدود – كحمل الحيوان والناطق على الإنسان – لا بد أن يرجع إلى أمر غير ذات الماهية، فظهور نور الوجود، وسريان الوجود الجامع للأجزاء الذهنية للماهية يتم في الذهن. أمّا ظهور وسريان الوجود الجامع للأجزاء الخارجية للماهية فيتم في الخارج. من هنا، فصدق الحد على المحدود في الذاتيات، وصدق المفاهيم العرضية في العرضيات، وصدق الانتزاعيات على الماهيات دليل تام على أصالة الوجود واعتبارية الماهية.

وهذا اللون من التمحيص والاستدلال طرحه صدر المتألهين القائل بأصالة الوجود، ولم يُرَ هذا اللون من التحقيق قبل صدر المتألهين، بل هو ممّا اختص به.

بطلان الماهية: الماهية – في ضوء مذهب التحقيق – عبارة عن مفهوم كلي حاكٍ عن وجود محدود، عارٍ في مقام الذات عن جميع التعيّنات والتشخّصات، والماهية لفرط إبهامها وعدم تحصّلها ليس لها ظهور مفهومي أيضًا بدون نور الوجود وإشراقه. بل الماهيات والأعيان الثابتة – في ضوء التحقيق – وجودات خاصة علمية ظهرت بفضل تجلّي الحق، والوجود يتحقّق في كل موطن بظهور خاص؛ لذا قال أهل التوحيد: “الماهيات كلها وجودات خاصة علمية”.

وبصدد بيان المفهوم المتقدّم، قال صدر الحكماء:

“وما يقال: إنّا نتصوّر الماهية مع الذهول عن وجودها، إنّما هو بالنسبة إلى الوجود الخارجي؛ إذ لو نذهل عن وجودها الذهني لم يكن في الذهن شيء أصلًا، ولو سلّم ذهولنا عن وجودها الذهني مع عدم الذهول عنها، لا يلزم أيضًا أنّها تكون غير الوجود مطلقًا؛ لجواز أن يكون الماهية وجودًا خاصًا يعرض لها الوجود في الذهن بوجه وهو كونها في الذهن، كما يعرض لها في الخارج وهو كونها في الخارج”.

في ضوء هذا الأساس، لا يبقى للماهية أي واقع، وما يتصوّر بوصفه ماهيةً إنما هو نحو من الوجود الخاص. وقد جاء في تتمّة النص المتقدّم في الأسفار:

“فالحق – كما ذهبنا إليه وفاقًا للمحققّين من أهل الله – أنّ الماهيات وجودات خاصة علمية، وبقدر ظهور نور الوجود بكمالاته تظهر تلك الماهيات ولوازمها تارةً في الذهن وأخرى في الخارج، وقوة ذلك الظهور وضعفه بحسب القرب من الحق والبعد عنه، وقلّة الوسائط وكثرتها، وصفاء الاستعداد وكدره، فيظهر للبعض جميع الكمالات اللازمة للوجود بما هو وجود، وللبعض دون ذلك. وصور تلك الماهيات في أذهاننا هي ظلالات تلك الصور الوجودية الفائضة من الحق على سبيل الإبداع الأولي، الحاصلة فينا بطريق الانعكاس”.

في ضوء مشرب التحقيق، تضحى الماهية فانيةً في جميع المراحل الوجودية في الوجود، ولا تلحظ بوصفها متحقّقةً فيه، بل هي صرف وهم ومحض تخيّل، وما يتصوّر عن مفهوم الخارجية والواقعية إنّما هو من نصيب أصل حقيقة الوجود وشؤونه الذاتية.

تفسير التمايز الحاصل في الوجود

  1. ذهب فلاسفة المشّاء إلى أنّ الوجود أمر أصيل والماهية من الأمور الاعتبارية. وعلى أساس نظرية أصالة الوجود ذهبت هذه الجماعة من الحكماء – قدّست أسرارهم – إلى أنّ العلية والمعلولية تقع في أنحاء الوجودات. وحيث إنّ المساواة في المرتبة والرتبة الوجودية يتنافى مع العلية والمعلولية، فمن المحتّم أن يحد كل معلول بحد، وهو ما أطلقوا عليه بما يقال في جواب ما هو، والماهية.

في ضوء هذا الاتجاه، يكون كل ممكن مركّبًا من جهتين: جهة وجودية صادرة عن الحق، وجهة ماهوية تلازم كل وجود خاص.

