عقلنة الدين وديننة العقل نحو دفاع عقلانيّ عن الدين

عقلنة الدين وديننة العقل نحو دفاع عقلانيّ عن الدين

تواجه حركة الفكر الإسلاميّ المعاصر إشكاليّات عميقة تتّصل بعقلانيّة الدين، وتمسّ، على السواء، المنهج والخطاب والآليّات والممارسة. وليس الجدل، في شأن الخطاب العقلانيّ الدينيّ، جديدًا، وإن كان بعض الباحثين يرى أنّ موضوعة العقلانيّة موضوعة غربيّة محض. فالحقيقة هي أنّ الجدل الصوفيّ العرفانيّ الوعظيّ، من جهة، والفلسفيّ الكلاميّ المنطقيّ، من جهة ثانية، والأصوليّ الفقهيّ التاريخيّ، من جهة ثالثة، تعبير جلّى عن صراع في العمق حول عقلنة الدين والخطاب الدينيّ، مع الاعتراف الكامل بأنّ الإسهام الغربيّ، على هذا الصعيد، كان بارزًا جدًّا. وبوصفنا معنيّين بالهمّ الفكريّ ينبغي أن نقف هنيهةً مع هذه الإشكاليّة متعدّدة المنافذ، ونثير جملة تساؤلات نرى أنّها تقف في صدارة أولويّات مفكّرينا وعلمائنا، كي يقدّموا إجابات صريحة وشفّافة عنها، تخدم مسيرة التكامل الفكريّ والدينيّ معًا. 1. ثمّة تساؤل كبير أكثر ممّا نتوقّع أثاره العرفاء المسلمون قبل أن تنشأ جدالاتنا المعاصرة بقرون، مفاده: هل ثمّة طور فوق طور العقل؟ هل من الصحيح تأليه العقل إلى هذا الحدّ؟ من قال لكم: إنّ العقل محور الأشياء جميعها؟ وقد قدّم التيّار النقليّ الإسلاميّ، المتمثّل بالفقهاء، صياغةً أخرى لهذا التساؤل كانت حصيلتها: هل للعقل مجال للكشف عن أسرار البشريّة حتّى نخوّله سلطان التشريع؟ هل يمكن للعقل كشف جوهر النفس وتعقيدات الروح وتشابكات الاجتماع الإنسانيّ حتّى يحقّ له القضاء بلا منازع في قضايا الإنسان؟ وفي شكل ثالث، أثارت العقلانيّة النقديّة الحديثة تساؤلها هذا مع كانط ومدرسته: هل يتسنّى للعقل النظريّ كشف الوجود؟ أليس من الغباء البحث عن ماهيّات الأشياء؟ أليست القناعة بكشف ظواهرها وعلاقاتها تواضعًا قهريًّا؟ ليست قدرة العقل، عند العرفاء والفقهاء، وكذلك عند مدارس فلسفة العلوم الحديثة (القرن العشرين)، بهذا الشكل الدعائيّ الذي يجري تسويقه، فهناك تيّارات كبيرة وواسعة جدًّا لا تزال تنظر إلى العقل – مع كامل الاحترام والتقدير – نظرًا مقيّدًا. ما نريده، هنا، هو تسجيل ملاحظة على تيّارات العقلنة المعاصرة في الوسط الإسلاميّ، نصوغها في سؤال هو: ما دامت آخر منجزات فلسفة العلوم ومدارس علم المعرفة في الغرب وغيره، قد أقصت العقل عن مكانته في التفكير الإغريقيّ، فلماذا كلّ هذه الحملة الساخرة على التيّار الدينيّ عندما يحدّ أحيانًا من نشاط العقل لصالح النصّ الإلهيّ الذي يقول هذا التيّار: إنّ أساس ثبوته كان من العقل؟! لماذا هذه الموجة الواسعة لإعمال العقل في مرافق الحياة جميعها بلا استثناء، والإطاحة بكلّ ما لا يدركه العقل، كان العقل كشف حقائق العالم والإنسان؟! إنّ منجزات العلوم الفلسفيّة الحديثة، باتت تساعد، أكثر من ذي قبل، على ممارسة تواضع عقليّ، يفسح في المجال، لا أقلّ، لعدم رفض قضايا لا يدركها حتّى الآن. من جهة أخرى، يلاحظ المطالع لحركة الأحداث الثقافيّة إشكاليّة ثانية، وقعت فيها غير مدرّسة وتيّار إسلاميّ معاصر، لقد قدّم الإسلاميّون خطابًا يدفع العقل تحت شعار نقصه وعجزه لصالح استقدام مقولة الوحي في منظومة التفكير، والسؤال هو: هل أنّ الوصول إلى الوحي بعيد عن العقل؟! لقد أحدثت القراءات الجديدة