by ندى الطويل | مايو 17, 2020 8:46 ص
ما أجمل ما قاله الرسول الأكرم (ص) في خطبته الخاصّة باستقبال شهر رمضان: “شهر دعيتم فيه إلى ضيافة الله“[1][1]، وهي جملة تحتاج في حدّ ذاتها إلى تدبّر وتأمّل. فقد جاء عن رسول اللَّه (ص) أنه قال: لَمّا حَضَرَ شَهرُ رَمَضانَ: “سُبحانَ اللَّهِ! ماذا تَستَقبِلُونَ؟! وماذا يَستَقبِلُكُم؟! قالَها ثلاثَ مَرّاتٍ”[2][2].
ومن مهمّات السالك في أمر هذا الشهر العظيم معرفة حقّه، وأنّ هذا المنزل أكرم الله فيه السائلين إليه بالدعوة إلى ضيافته، وهو دار ضيافة الله، وأن يعرف معنى الصوم ومناسبته بمعنى ضيافة الله، وأن يجهد بعد هذه المعرفة في تحصيل وجود الإخلاص في حركاته وسكناته على وفق رضا صاحب الدار[3][3] .
والسؤال الذي يطرحه الضيف عندما يُدعى إلى مائدة، تُرى ما الذي تحويه هذه المائدة من أصناف الضيافة، وكلّما كان الداعي كريم كلّما ارتفعت التوقعات في نفس الضيف، وبمقدار ما يكون الضيف أشدّ فقرًا يكون لوقع الضيافة في قلبه أثر أكبر وأعظم.
فكيف الحال إذا كان صاحب المائدة الغني المطلق، والذين يلبون الدعوة مصداق لتجلّي الفقر المطلق، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ َۖاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾[4][4].
فمن أنواع وأقسام هذه الضيافة الإلهيّة: الرحمة الإلهيّة، العزّة الإلهيّة، التوفيق الربّانيّ، القرب الإلهيّ، الشعور بالاستغناء الناشئ عن التفضّل الإلهيّ، الرزق المادّيّ، الرزق المعنويّ، كلّ ذلك من بركات شهر رمضان المبارك، كلّ ذلك من صنوف المواهب التي أعدّها الله تعالى على هذه المائدة الإلهيّة.
ولكي يتمكّن الإنسان من الاستفادة من هذه المضافة عليه أن يمعن النظر جيّدًا في النعم الإلهيّة الموجودة فيها، كي لا يصاب بالغفلة والذهول، ولكي يبقى منتبهًا لكلّ ما يراه هناك، كي يعرف أين يجلس تحديدًا، ومن أيّ بابٍ يدخل، فالمائدة الإلهية غنيّة جدًّا بالضيافات المعنويّة، وعلينا أن نقطف من ثمارها، ونستخرج أسرارها، ونخلع عن النفس أدرانها فتصفو وترتقي.
ونحن ندرك أنّ الوجود برمّته هو لله تعالى، ولكن ما أجمل أن يختار الباري جلّ وعلا شهر وينسبه إليه، فإنّ هذا يعني أنّ له خصوصيّة وعلينا الاستفادة منها، والسعي لتحصيل أهم الأمور العملية التي يمكننا أن نغتنم هذه الفرصة لنخرج من هذا الشهر ونحن منتصرون.
أهم الخطوات العملية التي ينبغي الاستفادة منها في الوفادة على شهر الله تعالى.
بعد رجب البداية، وشعبان الخيرات، يأتي شهر القرآن الذي فيه تقدّر الأمور ويمضيها إمام الزمان “عج” في ليلة خير من ألف شهر، ونحن غافلون عما يُنسج لنا في الغيب، إلّا أنّنا ينبغي أن نستيقظ من هذه الغفلة، وننفض عن قلوبنا الصدأ لتصبح مؤهلة لانعكاس الأنوار الرحمانية فتعمّ رائحة الأنفس الزاكية أرجاء الوجود، فترتقي الروح في رحلة إسراء ومعراج خاصّة بها عسى أن تصبح من أهل السلام عند مطلع الفجر.