قال الشيخ الرئيس في إلهيات الشفاء:

“والذي يجب وجوده بغيره دائمًا إن كان فهو غير بسيط الحقيقة، لأنّ الذي له باعتبار ذاته غير الذي له باعتبار غيره، وهو حاصل الهوية منهما جميعًا في الوجود، ولذلك لا شيء غير الواجب عري من ملابسة ما بالقوة، فهو الفرد وغيره زوج تركيبي”.

ذهب فلاسفة المشاء إلى أنّ الوجودات حقائق متباينة بتمام الذات، حيث إنّ التمايز بين شيئين لدى المشّائين إمّا أن يكون بتمام الذات، كتمايز الأجناس العالية عن بعضها، فليست هناك جهة اشتراك ذاتي بيّن بين الأجناس العالية، وكل مقولة متميّزة عن الأخرى بتمام الذات، والمفهوم عرض من الأعراض العامة والمعقولات الثانية، والاشتراك في العرض العام لا يستلزم التركيب؛ وإمّا أن يكون التمايز ببعض الذات والجزء الداخل في الذات، كتمايز الأنواع المشتركة في الجنس الواحد؛ وإمّا أن يكون التمايز بأمور لاحقة وخارجة عن حقيقة الذات، مثل تمايز أفراد النوع الواحد التي تشترك في الذاتيات وتتمايز بالأمور العرضية.

وحيث إنّ المشّائين أثبتوا ببراهين متعدّدة بساطة الوجود، ولم يؤمنوا بأنّ حقيقة الوجود من سنخ الماهيات، والتمايز يجري في الماهيات، اضطروا إلى القول بأنّ التمايز بين وجود العلة والمعلول يكمن بنفس الحقيقة والذات.

  1. أمّا الحكماء الإشراقيون الذين يسوّغون التشكيك في أفراد الطبيعة والحقيقة الواحدة، فقد طرحوا صورةً أخرى للتمايز، وهي عبارة عن كون ما به الاشتراك وما به الامتياز من سنخ حقيقة واحدة، وعساه أن يكون ذا عرض عريض، متطاول الدرجات. وهذا اللون من التمايز هو عين التشكيك الخاصّي الذي اختاره صدر المتألهين في موارد كثيرة، غاية ما في الأمر أنّ صدر المتألهين ذهب إلى أنّ التشكيك بالذات في الوجود، وبالعرض في الماهيات. وقد رأى في الأسفار جواز التشكيك في الذاتيات بعد نقل أدلة الشيخ الرئيس على عدم جواز التشكيك في الذات، لكنه ذهب في الشواهد الربوبية إلى انحصار التشكيك في سنخ الوجود؛ حيث إنّ الماهية كما هي بحاجة إلى حيثية تقييدية في الموجودات، فهي بحاجة أيضًا إليها في مقام الاتصاف بالشؤون الوجودية.

إنّ جميع المراتب الوجودية متصلة ببعضها، ويتميّز الوجود العالي عن الداني بالنقص والكمال، والشدّة والضعف. فجهة الاشتراك هي حقيقة الوجود، وجهة الامتياز تكمن في نفس تلك الحقيقة أيضًا. والشدّة ليست مقوّمًا لأصل الوجود، والضعف غير قادح في صدق مفهوم الوجود على الوجود الضعيف، أي إنّ أصل حقيقة الوجود ذات مراتب، وهذه المراتب ظهرت للعيان من أصل واحد، ومرتبة الوجود العليا التي لا تتناهى من حيث الشدّة والعدّة والمدّة هي الحق، والمعلولات الإمكانية مراتب تابعة لهذا الأصل.

أنكر الفارابي والشيخ الرئيس وسائر حكماء المشّاء المثل النورية والمجرّدات البرزخية، وذلك على أساس بطلان التشكيك الخاصّي، وأنّ الحقيقة الواحدة لا يمكن أن يكون لها عرض عريض، وأن يكون بين أفرادها ضعف وشدّة. نظير الإشكال الذي سجّله بعض القاصرين على أصالة الوجود، فقالوا: إذا كان الوجود أصيلًا وذا مراتب، وحيث إنّه حقيقة واحدة، يلزم أن يجب جميع أفراده إذا اقتضى الوجوب، ويلزم أن يكون جميع أفراده معلولات إذا اقتضى المعلولية، لاستحالة تفاوت أفراد المعنى الواحد بحسب الحقيقة بالذات.

