فكرة الحياد – مقاربة إنجيلية

فكرة الحياد – مقاربة إنجيلية

استخدم السيد المسيح (عليه السلام) في دعوته إلى ملكوت الله، الأمثال المرمّزة وأسلوب القصص، وذلك بذكاء متناه يرمي إلى إيصال جوهر فكرته من جهة، وهامشًا واسعًا يسمح له بعدم الدخول في مواجهة مباشرة غير متكافئة مع السلطة الرومانية الحاكمة في فلسطين آنذاك، وبوجه السلطة الدينية اليهودية التي استأثرت بالكهنوت وتفسير اللاهوت وتطويعه بما يتناسب مع مصالحها.

ففي مرقس، الإصحاح ٤، الآيتان ٣٣و ٣٤ “وكان يكلّمهم بأمثال كثيرة، ليلقي إليهم كلمة الله، بمقدار ما يستطيعون أن يسمعوها. ولم يكلّمهم من دون أمثال؛ فإذا انفرد بتلاميذه فسّر لهم كل شيء”.

وبعد هذه المقدّمة، فإننا نعرض فكرة الحياد بوصفها موقفًا يقف فيه صاحبه على “التلّ” متفرّجًا ساكنًا، حتى ولو أطلق عليه صفة الإيجابية، إذ أن ذلك لا يغيّر واقعًا من كونه وقوفًا على رصيف التشوّف باتجاه ما يجري. ويكون السؤال النقدي والتفكيكي: هل أقرّ المسيح ومارس الحياد في حياته الفكرية على مستوى اللاهوت، أو على مستوى الصراع السلوكي القيمي بين الحق والباطل؟

ففي جولة دالّة على نصوص إنجيلية هامّة وتأسيسية، نخلص إلى نتيجة واضحة ناصعة لا تخضع لتأويل معارض أو ناقض لها، كاستنتاج حاسم نذكره قبل إيراد النصوص المؤكّدة عليه؛ بحيث إن النتيجة هي:

لا حياد أبدًا في المواجهة بين الحق والباطل.

ولا حياد اتجاه ثنائية الجمع بين عبادة ربّين. وهذا جمع لنقيضين لا يجتمعان.

ولا حياد أمام استغلال الدين وتعاليمه و”سرقة الله”، واستغلال المعبد – الهيكل/ الرمز، من قبل لصوص الربا وتحالف المال الفاسد مع السلطة الدينية التي تؤمّن الغطاء له. وسنعرض عدّة نصوص إنجيلية كنماذج على ذلك:

النموذج الأول: وجوب حرق الزؤان“.

ففي متّى، الإصحاح ١٣، الآيات ٢٤_ ٣٠ مكتوب “.. مثل ملكوت السماوات كمثل رجل زرع زرعًا طيّبًا في حقله. وبينما الناس نائمون، جاء عدوّه فزرع بعده بين القمح زؤانًا وانصرف. فلمّا نما النبات وأخرج سنبله ظهر معه الزؤان. فجاء رب البيت خدمه وقالوا له: يا رب، ألم تزرع زرعًا طيّبًا في حقلك؟ فمن أين جاء الزؤان؟ فقال لهم: أحد الأعداء فعل ذلك. فقال له الخدم: أفتريد أن نذهب فنجمعه؟ فقال: لا، مخافة أن تقلعوا القمح وأنتم تجمعون الزؤان، فدعوهما ينبتان معًا إلى يوم الحصاد، حتى إذا أتى وقت الحصاد، أقول للحصّادين؛ اجمعوا الزؤان أولًا، واربطوه حزمًا ليحرق، وأما القمح فاجمعوه وأتوا به إلى أهرائي”.

إنه مَثَلٌ رائع وواضح، يميّز فيه بين فعل الخير (الزرع الطيّب)، وفعل الشر ونسبه إلى العدو (فجاء عدوّه فزرع.. زؤانًا). وانتقل بعدها إلى تحديد التكليف المناسب والواضح والخيار الحصري في التعاطي مع الزؤان بما يلي:

  • انتظار الوقت المناسب حتى يظهر واضحًا جليًّا.
  • المبادرة الحاسمة لجمع كل الزؤان ثم حرقه بالكامل.

