التجديد والاجتهاد الفكري عند الإمام الخامنئي الثاني
“استراتيجيات الثقافة الإسلامية في عالم اليوم”
كلمة الافتتاح
الشيخ شفيق جرادي
لا ترتبط اهتمامات مؤتمرنا هذا بمعرفة الثقافة ومعناها؛ ذلك أنّ الإمام الخامنئي ربط دلالتها ومنشأها بالعقيدة والرؤية، كما أنه حدد إطار الثقافة بالذهنيات الخاصة، وتحدث عن تأثير ذلك على سلوك الأفراد والجماعات والمؤسسات، بل والخصائص الحضارية لأمة من الأمم أو شعب من الشعوب.
إن انعقاد هذا المؤتمر جاء نتيجة جملة أمور نذكر منها:
أولًا: وبالدرجة الأساس الصورة النمطية التي اشتغل على تثبيتها المشروع الاستكباري في المنطقة، وممارسات حركات التطرف التكفيري تجاه الإسلام ودور المسلمين، بحيث زحزحوا صورة الإسلام كدين للرحمة عن معناه، وقدموه دينًا للجريمة. وفي هذا قلبٌ للحقائق، ومنطقُ الأمور يحتاج إلى مزيدِ جهدٍ فكري ورسالي لبلورة المعطى الثقافي لمعنى الرحمة، ودلالةِ الخطاب الإلهي لنبيه (ص) ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾[1].
إن تحديات الغزو الثقافي الغربي والحرب الناعمة التي تشن على هذه الأمة، ومناهج التفسير بالرأي العصبوي المحرم على لسان نبي الإسلام، هذه المناهج التي تعتمدها مؤسسات سفهاء الشوارع ومنتجي جاهلية القرن الواحد والعشرين تحتاج إلى جدية في بلورة الرؤية والموقف الثقافي الرسالي تجاهها. وإذا ما كنا نعتقد أن مؤتمرًا كمؤتمرنا هذا لا يمكن أن يتكفل بحل المشكلة، فإننا نؤمن بأنا معنيون بالمساهمة في مسعى العمل لحل هذه المشكلة من حيث منطلقاتها أو إفرازاتها.
ولما كان العمل الثقافي يحتاج إلى هوية تجسر العلاقة بين البناء النظري والفعل العملاني، فإن مؤتمرات كهذه إنما نعقدها بإيمان بالفعل المقاوم الطامح للنصر، والقائم على روح الشهادة القادرة وحدها على إلحاق الهزيمة بروح الجريمة وفوضوية القتل العبثي الصهيو-تكفيري.
ثانيًا: إن سقوط تجارب حركات إسلامية اصطُلح على تسميتها بالإسلام السياسي، فضلًا عن تراجع دور المؤسسات الدينية العلمائية التي كانت تقوم بمهمة الوصل بين انقطاعات أطراف هذه الأمة بأبعادها المذهبية والقومية والقطرية، فسح المجال واسعًا للحديث حول اتهام الإسلام في أصل رساليته التي جاءت لإصلاح شأن الناس من خلال عمارة البلاد وهداية العباد. لقد بات الكلام اليوم حول الإصلاح الإسلامي يقوم على تفريغ هذا الدين من مهمة التصدي للشأن السياسي والمجتمعي، مما يفرض – حسب رأي أصحاب هذا الطرح – الفصل بين ما هو معنوي عبادي، وما هو مجتمعي سياسي، تمهيدًا للكلام حول علمنةٍ خاصة للإسلام. إن هذه الإشكالية التي استفادت من وقائع محددة تمثل الجانب الأسود من تجربة المسلمين قد غيبت، وعن قصد، الصورة المشرقة للتجربة الإسلامية في ثورة الإمام الخميني قدس الله سره، التي استطاعت أن تبني مجتمع ودولة الولي الفقيه في قطر من هذا العالم، عمل على أنسنة الفقه حتى صارت الدولة هي وطن إسلامي يعترف بتنوع أبنائه الديني والمذهبي والفكري، ويسير بركب ثقافة التطور والتنمية الإسلامية التجديدية. كما غيبت الاستجابة الثورية لشعوب منطقتنا في لبنان والعراق واليمن وفلسطين والحجاز والبحرين وغيرها إلى نداء التحرر على أساس قيم الإسلام في رفض ظلم الاحتلال وارتهان الإرادات الشعبية لسلطان جور الحاكم المستبد. هذه الاستجابة التي تمثل اليوم أحزمة نور الأمل ببناء مستقبل مشرق لشعوب هذه الأمة يستند في أصل ثقافته إلى الإسلام ووحدة السياسي – العبادي فيه.
