الامام الخميني جدلية المعرفة الزمنية والحضورية

الامام الخميني جدلية المعرفة الزمنية والحضورية

لشراء الكتاب

تحميل المقدمة

المقدّمة

أخرج الإمام الفكر الإسلاميّ من ساحة العقل إلى ساحة الفعل، ومن العرفان والأخلاق إلى التاريخ والتجربة، ومن الاجتهاد والفقه إلى الثورة وبناء الدولة، وبذلك طرح أمامنا مجموعةً كبيرةً من القضايا والإشكاليّات التي لم تُطرح في الفكر الإسلاميّ، والشيعيّ خصوصًا، قبل ثورته، التي أحدثت زلزالًا فكريًّا لا يقلّ عن تأثيرها السياسيّ والتاريخيّ، على أن إطلاق التجربة الإسلاميّة الحديثة لا يزال ينتج، بتفاعله الذاتيّ، قضايا مُتولِّدة وحادثة.

تجربة الإمام الخميني (قدّس سرّه) على حدٍّ أقلّ، تختزن الكثير ممّا لم نعمل على استكشافه. تجربةٌ تعددت أبعادها بشكل كبيرٍ، لكنّ صاحبها تعرّض في نصوصه وخطابه إلى توضيح جزءٍ من فلسفتها، فيما ترك أجزاءً أخرى متناثرةً في طيّات الكلام وثنايا الصفحات. القضيّة التي نتعرض لها هنا، هي جمعٌ لبعض تلك النثرات، وقراءتها سعيًا للخروج بما يعطي تفسيرًا لواحد من أبعاد تلك التجربة المتألّقة، ألا وهو البُعد المعرفيّ.

إنّ خروج الإمام إلى الساحة السياسيّة حاملًا على كاهله مسؤوليّةً تاريخيّةً تجاه الإسلام والتشيّع وإيران، أدخله إلى نطاق خوضٍ فكريٍّ وعقليٍّ طارئٍ نسبيًّا على العقل الدينيّ الشيعيّ، الذي كرّس تاريخه في مجال المعرفة الدينيّة حصرًا إلى حدٍّ بعيد، موفّرًا مقدّماتها النظريّة، وموجدًا مناخًا علميّا يوجّه العقل نحو حصر الاهتمام، وبناء ملكات تفكير خاصّة بمناهج هذه المعرفة، بدءًا بالمنطق الأرُسطي، إلى العقائديّات، والأخلاق، والفقه، والأصول، والفلسفة، والعرفان وغير ذلك. ودخل الإمام إلى ساحة تحتاج عقلًا تجريبيًّا مختلفًا في اهتمامه ومنهجه وإشكاليّاته عن عقل المعرفة الدينيّة. واعتبر أنّ هذا الخوض الجديد من أوجب الواجبات، موضحًا أنّ العمل في مواجهة الطاغوت في الدنيا هو صنو التوحيد الذي يُبنى على الجزء الأوّل من لا إله إلا الله، فرفض الطاغوت وَكلّ ألوهيّة لغير الله تعالى، هو مقدّمة التوحيد المتمثّل في الجزء الثاني إلا الله.

تهدف المعرفة الدينيّة في المستوى العقائديّ والفلسفيّ إلى معرفة الخالق، أمّا في الفقه والأصول فتهدف إلى معرفة الشريعة الإلهيّة وفهمها. إنّنا بصدد تلك المُهتمّة بمعرفة الله، أمّا الجزء الآخر المتعلّق بالشريعة وبالنصّ الشرعيّ، وكيفيّة استنباط الحكم، فهو مجالٌ عقليٌّ بحت، وليس لنا أن نقارنه كمكوّن مميّز للمعرفة الدينيّة بإزاء المعرفة الزمنيّة، بل إنّ نقطة الافتراق هي المعرفة العقائديّة والروحيّة السماويّة في مقابل المعرفة الأرضيّة الماديّة.

المعرفة الزمنيّة التجريبيّة ليست محدّدة الموضوع، لا فيما يتعلّق بالأبعاد ولا بالمستويات. فالموضوعات غير محصورة، وغير ثابتة دومًا، وقد تتغيّر أو تنتفي كلّيًّا، ناهيك عن اختلاف وتغيّر مراتب المعرفة بها، وهي تتعامل مع الممكنات، وليس موضوعها واجب للوجود. فالمعرفة الزمنيّة، كما نلحظ، ضعيفة نتيجة محدوديّة الحواس، وضيق نطاق إشراف الإنسان مكانيًّا وزمانيًّا، وهي غير تجاوزيّة، فتبقى منحصرةً في الإطار الماديّ. ويصعب في الساحة التجريبيّة ادّعاء المعرفة بموضوعٍ ما، لأنّ الجهل ونتائجه فيها واضحَين، ويسهل كشفهما للذّات وللآخرين، كما دلّت على ذلك آلاف التجارب العلميّة والنظريّات في العلوم الدنيويّة كلّها من دون استثناء. وهي من ناحيةٍ أخرى، مثل المعرفة الدينيّة، تحمل بذور النقص ولكن للموضوع أيضًا، مضافًا إلى المعرفة بمتعلّقاته، فهي نسبيّة وغير مستقرّة في منهجها وموضوعها وتفاصيلها، ولذا هي تفاعليّة متواضعة، تدفع إلى النشاط الذهنيّ، وهي أيضًا معرفة اجتماعيّة، بعكس معرفة الله الفرديّة، فيمكن البحث فيها بشكل جماعيٍّ، وكذلك الإدراك أيضًا، أمّا المعرفة الدينيّة، فمحلّها قلب الإنسان المفرد.


لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<