دينيًّا اختراقًا غير يسير في هذا الجدار، فقد نقلت المعركة المتعلّقة بقوّة العقل وسلطانه، مع التيّارات المدرسيّة، من خارج النصّ مفرغة مقولات المدرسيّين من تأثيرها لتدخلها في النصّ نفسه، مسجّلةً ضربة قويّة للنشاط المدرسيّ نفسه عبر إفراغه من قوّته اليقينيّة، مطلقةً مقولات ذاتيّة الفهم، وبيئيّته، وتفاعل المعارف البشريّة تفاعلًا كاملًا، وتعدّد القراءات والفهم وغيرها. لقد بدأ فهم النصّ، وهو العمليّة الأهمّ التي يمارسها المدرسيّون، أمرًا أقلّ قوّة، تمامًا كما حاول المدرسيّون إظهار العقل المفارق للنصّ ضعيفًا هزيلًا، وقد حاول المنحى الجديد الميل إلى القول: إنّ العمليّتين عقليّتان، وأن يكون موضوع الدراسة نصالًا يصيرها نصّيّة بحتة، عندما يكون العقل هو أداتها، كما نجد في علم أصول الفقه الإسلاميّ. وبهذا نخلص إلى ما أردناه من أنّ تواضع الجهد العقليّ، سواء منه المفارق للنصّ أم الساعي إلى فهمه، أصبح أمرًا واقعًا، يفرض على الطرفين معًا عدم التعامل مع العقل، بطريقة دعائيّة، وشعاريّة، لتحقيق مكسب أو تسجيل نقطة. 2. لكنّ الدعوة إلى تواضع العقل، اليوم، لا تعني إقصاءه، كما يرغب فريق آخر، إنّ تواضع العقل مقولة تنسجم وإعطائه مكانته المحدّدة، ولا تعني أنّ العقل لم يعد حاكمًا أو نافذ الأمر، لأنّ أقلّ صيغة يمكننا تبنّيها من الزاوية الإنسانيّة في شأن العقل، هي أنّه الوسيلة الأكثر حظًّا في بلورة حياة أفضل، مهما كانت قيمتها العلميّة، أي إنّ نظرة منفعيّة للعقل تسمح لنا بإعطائه دورًا متميّزًا، وإذا أردنا أن نتجاوز عقبات فلسفة المعرفة الأوّليّة، صحّ لنا القول: إنّ العقل هو أكثر وسيلة يمكن توظيفها للوصول إلى ما هو أكمل. 3. وانطلاقًا من التوازن المطلوب بين مكانة العقل وتواضعه، على الصعيد الدينيّ، تبدو أمامنا ظواهر مستجدّة تحاول اغتياله تحت مسمّيات العرفان أو التصوّف أو الفقه أو التعبّد. وإنّ المرء ليجد استلابًا شاملًا، عندما يدخل هذا العالم. فمن تفسير مغلوط للأستاذ (الشيخ) في العرفان الإسلاميّ يصيّره إلهًا، ليجعل المريد أو السالك عبدًا مسخّرًا منقادًا لا مجال عنده للتفكير أو المساءلة أو غيرها، لأنّ ظواهر كهذه تحيله محجوبًا مبعدًا، إلى تصوّر ملتبس لمفهوم المرجعيّة والفقاهة يدفع الفرد العاديّ إلى تجميد فكره بصورة شبه شاملة. إنّ شيوع وسائل معرفيّة في الأوساط الإسلاميّة، لم يجر سلفًا قراءتها بدقّة فلسفيّة وعلميّة، أدّى، ويؤدّي، إلى مظاهر جليّة لاستلاب العقل، ومصادرة التفكير، من دون أن ندخل في نماذج عينيّة نافذة في الأوساط الدينيّة، كبعض المظاهر المتطرّفة للاستخارة، أو الارتباط بعوالم الجنّ أو الرؤى والأحلام ارتباطًا يزيد على المعدّل الطبيعيّ للأمور، أو خلع صفات الآلهة عن العظماء أو غيرها. الأمر الذي بات يدفع في الطرف الآخر إلى موجة إنكار شاملة لمقولة الغيب تقصيها إقصاءً غريبًا تحت شعار العلميّة والموضوعيّة وغيرها. 