وكل هذه الاعتراضات نشأت جرّاء الخلط بين أحكام الحقائق المتواطئة وأحكام الحقيقة المشكّكة، والإشكال المتقدّم وارد بالنسبة للماهيات المتواطئة، ولا يرد بالنسبة للحقيقة المشكّكة، بل هو في موردها مصادرة على المطلوب.

أولى صدر المتألهين أهميةً كبيرةً لأفكار شيخ الإشراق الذي تركت فلسفته أثرًا كبيرًا على صدر المتألهين رغم أنّ الأخير أعمق وأرسخ في ميدان فلسفة الإشراق نفسها.

  1. هناك قسم آخر للتمايز في الوجود باعتبار المظاهر واختلاف الاستعدادات في الأعيان الثابتة، وهو مصطلح العرفاء. فالوجود – لدى العرفاء – رغم أنّه بحسب الأصل واحد شخصي، وفي مرتبة الذات عارٍ عن جميع القيود من ناحية الإطلاق الذاتي، إلّا أنّه يتكثّر ويتعدّد باعتبار الظهور في الآفاق والمظاهر المختلفة، وعلى أساس هذا الاتجاه لا يتصوّر تميّز الوجود الواحد الشخصي باعتبار المراتب، ويضحى تميّزه وجريان التشكيك فيه باعتبار الظهورات والمظاهر المختلفة.

التلازم بين أصالة الوجود ووحدة الوجود

في ضوء الآية الوافية بالهداية ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ﴾، وفي ضوء مقولة الحكماء – قدّس الله أسرارهم – “كل فاعل ففعله مثل طبيعته”؛ فإنّ أتم أنحاء التناسب والسنخية هو الارتباط والسنخية العلية والمعلولية، ولو لم تكن هناك سنخية بين الجاعل بالذات والمجعول بالذات يلزم صدور كل شيء عن كل شيء. وهذا التناسب التام بين العلة بالذات والمعلول بالذات موجود.

المراد من العلة بالذات والفاعل التام باصطلاح أهل المعرفة عبارة عن الموجود الذي يكون صميم ذاته مبدءًا لصدور معلوله، والمعلول بالذات الموجود الذي تكون تبعيّته للغير في تخوم ذاته ونفس حقيقته، وليس له واقع وراء ارتباطه وقيامه بالغير. ولو كانت السنخية الموجودة بين العلة ومعلولها موجودة بعينها في غير ذلك المعلول، فسوف يضحى صدور ذلك المعلول دون غيره من المعاليل ترجيح بلا مرجّح.

إنّ لكل معلول قبل وجوده الخاص تحقّقًا في علته، ولكن بنحو أعلى وأتم من الوجود. وهذا التحقّق في العلة نفسه مبدأ صدور المعلول، وبدون هذا التحقّق سوف لا يكون للمعلول وجود. وقد أطلق على هذا التعيّن في وجود العلة – لدى أهل الحكمة – الوجوب السابق على وجود المعلول، فالمعلول هو هبوط عين ذلك التعيّن والوجوب السابق، الذي هو عين وجود العلة. وعليك بتأمّل هذه الفكرة جيدًا؛ فإنّها من غوامض مسائل الحكمة.

المحصّلة، يلزم أن تتوفّر العلة على جهة الاقتضاء التام حيث يتعيّن وجود المعلول بتلك الجهة؛ ولهذا قالوا: إذا كانت العلة واجبًا بالذات وبسيطًا من جميع الجهات، وبما أنّ علة العلية ذاته، فسوف لا يصدر عن ذلك المبدأ أكثر من وجود واحد؛ لأنّ لازم الإثنينية تعدّد الجهة وتعيّنها في وجود العلة، بينما افترضنا أنّ العلة بسيط من جميع الجهات.

ولا يمكن أن يكون أول الصادرين موجودًا بوحدة عددية، بل يلزم أن يكون جامعًا لجميع النشآت والفعليات، وأن يكون بوحدته كل الأشياء، ومثل هذا الموجود لدى الحكماء هو العقل الأول، وهو الوجود المنبسط حسب اعتقاد العرفاء الشامخين. وقد جمع صدر المتألهين بين هذين المذهبين.