الدلالات:

لا جهد مع هذا المثال في رؤية فعل المقاومة على مستوى المنظور/ البارادايم؛ لجهة التمييز بين فعل أهل الخير وفعل أهل الشر والعدوان. ثم على مستوى الأداء السلوكي الإيجابي؛ (أي الفاعل والمبادر، وليس المنفعل أو المتلقّي، أو المحايد) في جمع الزؤان وحرقه بالكامل.

النموذج الثاني: “لا وقوف على التلّ وإدانة موقف المتفرج”.

في لوقا، الإصحاح ١٤؛ الآيات ٢٨- ٣٠  ورد:

“من منكم إذا أراد أن يبني برجًا، لا يجلس قبل ذلك ويحسب النفقة ليرى هل بإمكانه أن يتمّه؛ مخافة أن يضع الأساس ولا يقدر على الإتمام، فيأخذ جميع الناظرين إليه يسخرون منه ويقولون؛ هذا الرجل شرع في بناء ولم يقدر على إتمامه”.

الدلالات:

يشير السيد المسيح في هذا المثال إلى وجوب التخطيط وإعداد العدة قبل بناء “برج الحياة؛ بما يحمله هذا المصطلح من الارتقاء والعزة والمتانة والثبات والأصالة والمقاومة”. كما ويؤكّد السيد المسيح على قاعدة إتمام العمل، وعدم الاستسلام والتراجع حتى لا يذهب العمل هدرًا وتحت طائلة الفشل وسخرية الشامتين.

النموذج الثالث: “قاعدة التكوثر النوعي”.

في متّى، الإصحاح ١٣؛ الآية ٣٣، ورد:

“… مثل ملكوت السماوات كمثل خميرة أخذتها امرأة، فجعلتها في ثلاثة مكاييل من الدقيق حتى اختمرت كلها”.

الدلالات:

تأكيد على الفعالية، والعمل الإيجابي المبادر، وعلى نوعية العمل، وأنه فوق مسألة الجندر أو الجنس، وأنه باستجماع هذه الشروط تكون النتائج مضاعفة. ولعل الإشارة الأهم تكمن في أن ملكوت السماوات أو ملكوت الله لا يقوم إلا بالعمل والمبادرة النوعيتين؛ خاصة إذا عطفنا ذلك على ما  ورد في “صلاة الأبانا” الإنجيلية لجهة الربط بين تحقق المشيئة الإلهية في الأرض كما في السماء ومجيء الملكوت: “ليأتِ ملكوتك؛ ولتكن مشيئتك في الأرض كما في السماء”. حيث تظهر السنّة الإلهية التي تربط مجيء الملكوت بتوفّر شروط تحقق المشيئة في الأرض ربطًا بموقف الإنسان المؤمن المستجيب لهذه المشيئة عبر فعله وسلوكه، بعيدًا عن أي حياد وانتظار سلبي.

النموذج الرابع: أسلوب الكِوان”؛ أي الأقوال المرمّزة وهي معتمدة في “فلسفة الزنّ” التأمّلية؛ وهي أقوال تتجاوز الدلالة المنطقية نحو التعمّق في الذات الإنسانية.

وكمثال على ذلك ويدل على التمييز بين الحياة البيولوجية، والحياة الطيبة الفاعلة الممهدة لملكوت الله ما ورد في لوقا، الإصحاح ٩، الآية ٦٠:

“دع الموتى يدفنون موتاهم؛ وأما أنت فامضِ وبشّر بملكوت الله”.

الدلالات:

الحث على التمايز عن أهل الدنيا وزخارفها والماديات والتعلّقات الجاذبة للإنسان نحو أرض المادة وبما يبعده عن سماء المعنى، واعتبار السيد المسيح لهذه الحياة المقتصرة فقط على البعد البيولوجي على أنها موت، بينما تكمن الحياة الحقيقة في التمهيد لملكوت الله وهي الحياة الطيبة والباقية. وهكذا نرى مرة جديدة أنه حتى على هذا المستوى من التفكير فإنه لا حياد. فإما أن يكون المرء مع موتى الأحياء، وإما أن يكون حيًّا أبديًّا في ملكوت الله.

