by الدكتورة ليلى صالح | أغسطس 12, 2020 11:32 ص
لكل مفهوم بيئة أنتجته وجعلت منه حاملًا لسمات المرحلة التي أنتجته، والحياد السياسي من المفاهيم السياسية التي تم تبيئتها في مرحلة ما بعد الحداثة مع ثنائي (الموضوعية والذاتية).
مصطلح السياسة لغويًّا مأخوذ من فعل ساس الذي يعني رتّب ونظّم وسيّرَ، ومضارعه يسوس؛ أي يعالج الأمور ليصبح المعنى معالجة الأمور بعد ترتيبها وتنظيمها وفق مبادىء وأيديولوجيا معينة. بالتالي عُرِّف المفهوم العام للسياسة بأنه مجموعة الإجراءات والأساليب والسُبُل الخاصة باتخاذ القرارات لتنظيم الحياة الاجتماعية، السياسية، الاقتصادية، التنموية، البشرية، الدينية، والإنسانية عامة.
على ضوء هذه المقاربة تنظّم السياسة العلاقة بين الحاكم (السلطة)، والمحكوم (الشعب)، وبين الدولة والدول المجاورة الإقليمية والدولية، فهي جزء لا يتجزّأ من البيئة المحيطة والمجتمع الدولي، ولا يسعها عزل سياستها عن تداعيات هذه البيئة الدولية والإقليمية، ما أنتج مجموعة جدليات حكمت تاريخ منطقتنا العربية، منها: جدلية الداخل والخارج[1][1]، وقد تداول مؤخرًا تعريفًا للسياسة باعتبارها فن الممكن، الذي يعني الخضوع للواقع السياسي وعدم تغييره بناء على حسابات القوة والمصلحة.
والحِيادُ من مصدر حَايَد:َ عدَمُ الميْل إِلى أي طرفٍ من أَطرافِ الخُصومة، ونقول على الحِياد: غير منحاز لأيٍّ من الطرفين، وهناك الحِيادُ الإيجابيّ: (السياسة) مذهب سياسيّ وضعيّ يقوم على عدم الانحياز إلى كتلة من الكتل المتصارعة دوليًّا، فيقال: اتَّبعت الدولةُ سياسةَ الحياد الإيجابيّ. كما هناك الحِياد السِّياسيّ: (السياسة) مذهب سياسيّ يقوم على عدم الانحياز إلى كتلة سياسيّة من الكتل المتصارعة في الميدان السِّياسيّ الداخلي [2][2]. فالحياد موضوعيًّا يقصد به الوقوف على نفس المسافة بين الجهات المتنازعة.
وبما أن الموضوعية يُعبَّر عنها بأنها إدراك الأشياء على ما هي عليه دون أن يشوبها أهواء أو مصالح أو تحيّزات، حيث يرى الباحثون في العلوم الاجتماعية بأن الموضوعية تشير إلى حقيقة مستقلة عن الباحث، بمعنى لا يكون للباحث مرجعية فكرية تخرجه عن عملية البحث، من قبيل الآراء المسبقة، ويرجحون تفسير الاختلافات في النتائج البحثية إلى الذاتية المتمثّلة بالمنظار الثقافي الذي يرى من خلاله الباحث الإشكالية والنتائج البحثية، التي تبعده عن الحقيقة الواقعية بحسب مقاربتهم.
في سياق هذه المقاربة للسياسة والموضوعية والذاتية نشأت بيئة لتبلور مصطلح الحياد السياسي، وانبثق عنه مصطلحات سياسية عدّة، منها: المنطقة المحايدة، محكمة محايدة، وغيرها، حتى أصبح الحياد السياسي اليوم مذهب سياسي يقوم على عدم الانحياز لأحد الأطراف المتنازعة في الصراع، واعتُبر مفهوم الحِياديّة أحد أهمّ المَفاهيم المُرتبطة بالفكر الإنساني عمومًا، والسياسي على وجه الخصوص، مما يُسقط الكثيرون بوَهْمٍ مفاده أنّ الحياديّة هي المدخل والأساس للوصول إلى الموضوعيّة.
ولا يغفلنا بأن البعض يتخذ من الحِياد منهجًا ووسيلةً للخروج من دائرةِ الحَرَج، لذلك فإنّ كُثُر من أهل الحياد قد يلجأون إليه خوفًا على أنفسهم ومصالحهم أكثر مما يعبّرون فيه عن مبدأ ومذهب سياسي. فنجد الحياد وسيلة يلجأ إليه البعض ويرفعه شعارًا وادعاءً، وهم ينتظرون نهاية الصراع لقطف الثمار، ليصبح الحياد منهج من لا مبدأ سياسي لهم.