ولا سنخية بين العلة والمعلول إلّا إذا تعيّن المعلول في العلة قبل تنزّله ووجوده الخاص، وجوده عين الربط ومحض الفقر بالنسبة إلى علته التامة. وعلى هذا الأساس قالوا: المعلول حد ناقص للعلة، والعلة حد تام للمعلول. وقالوا: ذوات الأسباب لا تعرف إلا بأسبابها، وقد امتلأت أرجاء القرآن الكريم والسنة الشريفة بهذه القيمة. على أن نشير هنا إلى أنّ المعلول – وفقًا للاتجاه المشّائي واتجاه القائلين بأصالة الماهية – سوف لا يكون حاكيًا عن وجود العلة، وسوف لا تجمع العلة كمالات المعلول، كما لا يلزم من العلم بالعلة العلم بالمعلول. وهو من النتائج الفاسدة التي تلزم القبول بالتباين، والتي يستدعي سردها استطرادًا لا تتحمّله دراستنا.

وللسنخية بين العلة والمعلول شكلان متصوّران:

  1. السنخية التوليدية، كالسنخية بين الماء القليل والماء الكثير، وفي هذا الصنف من العلل يوجب انضمام المعلول للعلة زيادةً في العلة، وانفصاله يوجب نقصانًا. وهذا النحو من السنخية ينفي المحقّقون قيامه بين الحق تعالى والأشياء، بل بين كل علة مفيضة لوجود المعلول ومعلولها.
  2. السنخية بين الصورة والمصوِّر، والفرع والأصل، والحقيقة والرقيقة، والشيء والفيء، ولا يقتضي الانضمام زيادةً أو نقصًا في العلة في هذا الصنف من السنخية، بل الانضمام بالذات محال، بل ترجع هذه السنخية إلى التباين “ولا تزيده كثرة العطاء إلاّ جودًا وكرمًا”.

في ضوء ما تقدّم، يتضح أنّ لحقيقة الوجود درجات ومراتب ونشآت مختلفة. ومبدأ الوجود لفرط تحصّله محيط بكل الفعليات والنشآت، وكلّما اقتربت أية درجة من الوجود إلى الحق تعالى فهي أتم، وكلّما ابتعدت ازداد امتزاجها واختلاطها بالأعدام، ومحصّلة هذا القول عين التشكيك في حقيقة الوجود.

صدر الدين الشيرازي كما ذكرنا تبنّى هذا الاتجاه في مواضع كثيرة من دراساته، لكنّه لم يكتف بهذا الاختيار، ففي المواقع التي تسْكِره نسمات التوحيد، وحين يغرق في البوارق الإلهية والعنايات الخاصة الربانية، يتابع اتجاهًا آخر أدق وأكمل من الاتجاه المتقدّم.

قال في المشاعر:

“فكل وجود سوى الواحد الحق لمعة من لمعات ذاته، ووجه من وجوهه، وإنّ لجميع الموجودات أصلًا واحدًا هو محقّق الأشياء، فهو الأصل والباقي ظهوراته، وهو الأول والآخر والظاهر والباطن، وفي الأدعية المأثورة: يا هو، يا من هو، يا من لا هو إلّا هو، يا من لا يعلم أين هو إلّا هو”.

وقال في موضع آخر:

“وما وضعناه أولًا بحسب النظر الجليل من أنّ في الوجود علة ومعلولًا، أدّى بنا أخيرًا – وهو نمط آخر من جهة السلوك العلمي والنسك العقلي – إلى أنّ المسمّى بالعلة هو الأصل، والمعلولات شأن من شؤونه وطور من أطواره، ورجعت العلية والإضافة إلى تطوّر المبدأ الأول بأطواره، وتجلّيه بأنواع ظهور”.

وحدة الوجود التشكيكية

محصّلة اتجاه الحكماء الفهلويين هي: أنّ للوجود مراتب مختلفة مقولة بالتشكيك، والمراتب الوجودية من العقل الأول حتّى الهيولى الأولى متصلة بعضها ببعض، ويكمن الفرق بين هذه المراتب بالشدّة والضعف. ولهذه الحقيقة مرتبة واحدة، وهي عبارة عن حقيقة الوجود بشرط لا، العارية عن جميع التعيّنات الماهوية، وهذه المرتبة من الوجود بسيطة صرف، وتامّة، وفوق التمام. ولا ينحصر مصداق الوجود بهذه المرتبة، بل الموجودات طرًا من العقول الطولية والعرضية، والنفوس الناطقة، والوجودات البرزخية على اختلاف مراتبها معلولات الحق، وبما أنّ الفرق بين المراتب بالشدّة والضعف، فجميع هذه المراتب من سنخ واحد.