لكن إذا ما كان الاعتراف فضيلةً، فدعونا نقر ونعترف بأننا أبناء منطقة يلزمها انتهاج سياسة توحيد الوجهات والقضايا والمفاهيم والرؤى في مشروعها التحرري. واسمحوا لي هنا، أن أدعو نفسي كما أدعوكم لمناقشة الرؤية التأسيسية التي قدمها سماحة الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله في خطاباته الأخيرة، لمناقشتها في مؤتمرنا هذا، والتي مفادها أن العدو الصهيوني نجح في تفكيك قضايا المنطقة وفصلها عن بعضها، ما نقلنا من مرحلة الأمة الواحدة إلى مرحلة الجماعات الممزقة، وعلينا العمل على إعادة توحيد الساحات والقضايا والاهتمامات والرؤى، لنستعيد وحدة الأمة بفعاليتها الخلاقة والتحررية. اسمحوا لي بالقول: إن هذا المشروع الذي يسمح لفصيل تحرري إسلامي مقاوم في أي بلد أن يتدخل في الحراك التحرري المقاوم لأي بلد آخر في منطقتنا يجب أن يُصاغ ضمن رؤية ثقافية واضحة تدخل في برامج أحزابنا ومؤسساتنا التعليمية والاجتماعية والسياسية.
إنها ثقافة المقاومة الإسلامية، ثقافة وحدة القيادة والجماعة المسلمة، وحدة الولاية المبنية على اجتهاد فقهي يمتهن ويحترف الاجتهاد في فهم الواقع وصياغته وفق منظومة القيم الإسلامية، وهذا ما نفهمه من إرشادات إمام الأمة الخامنئي حفظه الله التي مفادها أنه إذا ما كان للآخرين غزواتهم الثقافية فليكن لنا جهادنا الثقافي، وإذا ما كان لهم حربهم الناعمة فإن في هذا الدين ما هو كفيل لخوض أعظم حرب ناعمة تأسيسية في التاريخ، وإذا ما كان للآخرين فوضويتهم فليكن لنا في اعتمالات الروح بالشهادة والبيان والبرهان القرآني خير بناءات لمجتمعات تدخل عصر الانتصار، لتمهد الأرض لخلاص نبوي يفتح الأرض على شهود السماء.
ثالثًا: تشهد الثقافة الإسلامية اليوم، تراجعًا ملحوظًا في خطابها الرسالي الذي كان يُطلَق عليه اسم ثقافة الإسلام الحركي، وهو عبارة عن مركب من المزيج التثقيفي للحركات والأحزاب الإسلامية، إضافة إلى معالجات لشخصيات فكرية كانت مهجوسةً بالتحديات الفكرية الوافدة على منطقتنا، وبالمشكلة المجتمعية للبلدان والجماعات الإسلامية. إلا أن هذه الثقافة بالرغم من طابعها الأيديولوجي والتنظيري قد كانت موفورةً بروح المبادرة والخلاقية في بناء الكادر الثقافي الرسالي، وهو ما شفع لها بالرغم من فقدانها كثيرًا من الوعي بالتجربة السياسية الحية وإرادة بناء الدولة والنظام الثوري الفعال. وهو ما استكملته الثقافة الجهادية التي قدمها الإمام الخميني قدس سره، في أواخر كتابه الحكومة الإسلامية وضمن فصل مستقل تحت عنوان “كيفية تشكيل دولة إسلامية”، ثم لما آلت الأمور إلى بناء الدولة الإسلامية أخذت الدراسات الإسلامية تجنح نحو الأبحاث الأكاديمية والتحقيقية كما هو الحاصل في إيران وبعض مراكز الدراسات الإسلامية الأخرى خارجها، وانتقل الاهتمام الرسالي خارج إيران من دائرة الاهتمام الثقافي إلى دائرة الفعل الرسالي الجهادي المقاوم دون الالتفات إلى ضرورة استكمال تصاعدية الخط البياني لثقافة الإسلام الحركي بمعناه الأولي والتأسيسي، وبمعناه الجديد الذي يواكب الثقافة الإسلامية في مراحلها التي دخلت فيها التجربة إلى الحياة اليومية وإلى بناء الحضارة الإسلامية الاجتهادية – التجديدية.