وحتى يبلغ القلب مراده لا بدّ من إجراء بعض الخطوات العملية التي تفيدنا في هذا المقام وأهمها:
من الخطوات المهمّة في التهيؤ والاستعداد لاستقبال شهر رمضان محاسبة النفس، وقد يظن البعض أن هذا الأمر مختصّ بأهل السير والسلوك فقط، ولكن الحق يقال إنّه أمر لكل إنسان يريد أن يكون عبدًا لله تعالى، وقد كان الرسول (ص) يأمر أصحابه أيضًا بذلك ويحثّهم عليه، وقد قال (ص) – لأبي ذرّ الغفاريّ-: “يا أبا ذرٍّ، حاسِبْ نَفْسَكَ قَبلَ أنْ تُحاسَبَ، فإنَّهُ أهْوَنُ لِحِسابِكَ غَداً، وزِنْ نَفْسَكَ قَبلَ أنْ تُوزَنَ، وتَجَهَّزْ للعَرْضِ الأكْبَرِ يَومَ تُعْرَضُ لا يَخْفى على اللَّهِ خافِيَةٌ”[5][5].
فإنّ محاسبة النفس له دور أساسيّ في معرفتها وخاصّة في شهرٍ الشياطين فيه مغلولة، وكأنّ الرسول (ص) يريد أن يقول لنا أيّها الإنسان إنّ العدو المبين الآن لا يقدر على شيء، ولكن بقي لك العدو الأكبر ألا وهو “نفسك التي بين جنبيك”[6][6].
إن النفس بعد المحاسبة تحتاج إلى ترويض ومراقبة، فلا ينبغي أن نتركها ونجعلها مطمئنة أنّها صلُحت، بل علينا أن نسعى لمحو السيئات وتبديلها إلى حسنات، ومن خصوصيّة الرحمة في هذا الشهر المبارك أنّ الله تعالى قد منح هذه الفرصة للعباد، وقد قال رسولُ اللَّهِ (ص): “إنّما سُمِّيَ الرَّمَضانُ لأنّهُ يَرمَضُ الذُّنوبَ”[7][7]؛ ( أيّ يحرقها بالأعمال الصالحة).
فالصوم خير معين على اجتناب المحرّمات كما يعبّر الإمامُ عليٌّ (عليه السلام): “الصِّيامُ اجتِنابُ المَحارِمِ كما يَمتَنِعُ الرجُلُ مِنَ الطَّعامِ والشَّرابِ”[8][8].
إنّ الله تعالى فتح لعباده باب التوبة في هذا الشهر المبارك على مصراعيه، وهو باب مفتوحٌ في كافّة الأحوال، إلّا أنّه في شهر الوفادة على الله له خصوصيّته، وعلى العبد أن يسعى لذلك ليدخل إلى شهر الله تعالى مشرقًا منيرًا، فقد روي عن الإمام الرضا (عليه السلام) قوله: “وتبْ إلى الله مِن ذنوبِكَ ليقبل شَهر رَمَضان إليكَ وأنتَ مخلص لله عزَّ وجلَّ”[9][9].
وكان الإمام عَلِيّ بنَ الحُسَينِ عليهما السلام يَدعو بِهذَا الدُّعاءِ في كُلِّ يَومٍ مِن شَهرِ رَمَضانَ:
“اللّهُمَّ إنَّ هذا شَهرُ رَمَضانَ، وهذا شَهرُ الصِّيامِ، وهذا شَهرُ الإِنابَةِ، وهذا شَهرُ التَّوبَةِ، وهذا شَهرُ المَغفِرَةِ وَالرَّحمَةِ، وهذا شَهرُ العِتقِ مِنَ النّارِ وَالفَوزِ بِالجَنَّةِ …. اللّهُمَّ ارزُقني فيهِ الجِدَّ وَالاجتِهادَ وَالقُوَّةَ وَالنَّشاطَ وَالإِنابَةَ وَالتَّوبَةَ”[10][10].
فالقلب إذا طَهُر صفى، وإذا صفى ارتقى، وإذا ارتقى تدرّج في مراتب الكمال ولا يهدأ حتى يبلغ العُلى.
إنّ شهر رمضان شهر ربيع القرآن، وفيه يُبحر الصائم ليستخرج كنوزه المعرفيّة من خلال التدبّر في آياته وسبر أغواره، والغوص في أعماقه، وقد قال تعالى في محكم كتابه: ﴿أفلا يَتَدَبّرون القرآن أم على قلوبٍ أقفالها﴾[11][11].
وقد شرّف الله تعالى هذا الشهر المبارك بكونه شهرُ أنزل فيه القرآن ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ﴾[12][12]، وهو نور يهدي به الله من اتّبع رضوان سبل السلام، ويخرجهم من الظلمات بإذنه، ويهديهم إلى صراط مستقيم.
فإنّ للقرآن الكريم أهميّة بالغة إلا أنّها تَعظُم في شهر رمضان، وهو جلاء للقلوب من المعاصي والذنوب، وعلينا اغتنام هذه الفرصة في عرض أنفسنا على كتاب الله تعالى، وجعله منارة لإخراجنا من ظلمات الضلالة إلى نور الهداية.