صرّح أصحاب هذا الاتجاه بأنّ وحدة حقيقة الوجود وحدة إطلاقية، والوحدة الإطلاقية تساوق الوحدة الشخصية.

وقالوا: بما أنّ الكثرة في المراتب الطولية من مقتضيات أصل الحقيقة، فهي ترجع إلى أصل واحد؛ ولذا لا تقدح مثل هذه الكثرة في وحدة أصل حقيقة الوجود.

وقالوا: رغم أنّ أصل حقيقة الوجود ذات وحدة إطلاقية، والوحدة الإطلاقية تساوق الوحدة الشخصية، فإن مرتبة واحدة من هذه الحقيقة واجبة، وباقي المراتب محدودة بحدود ماهوية. وهي تتمثّل في سلاسل الممكنات والإنّيات الجائزة.

وحيث إنّهم قالوا إنّ أصل الحقيقة واحد، وأنّ مرتبةً واحدةً من هذا الأصل واجب وباقي المراتب ممكنات، فمن المحتّم أن يكون أصل حقيقة الوجود ذا درجات متطاولة وذا عرض عريض، مرتبة واحدة منه واجب، وباقي المراتب ممكنات وذوات جائزة. ومعه لا بد أن يكون أصل حقيقة الوجود أوسع من الحق ومحيط به. ومرجع هذا التحقيق قول العرفاء الذين ذهبوا إلى أنّ مقام وجوب الوجود الذي هو مقام الأحدية تعيّن من تعيّنات أصل الحقيقة، وحيث إنّ وحدته وحدة إطلاقية، فالظهور في المتكثّرات والتجلّيات المتنوّعة لا تضر بوحدة ذاته التي لا تأبى الاجتماع بالمتكثّرات.

كما هو الحال في النفس الناطقة الإنسانية، فرغم كونها واحدًا شخصيًا فلها ظهور في المراتب المتكثّرة، فهي عاقلة مع العاقلة، ومتخيّلة مع المتخيّلة، وواهمة مع الواهمة.. وهكذا مع سائر القوى المجرّدة والمادية. فالقوى المربوطة بالغيب والقوى المربوطة بالشهادة متحدة وموجودة، وكل هذه القوى من شؤون النفس الناطقة، وكل المراتب في سلك وجود واحد. ولا يضر بصرافة الذات وبساطة حقيقة النفس وجود مقام التغذية والتنمية وسائر القوى الطبيعية واتحاد النفس بها.

ولأجل إيضاح الفكرة هنا، أكرّر ما كتبته في الحاشية على المظاهر الإلهية لصدر الدين الشيرازي: إنّ الوجود باعتبار نفس ذاته لا يكون من سنخ الماهيات الجوهرية والعرضية، ولا يتصف بالإمكان، ونفس ذاته بذاته طارد للعدم ومناقض له. والتعيّنات الجوهرية والعرضية خارجة عن حيطة أصل حقيقة الوجود، وعارضة عليها بنحو خاص من العروض.

ولمّا كان الوجود – من حيث هو – عاريًا عن الاتصاف بالماهية، يكون واجبًا بذاته من دون لحاظ أمر وَجِهة. وهو بذاته يقتضي الصرافة وينفي الغيرية، وباعتبار ظهوره في مراتب الأكوان، وتجلّيه في الذهن والعين تنبعث منه الماهيات. وهو بنفسه جامع للأسماء الحسنى والصفات العليا، ومنه تظهر المفاهيم والأعيان الثابتة. وهو الذي يظهر في كل شيء، ووسع كل شيء علمًا وقدرةً، وهو أظهر من كل ظاهر.

ويظهر ممّا ذكرنا أنّ الحق الأول عند العقل أظهر من كل ظاهر؛ لأنّ ظهور كل شيء منه. وإذا نظرت إلى الموجودات بعين الجمع وجدت التوحيد يصاحبها ولا يفارقها. عن علي عليه السلام: “ظاهر في غيب، وغائب في ظهور. ظهر فبطن، بطن فعلن”. وقال أيضًا: “اعرفوا الله بالله”.