4. وهذا الإقصاء للغيب وخوارقه ومتعالياته، يعيد إلى الأذهان جماع الوضعيّة والبراغماتيّة في التفكير، وهو جماع نجد تداعياته اليوم في القول: “يمكنني أن أقبل بالدين عندما تقدّمون عِبَره أنموذجًا حيًّا ونافعًا”. وهذه المقولة القائمة على الاعتراف الذي نحمله إزاءها اليوم، تدفعنا من الطرف الآخر للسعي إلى تديّن العقل، يجب أن لا نغرق أنفسنا في عقلنة للدين لا تأخذ بعين الاعتبار هذا الجانب، ومعنى ديننة العقل هو أخذ هذه المتعاليات أساسًا ثابتًا عقليًّا وإقحامها في الحياة والمادّة انطلاقًا من تمازج الغيب والشهادة في التفسير الدينيّ، خصوصًا في أشكاله الفلسفيّة الأخيرة مع المُلّا صدرا في الحركة الجوهريّة. ومعنى ما نرومه، هنا، هو أنّ آليّات المحاكمة العقليّة للقضايا الدينيّة، يجب أن تاخذ بعين الاعتبار البُعد الغيبيّ، ومن ثمّ فإذا أريد تقديم تفسير اجتماعيّ أو نفسانيّ أو اقتصاديّ للدين، يجب أن لا نتصوّر أنّ هذا التفسير هو الصورة النهائيّة عن الدين، ومن ثمّ يجب الإقرار بأنّنا ما زلنا نقرأ الدين من إحدى زواياه. إنّ الصورة العلميّة هذه عن الدين، والتي تقدّمه بوصفه أمرًا عقلانيًّا، يجب أن تبقي على النقطة المخفيّة في الدين نفسه، والتي نسمّيها البُعد الغيبيّ، وهذا الاحتفاظ بالبُعد الغيبيّ إنّما هو نتاج مزدوج من الاعتراف بالمكانة الحقيقيّة للعقل من جهة، والاعتقاد بالمبدأ الأعلى من جهة أخرى، لأنّنا هنا نفترض أنّنا نتكلّم من داخل الدين بوصفنا مؤمنين به لأمن خارجه، وإلّا فإنّ الحديث سيغيّر مساره على الافتراض الثاني. 5. ومن هنا، نسجّل ملاحظتنا على بعض التيّارات المعاصرة التي قرأت الدين من زاوية علم الاجتماع أو علم النفس أو الاقتصاد. وهي قراءة بالغة الأهمّيّة، لكنّها استهلكت نفسها في ذلك موحيةً بأنّ الدين هو هذا البُعد فحسب. وعندما يكون الدين هذا البُعد فقط، فإنّ موجة ترحيل المتعاليات الغيبيّة ستبدأ بالتأكيد، لأنّ آليّات العلوم الإنسانيّة التي ندافع بالتأكيد عن أعمالها في المجال الدينيّ، لم تعتد إقحامًا لموضوعة الغيب في قراءة الدين أو غيره. الأمر الذي يجبر عالم الاجتماع الدينيّ من حيث لا يشعر على تقديم صورة مادّيّة (لا بالمعنى السلبيّ) للدين، ولمّا كانت هذه الصورة منقوصة لم يكن من المسموح علميًّا عرضها بوصفها صيغة نهائيّة، أي إنّ في الدين وبالمجمل نقاطًا تتعالى عن الصيغ الموجودة في القراءات “المادّيّة” للحياة. 6. ويبقى، في هذه العجالة، أن نشير إلى مسألة الدفاع العقلانيّ عن الدين. إنّ العقل الحداثيّ الذي سكن عقولنا في العالم الإسلاميّ، لم يعد يرضى بالدين بوصفه صورة غامضة. فيجب تقديم تصوّر عقلانيّ عن الدين من جهة، كما يجب أن نمارس أعلى درجات العقلانيّة في أثناء دفاعنا عن الدين من جهة ثانية، أقصد بها هنا العقلانيّة السلوكيّة، إنّ الدفاع العقلانيّ الهادئ عن الدين بات يلحّ اليوم لإبعاد مظاهر التكفير والتفسيق والتضليل والتجهيل المتبادل في أوساطنا، فقد شبعت عقولنا وأسماعنا صورًا هجوميّة كهذه، أكّدت التجارب أنّها لم تعد تنفع، إذ أردنا أن نقيمها في الحدّ الأدنى من الزاوية المنفعيّة. كما أنّ الدفاع العقلانيّ عن الدين، يستدعي اليوم تركيب الأجزاء المبعثرة من الصور التي نحملها عنه، أي يجب تقديم الدين في صورة متكاملة، وهذا التبعثر في المفاهيم يقف على النقيض من المنحى العقلانيّ، الأمر الذي يلزمنا، في أبسط صوره، بقراءة الدين والتراث قراءة شموليّة مشرّفة، والخلاص من القراءات المحلّيّة له، أي من قراءته بوصفه فقهًا، أو تاريخًا أو عبادةً أو عقلًا أو اقتصادًا. وبهذه الروح المشرفة غير المحصورة في إطار محدّد، يمكن أكثر فأكثر إبداء الوجه العقلانيّ للدين من دون الدخول في متاهات مظلمة…تحميل المقال

