بنية النص المؤسس: الحاجة إلى التصنيف

بنية النص المؤسس: الحاجة إلى التصنيف

بنية النص المؤسس التي تناولنا بعض معالمها في عجالة سابقة تستدعي نوعًا من الفرز أو التصنيف.

هنالك أمران على علاقة بهذه المهمة:

الأول: تقسيم سور القرآن إلى مكّيّة ومدنيّة.

الثاني: قيام علماء الإسلام بتوزيع مفردات الهدى القرآني على محاور العقائد والعبادات والأخلاق والحدود والمعاملات والسياسات.

يستشف من الأول معياران للتقسيم: الأول زماني ومكاني (قبل الهجرة وبعدها، وما تنزّل في مكّة وما تنزّل في المدينة). والثاني مضموني: فالسور المكّيّة تدور بصورة أساسيّة، على مسائل العقيدة وما تقتضيه من مسائل عباديّة وأخلاقيّة. أمّا السور المدنيّة فتدور على مسائل الحدود والمعاملات والسياسات. ولكن في ارتباطها، شكلًا ومضمونًا، مع العقيدة تأسيسًا وتسويغًا وتعقيبًا (من العاقبة بمعنى الجزاء ثوابًا وعقابًا).

ويمكن ترتيب دلالتين محتملتين لهذا التقسيم: أولاهما أنّ اللطيف الخبير، سبحانه، قد أعطى الأولويّة الزمنيّة والتربويّة والقيميّة، في إبلاغ الرسالة الخاتمة، للعقيدة وما يرتبط بها من عبادات وأخلاق، على ما يرتبط بها من حدود ومعاملات وسياسات؛ وجعل من مفردات الهداية الإيمانيّة مرتكزًا وأساسًا لسائر مفردات الهداية الأخرى، منه تستمدّ معناها، وبه تستحقّ قيمتها في قيادة كدح الإنسان لتحقيق كماله الإنساني. وإعمار دنياه وآخرته باتباع ما هداه إليه الباري سبحانه وتعالى.

وإذا لم يكن لعلماء الإسلام دور في تقسيم سور القرآن إلى مكّيّة ومدنية فإنّ دورهم في توزيع مفردات الهدى القرآني على محاور كان أساسيًّا. وغنيّ عن البيان أنّ طبيعة بنية النص المؤسّس والحاجة إلى استظهار أحكام القرآن في كلّ من العقائد والعبادات والمعاملات والحدود والسياسات هي التي اقتضت هذا التوزيع الذي استندوا فيه إلى أنّه لا اختلاف بين ما ورد فيه من جهة، وإلى أنّه يفسّر بعضه بعضًا من جهة ثانية.

وعندما بذل علماء الإسلام جهودهم في عملية التوزيع والتصنيف هذه، فإنّهم لم ينسوا أنّ كلًّا من هذه المحاور يتكامل ويتوحّد مع المحاور الأخرى في إنجاز عملية الهدى الإلهي – القرآني الذي يشكّل هدفها جميعًا. كما لم ينسوا أيضًا أنّ التركيز عليها جميعًا، والإيمان بها جميعًا لا يؤدي إلى تساويها في إنجاز عملية الهدى وضمان استمرارها، وتحقيق مقاصدها: فمفردات الهدى المتعلقة بالعقائد لا تتساوى مع مفردات الهدى المتعلّقة بالمحاور الأخرى؛ لأنّ الأولى تؤسّس للثانية وتعطيها قيمتها وروحها وضمان تحقّقها على وجهها الصحيح، كما تسهم في توحيدها عبر إعطائها اتّجاهًا واحدًا هو الاتجاه إلى الله واستهداف رضاه في كل من الأنشطة والأفعال الخاصة بكل من المحاور الأخرى.