وحدة الوجود العرفانية

هناك خلاف بين العرفاء الكاملين حول أنّ وجود الحق – تعالى – وهوية واجب الوجود هل هي لا بشرط، أم أنّها الوجود بشرط لا، وهو ما أطلقوا عليه مرتبة الغيب الأول، والتعيّن الأول، والأحدية؟

الذاهبون إلى الرأي الأول يرون حقيقة الوجود أوسع من مرتبة الأحدية، ويرون أنّ مرتبة “بشرط لا” هي أول تجلٍّ للحق. وقالوا: إنّ أول تعيّن يعرض حقيقة الوجود هو ذلك التعيّن.

نعم هاتان الفئتان من أهل التوحيد ذهبوا جميعًا إلى أنّ الحق منزّه من الحدوث، وجهات التركيب، والتعيّنات الإمكانية. وذهبوا إلى أنّ تجلّي الحق وجود منبسط، وحق مخلوق به، وهو مشيئة فعلية ورحمة واسعة. وأنّ إحاطة ذات الحق بالأشياء إحاطة قيّومية، وإحاطة الوجود المنبسط إحاطة سريانية. وقالوا: إنّ حقيقة الحق تعالى مع كل جهاته الربوبية ليست خارجةً عن الأشياء؛ وإلّا يلزم تحديد وجود الحق وتقييده بمقام خاص، وهذا اللازم يتنافى مع التوحيد الوجودي، ولم يروا الحق مع كل جهاته الربوبية داخلًا في الأشياء؛ لأنّ لازم ذلك الحدوث، والتجدّد، والتشبيه، وعدم التنزيه؛ ولذا قالوا:

وإن قلت بالتنزيه كنت مقيِّدًا      وإن قلت بالتشبيه كنت محدِّدا

وإن قلت بالأمرين كنت مسدَّدًا   وكنت إمامًا في المعارف سيّدا

وإياك والتشبيه إن كنت ثانيًا       وإياك والتنزيه إن كنت مفـرِدا

بعد أن اتضحت الفكرة المتقدّمة، نقول: إنّ الحيثية على قسمين: حيثية تقييدية وحيثية تعليلية. الحيثية التقييدية عبارة عن الحيثية التي تُكثّر ذات الموضوع، أمّا الحيثية التعليلية فهي بمثابة أمر خارج عن ذات الموضوع. وعلى أساس أصالة الوجود تكون الماهية أمرًا اعتباريًا موجودًا تبع الوجود، والماهية في مقام الموجودية ذات حيثية تقييدية، وليست موجودة بالذات. ووصف الماهية بالوجود وصف بالعرض، ووصف الوجود بالوجود وصف بالذات، والفرد بالذات للماهية وجود خاص توأم الماهية. وتتحقّق الماهية بواسطة اللجوء والاتحاد والفناء بذلك الوجود، ومثل هذا التحقّق نطلق عليه التحقّق بالعرض (بالمجاز).

الحيثية التعليلية أمر خارج عن ذات الموضوع، ومبدأ لتحقّـق الموضوع أو تحقّـق صفة للموضوع. والوجودات الإمكانية جميعًا ذات حيثية تعليلية، وتحتاج في الاتصاف بالموجودية إلى أمر خارج ذاتها. وقد أطلقوا على الحيثية التقييدية الواسطة في العروض أيضًا. [و] هناك قسم آخر للحيثية وهو الحيثية الإطلاقية، وهي وصف للماهية المرسلة الجنسية والنوعية.

بعد إيضاح ما تقدّم نقول: إنّ المصداق بالذات، والحقيقي لكل مفهوم من المفاهيم، هو المصداق الذي يكون منشأ انتزاع ذلك المفهوم، والمحكي عنه دون ملاحظة حيثية من الحيثيات وَجِهة من الجهات. وفي غير هذه الصورة سوف لا يكون المصداق مصداقًا بالذات. فانتزاع مفهوم الوجود من طبيعة الوجود بما هو هو لا يستدعي ملاحظة جهة من الجهات، وحيث إنّ أصل طبيعة الوجود أمر واحد غير محدود بحد، وهي بنفسها صرف، وصرف الشيء لا يتثنّى ولا يتكرّر، من هنا فحمل مفهوم الوجود على تلك الطبيعة حمل بنحو الضرورة الأزلية. إذًا، فمجرّد فرض أصل حقيقة الوجود يعني فرض وجوب الوجود. واتصاف الوجود بجهات خارجة عن الوجوب ناشئ من تعيّنات أصل حقيقة الوجود.