كما أن محاولة التماثل بين مفهومي الحياد والموضوعية هو تمامًا كالتماثل بين مفهومي المساواة والعدل، فثمّة مائز مهم وبَيّن بين المساواة والعدل، في حين أن المساواة تعني توزيع الحصص بالتساوي على الأطراف دون لحاظ احتياجاتهم، يأتي العدل ليعطي كل صاحب حاجة ما يحتاجه من حصص ليصل إلى حالة إشباع الحاجات، وللتوضيح أكثر سنطرح المثال التالي:
لو أننا أمام شخصين مختلفي الطول وبحاجة ليصلوا إلى ارتفاع محدّد ليتمكّنوا من الرؤية، المساواة تفرض أن نعطي كل شخص نفس العدد من الصناديق ليقف عليها ويتمكن من رؤية مشهدٍ ما، إلّا أن هذه المساواة لن تمكّن قصير القامة من الرؤية فيطاله الظلم ويأتي العدل ليوزع الصناديق بحسب الحاجة، فتحصل نفس الفرصة في الرؤية، ويتحقق التكافؤ في الفرص الذي هو تمام العدل.
فإذا كان عدم الانحياز يعني أن نقف على نفس المسافة من طرفي النزاع فهذا حتمًا لا يعني أن نساوي بين المجرم والضحية تحت هذا الشعار، وأن نعطي نفس الفرصة للمستعمِر والمستعمَر، أو أن نتهرّب من مسؤولياتنا الوطنية والقومية والتاريخية والاجتماعية، فالأوطان تُبنى بمواقف الرجال الرجال.
في هذا السياق يقول الزعيم الأميركي مارتن لوثر كينغ: “إن أسوأ مكان في الجحيم مخصّص لأولئك الذين يقفون على الحياد في المعارك الأخلاقية الكبرى”[3][3].
ففي السياسة، عندما يطرح مصطلح الحياد، يقصد به السكوت أو النأي بالنفس، والاكتفاء بالتفرّج على معركة طاحِنة تدور بين الحقّ والباطل، والقبول بمخطط تفرضه القوى الاستكبارية المهيمنة على الشعوب المستضعفة، حيث يلتجئ إليه الهاربون للأمان حينما تدقّ الحرب أجراسها طلبًا للنجاة والسلامة، سيّما وأنّ فكرة الحِياد في مضمونها مهما توهم البعض بوصفها انعكاس لصورة الاستقامة والوسطيّة، لكنّها في الواقع هروب ونأي بالنفس خوف التهلكة من جهة، وتهرّب من تحمل المسؤولية الوطنية والإنسانية أمام القضايا المصيرية المحقة من جهة أخرى.
فإذا كان الحياد السياسي مذهبًا ينتهجه البعض في سياسته، ألا يتنافى مع الموقف الأخلاقي الذي هو الوقوف مع العدل ضد الظلم الواضح، ضد الحصار الاقتصادي الواضح، الذي يهدّدنا اليوم بلقمة عيشنا؟ هل ميّزت أميركا اليوم في حصارها الاقتصادي على لبنان بين مجتمع المقاومة والقوى المحايدة التي تنتهج منهج الحياد السياسي؟ فهل تبقى أعذار للصامتين والمحايدين؟
وفي سياق مذهب الحيادية الموضوعية يتموضع كثر من الساسة، وبهذا الموقف الذي يساوون فيه بين الظالِم والمظلوم يمارس فيه المحايدون التضليل على الناس وتغيير الحقائق عن قصد وغير قصد، وتؤدّي مواقفهم إلى التنكّر للحقائق البيّنة. لذا، إنّ أشدّ أنواع الحياد تهديمًا للإنسانية هو ذلك الذي يشهّر بالطرفين طلبًا للموضوعية، وتجنّبًا للذاتية، بذلك يكونون أشدّ ظُلمًا للحق من أهل الباطِل.
فالحياد قد يكون له معنى عندما لا يمس بالأمن المعيشي والإنساني لأي بلد وبالأمن القومي للدولة.
[1][4] للمزيد انظر: إبراهيم سعد الدين، المجتمع والدولة في الوطن العربي، (بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، الفصل الأول، 1996).
[2][5] https://www.almaany.com/ar/dict/ar-ar/%D8%AD%D9%8A%D8%A7%D8%AF[6]
تاريخ الدخول: 28/7/2020
[3][7] http://sahafatak.net/show542186.html[8]
تاريخ الدخول: 28/7/2020
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
Source URL: https://maarefhekmiya.org/10223/hiyad5/
Copyright ©2024 معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية unless otherwise noted.