ما تقدّم يجعل البحث في أيّ من المحاور بمعزل عن المحاور الأخرى، وفي مقدّمتها محور العقيدة بحثًا لا يستوفي شروطه، ولا يوصل إلى غايته بالصورة التي أرادها الإسلام في نصّه المؤسس، لأنّ كلّ محور لا يتمتع بأكثر من استقلاليّة اعتباريّة يقتضيها تحليل الكل إلى مكوّناته في محاولة لفهم الكل، تمامًا كما يحدث في تحليل المركبات الماديّة لتعميق معرفتنا بها.

مهما يكن  من أمر، فمن الملاحظ أنّ جهود علماء الإسلام، في مجال الفرز والتصنيف، كانت مسكونة بهاجس صحة العقيدة، وهذا ما اهتمّ به علماء الكلام بصورة مباشرة والعرفانيون والفلاسفة بصورة غير مباشرة، وبهاجس صحة ممارسة التكاليف الفرديّة، وهذا ما اهتمّ به علماء الفقه. ومع أنّ لكلّ مفردة من مفردات الهداية المتعلقة بهذه التكاليف أكثر من بعد، فإنّ علماء الفقه ركزوا على البعد الذاتي لكلّ من هذه التكاليف ولم يتناولوا، إلّا في النادر، الأبعاد الأخرى، وفي مقدّمتها البعد الاجتماعي والسياسي، ولا نظن أنّ في ذلك تجاهلًا لهذه الأبعاد، بقدر ما فيه من تقيّد بحدود المبحث واختصاصاته، بعيدًا عن الهواجس الاجتماعيّة والسياسيّة. وربّما، لذلك، لا نجد في الرسائل العملية بابًا مخصّصًا لأحكام تتعلّق بالسياسة، وإذا كان هنالك من أحكام ذات طابع سياسي من مثل العلاقة بين دار الإسلام ودار العهد، ودار الحرب، فإنّها ترد في باب المعاملات.

ولكن ماذا لو باشرنا قراءة النص المؤسس وما اتّصل به من سنّة الرسول صلّى الله عليه وآله، وتابعيه بإحسان من الأئمة عليهم السلام والصحابة رضي الله عنهم، بداعي البحث عن مفردات الهدى الخاصة بالسياسة والاجتماع السياسي؟

نظرًا لطبيعة بنية النص المؤسس علينا أولًا تحديد معيار لفرز ما هو سياسي بالذات أو ذي بُعد سياسي على الأقل، وهذا المعيار نجده في ما يميّز السياسة بوصفها نشاطًا إنسانيًّا له ماهيته الخاصة أي موضوعه الخاص، وأهدافه ووسائله وجدلياته النوعيّة. وما يمكن أن نجده ممّا يعود إلى هذه الماهيّة نعتبره سياسة، وإن كان تأسيسه ومقصده لا يقوم على مقتضيات السياسة بذاتها فحسب، على الرغم من أهمية هذه المقتضيات، وإنّما يقوم أيضًا، وبالدرجة الأولى، على مقتضيات العقيدة وقيمها في التعاطي مع أيّ شأن من شؤون الحياة الإنسانيّة.

وعلى هذا، فكل آية أو حديث أو تدبير يتناول شأنًا مدنيًّا عامًّا (أي لا يختص بفرد أو فئة) بنوع من الحكم فإنّه يعتبر سياسيًّا: وهكذا فالآيات التي تتناول الحدود والمعاملات والأحكام الفقهيّة المبنيّة عليها، وإن هدفت إلى إحقاق الحق، فإنّها تهدف أيضًا إلى تحقيق واحد من أهمّ الأهداف النوعيّة للسياسة، أي تحقيق الوفاق والوحدة والاستقرار عن طريق نظم العلاقات بين أفراد الاجتماع وفئاته بصورة تبعد عن التظالم والتصارع وتقلل من النزاعات، ومعالجتها، إذا وقعت، تبعًا لتلك الأحكام.