وإن شئت قلت: إنّ فرض حقيقة الوجود هو فرض الإطلاق الصرف والوجود المحض، وما يفرض له من كمالات وتعيّنات فهو مستهلك في حقيقة وغيب ذات الوجود، ونحن نرى أنّ حقيقة الحق وجود لا نحتاج إلى أي أمر في انتزاع الموجودية منه، ولا نعتبر الغير معه مطلقًا حتّى لو قلنا إنّ الوجود باعتبار عدم التعيّن بشرط لا هو الحق تعالى.

الوجود العام المنبسط الذي هو ظهور لتلك الطبيعة عين الحق بوجه، وغيره بوجه آخر. وباعتبار الغيرية يصحّح أحكام الكثرة، وبعث الرسل، وإنزال الكتب، وباعتبار العينية يصحّح وحدة الفعل، والتوحيد الأفعالي.

والحق هو قول العرفاء الكاملين الذين ذهبوا إلى أنّ حقيقة الوجود واحد شخصي، وأنّ الكثرات الإمكانية نسب وجود الحق، وشؤون وتجليات الواحد المطلق. فهو وجود محض فحسب بحيث لا يعتبر فيه كثرة ولا تركيب صفة ونعت، لا اختلاف فيه، لا اسم ولا رسم نسبة ولا حكم، بل وجود بحت.

الوجود البحت هو الوجود الصرف المطلق عن جميع القيود حتّى [عن] قيد الإطلاق، والقيود منبع الاختلاف، وتنافي الإطلاق الذاتي.

مختار صدر المتألهين في الوجود هو مذهب أهل التوحيد، وما طرحه في بعض المواضع من الذهاب إلى أنّ الوجود ذو مراتب، لا ينافي ما طرحه في مواضع أخرى من القول بالوحدة الشخصية.

فهو يرى أنّ جميع شؤون حقيقة الوجود بمثابة أجزاء وجود واحد، وقد صرّح في مواضع كثيرة من كتبه بهذه الفكرة، وأكّد أنّ جميع الحقائق الوجودية في سلك وجود واحد، وكثرة الظهورات لا تنافي وحدة أصل الحقيقة؛ لأنّ هناك اتصالًا معنويًّا واتحادًا وجوديًّا بين كل الجهات المتكثّرة، فالكل موجود بوجود واحد، وحيّ بحياة واحدة، ومن مراتب وجود الحق. وكثرة الجهات والاعتبارات وتعدّد الحيثيات لا تقدح في وحدة أصل حقيقة الوجود، بل التجسّم والظهور بصورة الأكوان لا ينافي أصل وحدة الوجود الإطلاقية: إنّ للحقيقة الوجودية ظهورًا وبطونًا، وغيبًا وشهادةً، وسرًّا وعلنًا، ظهوره يرجع إلى بطونه، وشهوده إلى غيبه، وعلنه إلى سرّه. وانظر إلى نفسك مع وحدة ذاتها وأحدية وجودها لها درجات من الوجود والفعلية، ولها مقام تنزيه وتشبيه. وتجرّده لا ينافي تجسّمه، وتعقّله غير قادح في تخلّيه؛ والسر في ذلك أنّ الوجود الجمعي الإطلاقي له شؤونات وتجلّيات متعدّدة، فطالع نفسك ثم ارجع إلى ربّك، وتدبّر في قوله صلى الله عليه وآله: “من عرف نفسه فقد عرف ربّه”.

 

 


الكلمات المفتاحيّة لهذا المقال:
الحكمة المتعاليةالميتافيزيقيةأصالة الوجود

المقالات المرتبطة

لاهوت التكفير وإشكاليّة التنزيل والتأويل

يتحدث القرآن الكريم في تحريف كلام الله والكلم في أربع آيات، وفي كتمان الكتاب وما أنزل من البينات والحق في حوالي ست آيات، وفي لبس الحقّ بالباطل في آيتين

الحب في الله

إن عنوان “الحب في الله – عز وجل – والبغض في الله – عز وجل –” عنوان واسع في تراث أهل البيت عليهم السلام، وكذلك القرآن الكريم، يطرح موضوع الحب في الله عز وجل

في تحولات العولمة

ثمّة آفاق وتحدّيات عديدة تطلقها وتفرضها مسيرة التحولات والتطورات التي تجري في العالم اليوم وعلى مختلف المستويات. ولا يمكننا كمجتمعات

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<