وهذا هو معيار الغربلة لحقيقة ما في النفوس، وعليه يكون الفوز أو الخسران؛ لأنه “كثيرون من الأولين يصيرون آخرِين، والآخرِون يصيرون أوّلين”[1].

النموذج الخامس: “البعد الإيماني ودوره الحاسم في الصراع الوجودي/الأنطولوجي”.

ففي مرقس، الإصحاح ١١، الآية ٢٣:

“من قال لهذا الجبل؛ قم فاهبط في البحر، وهو لا يشكّ في قلبه بل يؤمن بأن ما يقوله سيحدث، كان له هذا”.

الدلالات:

في هذا الكلام دينامية نفسية في تقوية الروح والصمود والإرادة، ومواجهة أكبر التحديات، وتأكيد على الدور الحاسم للإيمان في تحقيق النتائج المرجوة؛ لأنه وتبعًا لعالِم النفس “يونغ” فإن مثل هذه الصور تدخلنا في علاقة بذاتنا الحقيقية، وترشدنا إلى الينابيع الداخلية التي تتدفّق فينا. كما أن الجبل في الأحلام، يمثل العائق، وأنه لا بدّ من إزالته.

فلا حياد إذن مهما بلغت العوائق والصعوبات، تحت طائلة رفض رب البيت لأن يفتح بابه أمام المتخاذلين، كما ورد في لوقا، الإصحاح ١٣، الآية ٢٥: “إذا قام رب البيت وأقفل الباب، فوقفتم خارجه وأخذتم تقرعون الباب وتقولون: يا رب افتح لنا، فيجيبكم، لا أعرف من أين أنتم”.

النموذج السادس: “لا حياد حتى في الصراع مع الذات”.

ففي متّى، الإصحاح ٥، الآيات ٢٩ وما بعدها: “.. إذا كانت يدك اليمنى حجر عثرة لك، فاقطعها وألقها عنك؛ فلئن يهلك عضو من أعضائك خير لك من أن يذهب جسدك كله إلى جهنم”.

الدلالات:

لا أعتقد بوجود نص أكثر قوة ودلالة وراديكالية من هذا النص الحاسم الذي يحظر الحياد حتى على مستوى الجوارح والجوانح والأعضاء عند الإنسان ذاته.

الخلاصة

لا حياد في الإنجيل ونصوصه في الصراع بين الحق والباطل مهما كانت مسمّياته (حياد إيجابي أم سلبي) فهو مرفوض ومدان.

والحياة جهاد وتضحية وبذل وصبر وعمل نوعي ومقاومة واضحة الشعارات والسلوكيات، ولا مهادنة في ذلك أبدًا؛ “أتظنون أني جئت لأجل السلام في الأرض؟ أقول لكم؛ لا، بل الانقسام”[2]. إنه الانقسام والفصل بين الحق والباطل، وبين المظلوم والظالم.

ويجب تحمّل الثمن مهما غلت التضحيات؛ “من أراد أن يتبعني، فليزهد بنفسه ويحمل صليبه ويتبعني، لأن الذي يريد أن يخلّص حياته يفقدها، وأما الذي يفقد حياته في سبيلي فإنه يجدها”[3]. نعم إنها طريق ذات الشوكة كما في القرآن الكريم، الذي ورد فيه سؤال محفّز كبير “فماذا بعد الحق إلا الضلال ؟!”.

وأي حياد في هذه المعركة الوجودية فإنه يعرّض أهل الحياد لقاعدة الاستبدال أو نزع الملكوت وإعطائه لمن يستحقه؛ وهذا ما أعلنه صراحة السيد المسيح “لذلك أقول لكم: إن ملكوت الله سينزع منكم ويُعطى لأمّة تثمر ثمره”[4].

[1]  مرقس، الإصحاح ١٠، الآية ٣١.

[2] لوقا، الإصحاح ١٢، الآية ٥١.

[3]  متّى، الإصحاح ١٦، الآيتان ٢٤و ٢٥.

[4]  متى، الإصحاح ٢١، الآية ٤٣.


الكلمات المفتاحيّة لهذا المقال:
الحيادالدولةالصراعالإنجيل

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<