إذا كان لكل من مفردات الهداية المصنفة في المحاور التي أشرنا إليها أبعادًا تخصها بالذات، وأخرى تترتب عليها بالعرض كما رأينا عند معالجتنا بنية النص المؤسس، فإنّ الأبعاد التي تخص مفردات الهداية المصنّفة تحت عنوان الحدود والمعاملات هي أبعاد اجتماعيّة وسياسيّة بالذات، ودينية وأخلاقيّة بالعرض.

بينما مفردات الهداية المصنّفة تحت عنوان العقائد والعبادات والأخلاق هي دينيّة وأخلاقيّة بالذات، واجتماعيّة وسياسيّة بالعرض.

وغني عن البيان أنّه، في الإسلام، لا فصل بين هذه الأبعاد، تمامًا كما لا فصل بين محاور الهداية المختلفة ولا بين المفردات الخاصة بكل منها لا على صعيد النية والقصد، ولا على صعيد الممارسة والفعل، وإذا اقتضى البحث ومحاولة الفهم نوعًا من الفصل أو الفرز أو التصنيف، فإنّه لا ينبغي لهذا الفصل أن يغيّب وحدة الأبعاد المختلفة لكل مفردة أو محور من جهة، ووحدة جميع المفردات والمحاور وتلازمها في إنجاز فعل الهداية، من جهة ثانية.

هذا في الإجمال، أمّا في التفصيل اعتمادًا على المعيار الذي ذكرناه لفرز ما هو سياسي في بعده الذاتي، أي كلّ ما يتناول شأنًا مدنيًّا عامًّا بالنظم أو التقنين أو التدبير فإنّنا نصل إلى النتائج التالية:

الآيات التي تدور على الحدود، والأحكام الفقهيّة التفصيليّة المستخرجة منها، هي بمثابة قوانين جزائيّة ذات أهداف ردعيّة وتعويضيّة. وبالتالي فإنّها ذات بعد اجتماعي (التقليل ما أمكن من تعدّي الأفراد أو الجماعات بعضهم على بعض، الاقتصاص من المعتدين، التعويض على المعتدى عليهم، تأمين المساواة أمام القانون … إلخ)، وسياسي (الحفاظ على استقرار الاجتماع السياسي ووفاق مكوّناته وصولًا إلى وحدته ومنعته عبر جعل الاقتصاص والتعويض من مهمّات سلطة عامة يرجع إليها الجميع).

الآيات التي تتناول المعاملات والأحكام الفقهيّة التفصيليّة المبنيّة عليها (البيع، الشراء، الإجارة، الرهن، المواريث، الزواج، الطلاق، الديّات…) هي عبارة عن قوانين مدنيّة عامة ذات بعد اجتماعي (نظم العلاقات بين أفراد المجتمع وفئاته على أساس قواعد محددة)، وسياسي (الحفاظ على استقرار المجتمع عبر إناطة الحكم في الخلافات لسلطة عامة يرجع إليها الجميع).

نخرج من ذلك إلى أنّ مفردات الهداية المتعلّقة بالحدود والمعاملات على اختلافها تتعلّق بتحقيق أحد أهمّ الأهداف النوعيّة للسياسة؛ أي الوفاق والاستقرار، ويمكن أن تلحق بتحقيق هذا الهدف الآيات التي تدعو المؤمنين إلى الاعتصام بحبل الله، وإلى عدم التنازع والاختلاف، والعودة في ما يختلفون فيه إلى الله ورسوله وأولي الأمر منهم، وتولّي بعضهم بعضًا دون المشركين والمنافقين والتعاون على البر والتقوى دون الإثم والعدوان… إلخ. وكذلك الآيات التي تبصر المؤمنين بعواقب عدم الاستجابة لهذه الدعوات، تبعًا للسنن الإلهيّة الحاكمة على المجتمع والاجتماع السياسي في هذه الدنيا، وتبعًا لما فرضه جلّ وعلا من ثواب المطيعين وعقاب العاصين في الآخرة…