لا يرتاب أيّ إنسان بحاجتنا المطلقة إلى الدعاء، ولولا أنّ الباري جلّ وعلا قد أذن لنا بدعائه لما كنا شيئًا مذكورًا، وقد صرّح القرآن الكريم بذلك ﴿قُلْ ما يَعْبَؤُواْ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَآؤُكُمْ﴾[13][13].
والدعاء مراتب، فندعوه سرًّا وجهرًا، تارة يكون الدعاء اعتراف بالذنب وتقصير على ما فرّطنا في جنب الله تعالى، وكلّما صلُحت أنفسنا ارتقت بالمناجاة، ويتحول الدعاء إلى علاقة حب، وهذا ما نجده عابقًا في مناجاة أهل البيت (عليهم السلام) المشحونة بأصدق المشاعر وأعذب التعابير، والتي تعبّر عن ارتباطهم الوثيق بالحبيب الذي هو أصل ومنبع كلّ الحب.
فأدعية أهل البيت (عليهم السلام) حقًّا ذخائر ثمينة ونغمات رحمانية ومعراج لسموّ الأرواح، ونيل الزلفى لدى الباري سبحانه؛ لأنّها صدرت من نفوس تقيّة وقلوب نقيّة، قال الإمام عليّ عليه السلام: “خير الدعاء ما صدر عن صدر تقي وقلب نقي”[14][14].
والدعاء في شهر الله له طعمه الخاص، ونحتاج إلى توفيق وجدّ واجتهاد لنبلغ مرادنا، كما أشار ذلك الإنسان الإلهي الإمام الخميني (قدس سره): في المائدة الرمضانية السماوية “وفقكم الله عزّ وجل وأدخلكم في ضيافته وأغدق عليكم من فيض مائدته السماوية من قرآن ودعاء، وطهّر أرواحكم وجعلكم من الذين يدركون ما هي ليلة القدر” [15][15].
ومن أهم الأدعية التي ينبغي الالتفات إليها في هذا الشهر المبارك دعاء وداع شهر رمضان المبارك الوارد عن الإمام زين العابدين عليه السلام[16][16]. وقد أوصى الإمام الخامنئي بقراءته في أول شهر رمضان: إنّني كُنت اُوصي الإخوة دائمًا بقراءة دعاء الوداع لشهر رمضان في بداية الشهر ولو لمرة واحدة، لأنّه عندما نقرأ هذا الدعاء بخشوع وأنين في آخر ليلة من شهر رمضان المليء بالفضائل والحسنات، فقد انتهت الفرصة، فينبغي على المؤمنين قراءة هذا الدعاء في بداية الشهر ليعرفوا قيمة هذه الفرصة[17][17].
فمائدة الرحمان جاهزة للتائبين والمحبين، وما عليك إلا أن تُطهّر قلبك وتجلس جلسة العبد الذليل أمام الرب العظيم، وتأتيه بذلّ العبودية ليمنحك عزّ الربوبية.
وفي مثل ذلك فليتنافس المتنافسون.
[1][18] خطبة الرسول (ص) في استقبال شهر رمضان.
[2][19] المجلسي، بحار الأنوار، الجزء 73، الصفحة 347.
[3][20] التبريزي، المراقبات، الصفحة 120.
[4][21] سورة فاطر، الآية 15.
[5][22] الطوسي، الأمالي، الصفحة 264.
[6][23] الرسول (ص): “أعدى أعداءك نفسك التي بين جنبيك”. المجلسي، بحار الأنوار، الجزء 71، الصفحة 271.
[7][24] المجلسي، بحار الأنوار، الجزء 55، الصفحة 341.
[8][25] المجلسي، بحار الأنوار، الجزء 93، الصفحة 294.
[9][26] العاملي، وسائل الشيعة، الجزء 10، الصفحة 301.
[10][27] الكليني، الكافي، الجزء 4، الصفحة 75.
[11][28] سورة محمد، الآية 24.
[12][29] سورة البقرة، الآية 185.
[13][30] سورة الفرقان، الآية 77.
[14][31] الريشهري، ميزان الحكمة، الجزء 2، الصفحة 874.
[15][32] صحيفة الإمام الخميني، الجزء 13، الصفحة 35.
[16][33] الدعاء الخامس والأربعون من الصحيفة السجادية.
[17][34] الخطبة التي ألقاها الإمام السيد علي الخامنئي (حفظه المولى) في شهر رمضان 1414 ﻫ ـ طهران.
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
Source URL: https://maarefhekmiya.org/10156/dawaa/
Copyright ©2024 معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية unless otherwise noted.