الشيخ حيدر حب الله

الشيخ حيدر حب الله

- ولد الشيخ حيدر محمد كامل حبّ الله عام 1973م، في مدينة صور بجنوب لبنان. انتسب للحوزة العلمية في مدينة صور (المدرسة الدينية) عام 1988م. درس المقدّمات والسطوح على مجموعة من الأساتذة المعروفين. سافر إلى الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانية لإكمال دراساته الحوزويّة العليا عام 1995م، فحضر أبحاث الخارج في الفقه والأصول عند كبار آيات الله والمرجعيات الدينية. حائز على ماجستير في علوم القرآن والحديث من كلية أصول الدين في إيران. وحائز على ماجستير في علوم الشريعة (الفقه وأصول الفقه الإسلامي) من جامعة المصطفى العالمية في إيران. - اشتغل بمجال الترجمة من الفارسية إلى العربية، فصدرت له مجموعة كبيرة من المقالات والكتب. - كانت له مساهمات فاعلة في مجال الدوريات والنشريات الفكرية والعلمية والفقهية في إيران والعالم العربي، حيث تولى رئاسة تحرير أكثر من مجلة. - أشرف ويُشرف على عشرات رسائل الماجستير في الحوزة العلمية في قم، وجامعة المصطفى، وجامعة الأديان والمذاهب، وكلية أصول الدين. - شغل لحوالي ثمان سنوات منصب رئيس القسم الشيعي الإمامي في مؤسّسة خدمة علوم القرآن الكريم والسنّة الشريفة في القاهرة، والمكلّفة كتابة موسوعة الحديث النبوي الصحيح عند المسلمين. - تولّى مسؤولية المعاون العلمي للسيد محمود الهاشمي الشاهرودي في الإشراف على دائرة معارف الفقه الإسلامي طبقاً لمذهب أهل البيت عام 2009م ، وكذلك رئاسة الهيئة العلمية بالوكالة، وقد استمرّ معاوناً علميّاً للسيد الهاشمي الشاهرودي لمدّة أربع سنوات ونصف، أصدر خلالها سبعة عشر مجلّداً من القطع الكبير. - عمل أستاذاً لمرحلة السطوح في الحوزة العلمية لما يزيد عن خمس عشرة سنّة. - كان أستاذاً احتياطيّاً في جامعة الإمام الخميني. وأستاذاً لموادّ (الحديث والمستشرقون، مناهج التدريس الاجتهادي، الوضع في الحديث الشريف.. وغيرها من المواد) في جامعة آل البيت العالميّة. - شرع عام 2005م بتدريس البحث الخارج (الدراسات العليا) في الحوزة العلميّة في مدينة قم، في مادّتي: الفقه، وأصول الفقه. - أستاذ في تاريخ علم الرجال وتاريخ أصول الفقه، وفي مادّة فلسفة الدين وعلم الكلام الجديد، ومباحث علم الحديث المعاصرة.



المقالات المرتبطة

لاهوت التكفير وإشكاليّة التنزيل والتأويل

يتحدث القرآن الكريم في تحريف كلام الله والكلم في أربع آيات، وفي كتمان الكتاب وما أنزل من البينات والحق في حوالي ست آيات، وفي لبس الحقّ بالباطل في آيتين

في تحولات العولمة

ثمّة آفاق وتحدّيات عديدة تطلقها وتفرضها مسيرة التحولات والتطورات التي تجري في العالم اليوم وعلى مختلف المستويات. ولا يمكننا كمجتمعات

تجلي الأخلاق الإلهية في الإمام الحسين (ع)*

تعتبر أخلاق الإمام الحسين (ع) موضوعًا يستحق البحث والتأمل، حيث يُعَدُّ قدوةً أخلاقيةً للبشرية جمعاء. إن قصة صموده وتضحيته في معركة كربلاء أصبحت مرجعًا أخلاقيًّا يُلقِّن لنا دروسًا

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<