وإذا كان لمثل هذه الدعوات بُعد ديني وأخلاقي بالذات (لأنّه لا يترتّب عليها جزاء اجتماعي وسياسي محدّد شرعًا وبالتالي قانونًا، اللهم إلّا إذا ترتّب على عدم الاستجابة فساد في الاجتماع السياسي، أو إساءة له بصورة من الصور. وسنرى ذلك لاحقًا بالتفصيل). فإنّ لها بعدها الاجتماعي والسياسي بالعرض لأنّها تسعى إلى تغليب عوامل التعاون والتآزر على عوامل التنافس والصراع تحقيقًا لوحدة المجتمع السياسي من جهة، وإلى تغليب العام (ما يخص المجتمع السياسي كشخصية معنوية عامّة) على الخاص (ما يخص الأفراد والجماعات والفئات داخل هذا الاجتماع) من جهة ثانية. وهذا الجدل بين الخاص والعام، كما سنرى، هو من الجدليات الملازمة لأي سياسة.

الآيات التي تتناول العلاقة بين المسلمين والمعاهدين والمحاربين والناكثين … إلخ والأحكام الفقهيّة المستخرجة منها، هي ذات بُعد سياسي بالذات لأنّها تتناول نظم العلاقة بين المجتمع السياسي الإسلامي وغيره من المجتمعات السياسيّة أو ما يسمّى حديثًا العلاقات الخارجيّة … وبُعد ديني وأخلاقي بالعرض (الحث على التعاطي بالعدل وتغليب روح التسامح والعفو كلما أمكن ذلك، والتعاطي مع هذه المسائل بنية الطاعة لله…)، وفي البعدين تعبير عن جدلية أخرى ملازمة للسياسة هي جدليّة العدو والصديق المحكومة بسنّتَي التعارف والتدافع الإلهيّتَين والقرآنيّتَين.

ويلحق بتحقيق الهدف أو البعد السياسي لهذه الآيات، تلك التي تحثّ على الجهاد في سبيل الله بالأموال والأنفس، ومدح المجاهدين وذمّ القاعدين من غير أولي الضرر، والحث على إعداد القوة لإرهاب عدو الله وعدو المجتمع السياسي الإسلامي بما يحوي من مؤمنين ومعاهدين من أهل الكتاب أو غيرهم، وتنطبق على هذه الآيات الملاحظات نفسها التي أوردناها على الآيات الداعية إلى الاعتصام بحبل الله، من حيث كونها ذات بُعد ديني أخلاقي بالذات، وبُعد سياسي بالعرض وللأسباب نفسها.

نكتفي بالنماذج التي أوردناها لما يمكن أن يتّخذه شكل التصنيف إذا بوشرت قراءة القرآن من خلفيّة البحث عن السياسة، ومفردات الهدى السياسي فيه… لأنّنا سنعود إلى تفصيل هذه الأمور عندما ندخل في بحث الفلسفة السياسيّة في الإسلام بشيء من التفصيل.

 

 


الكلمات المفتاحيّة لهذا المقال:
التصنيفبنية النصّ المؤسّس

المقالات المرتبطة

اختيار المنهج بداية الطريق

لا يمكن النجاح في مواجهة هوى النفس ورغباتها بطريقة عشواء، ولا تسع حياتنا القصيرة إجراء التجارب البشريّة عليها لاختيار الأصلح،

مفهوم الحياد السياسيّ

يفيد مصطلح الحَياد، لغويًّا، دلالة الميل والانحراف وترك الجادة الصحيحة والفرار وحماية النفس من الرماة، لأنّ الكلمة في أصل الوضع اسم فعل أمر قياسيّ

إدمُند هُسِرل: أصلُ الزمانِ وتكوُّنُه

يقتضي التأويلُ الفِنُمِنُلوجيّ للزمان جُهدًا خاصًّا إذ لم تُفرِد المنظومةُ الفِنُمِنُلوجيّة “فئةً” خاصّةً في موضوعه.

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<