ولعلنا لا نجانب الصواب إذا قلنا: إننا في هذا الوقت بالتحديد لا نجد من يمثل قيادة التنمية والحراك الثقافي التجديدي بمعناه الاجتهادي الذي أسلفنا، إلا أوحدي هذا المشروع وأعني به الإمام الخامنئي.. الأمر الذي بعثنا على عنونة هذا المؤتمر بـ “مؤتمر التجديد والاجتهاد الفكري عند الإمام الخامنئي“، طامحين أن نستكشف من ضمن ما نستكشفه عبر دراسة نمط القيادة الثقافية والفكرية للإمام الخامنئي موقع الاجتهاد الإسلامي من الأطروحة الفكرية للمشروع الإسلامي، والمائز المعياري بين الحداثة بمدلولها الغربي والتجديد بمدلوله الإسلامي الطامح لدخول المعاصرة من موقع الأصالة الإسلامية الاجتهادية.
رابعًا: إذا كانت التحزبات السياسية والعصبيات التي تعمل على توظيف المذاهب من أجل التخندق وإلغاء الآخر سدت علينا منافذ الحوار والتفاعل والتكامل، فإننا نطمح أن تكون الثقافة والإعلام الثقافي الجاد بنحو خاص من المنافذ المفتوحة بين الجماعات… من هنا، كان مسعانا دعوةُ مؤسسات دينية كبرى في العالم الإسلامي كما ودعوةُ ممثلين عن أحزاب إسلامية ومؤسسات بحثية استجاب بعضها، وبعضها حال بيننا وبينه ظروف ندعو الله أن تنتهي على خير، ونؤكد أن قلوبنا وعقولنا ستبقى مفتوحةً للتلاقي مع من نتفق معهم، أو من نختلف معهم. وبصدق أشير أن أبوابنا لا يمكن أن تُقفل أبدًا إلا بوجه من كان صهيونيًّا أو متصهينًا بولوجه جريمة سفك الدم، وهتك الحرمات التي لم نشهد لها نظيرًا في الجرأة على الله ورسوله وكرامة الإنسان من قبل.
إننا ندعو علماء الدين ومفكري الأمة والنشطاء الثقافيين الرساليين، على وجه الخصوص، إلى الترفعِ بطروحاتهم وتوجيهاتهم وخطاباتهم ليكونوا بمستوى باذلي الدماء من شهداء هذه الأمة الذين لا يرجون إلا وجه الله واليوم الآخر، ندعوهم ليتصل حبرهم بالدم المقاوم، فيكونَ شاهد حق على خذلان النفاق التكفيري لإرث رسول الله وذكر رسول الله وأمر رسول الله محمد (ص).
فهل هناك من عصر عصفت فيه الفتنة مثل عصرنا هذا فيحتاج أن يبذل فيه العالم مهجته وعلمه ليميز الخبيث من الطيب والحق من الباطل؟
ولعل أهم شرط في هذه المواجهة هو الوحدة بمعناها الذي يستظل بقوله تعالى: ﴿وَإِن هَذِهِ أُمتُكُمْ أُمةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبكُمْ فَاتقُونِ﴾[2]. فتتماهى المذاهب بروح التوحيد، وتتجانس الأمم بالتلاقي على التقوى، وتتثاقف الرؤى بقيم الدين الذي قدم الإنسان وكرامة الإنسان باعتباره أعظم مقدس.
إننا في نهاية هذه الكلمة نتقدم بالحمد إلى الله سبحانه على عظيم مننه وبالشكر لراعي المؤتمر سماحة حجة الإسلام والمسلمين السيد حسن نصر الله، الذي أقول بصدق ودون تملق: إن ما من فكرة لملتقًى فكري حيوي أقمناه في معهد المعارف الحكمية إلا كانت نتيجةَ نبضٍ من القيم الرسالية التقطناه في خطاباته لنرابط فيه على جبهة الدفاع الفكري المقدس، كما ونشكر المؤسسات التي شاركتنا في هذا المؤتمر من الجامعة اللبنانية، وجامعة الإمام الصادق (ع)، وجامعة باقر العلوم (ع) في إيران، ومركز مسارات في تونس، والمركز الاستشاري في لبنان، واتحاد الفضائيات والإذاعات الإسلامية والمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية، كما ونشكر كل السادة الذين قدموا أبحاثهم القيمة، وكل من ساهم وعمل وسعى لإنجاح هذا المؤتمر، وأخص بالشكر الجزيل الملهَم الملهِم صاحب التجديد والاجتهاد الفكري الإمام الخامنئي دام ظله والوفد الذي يمثل مكتبه، كما والشكر كل الشكر إلى من لهم يعود سبيل عزنا شهداء هذه الأمة المقاومين المدافعين عن حرمة كتاب الله وأمة رسوله الله.
[1]سورة الأنبياء، الآية 107.
[2]سورة المؤمنون، الآية 52.