الشعائر العاشورائية في ضوء منهج الدراسات الأنثروبولوجية
الشَّعائرُ الحسينيَّةُ لها دورًا عظيمـًا في الحفاظِ على الصِّبغةِ الإصلاحيَّةِ للنهضةِ الحسينيَّة، وأنَّها انمازتْ بطابعٍ يختلفُ عن بقيةِ الثَّورات الإصلاحيَّة، في ضوءِ التَّأكيد على أنَّ المبادئ التي أطَّرتْ تلكَ النَّهضةُ هي مبادئ الإسلام عينها مِنْ: الأمرِ بالمعروفِ والنَّهيّ عَن المنكرِ، والجهاد في سبيلِ اللهِ، وإقامة حدود الله من: فرائضِ الدِّينِ والسننِ الإلهيَّة…، فهذهِ المبادئ نجدها واضحة في نصوصٍ واردة بحـقِّ الإمام الحـسين (عليه السلام) ومَنْ استُـشهدَ معهُ، فهي تضـجُّ بتلكَ المبادئ الحقّة، وتعجُّ بها، فجاءَ مثلًا في الزِّياراتِ: “وَأَشْهَدُ أَنَّكَ جَاْهَدْتَ فِيْ سَبِيْلِ اللهِ حَقَّ جِهادِهِ، لَمْ تَأْخذْكَ فِي اللهِ لَوْمَةُ لَائِم”([1])، وَ”اَنَّكَ قَدْ اَمَرْتَ بِالْقِسْطِ وَالْعَدْلِ وَدَعَوْتَ اِلَيْهِ”([2])، وَ”اَشْهَدُ اَنَّكَ قَدْ اَقَمْتَ الصَّلاةَ، وَآتَيْتَ الزَّكاةَ، وَاَمَرْتَ بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهَيْتَ عَنِ المُنْكَرِ، وَدَعَوْتَ اِلى سَبيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ…”([3]).
تلكَ هي المبادئُ الحقّةُ للنَّهضةِ، والتي حُفِظتْ بفضلِ الشَّعائرِ الحسينيَّة، فلو لم تکنْ الشَّعـائرُ لاستطاعَ الإعلامُ الأُمويُّ ـــــ مثلًا ــــــ أن يصوّرَ يزيدَ معاقرُ الخمرِ، مُلاعبَ القرودِ، هادمُ الكعبةِ إمامًا للمسلمينَ، وأنَّ الخارجَ عليهِ خارجٌ عن ربقةِ الإسلامِ.
لذا كانتْ الشَّعائرُ الحسينيَّة بيانًا عمليًّا لمبادئِ النَّهضة وأُسسها، و”لقد عَمِلَ أهلُ البيتِ (عليهمُ السَّلام) على ترسيخِ الشَّعائرِ الحسينيَّة في وجدانِ الأُمّةِ، واتخذوا سُبُلًا مُختلفةً لإحياءِ تلك الشَّعائر، التي مِنْ شأنِها أن تجعلَ ذكرى الإمام الحسين (عليهِ السَّلام) ماثلةٌ للعيانِ، ومتجدّدةً في كلّ حين، وهذا مِنْ شأنهِ أن يُرسّخَ لدى الأُمَّة أهداف ومبادئ حركة الإمام الحسين(عليهِ السَّلام)…“([4]).
وَمِنْ هذهِ الشَّعائر شعيرُ لبسُ السَّوادِ؛ إذ ذكر علماءُ النَّفسِ والاجتماعِ أنَّ للَّونَ تأثيرًا سيكولوجيًّا على النَّفسِ، فتحدثُ أحاسيسَ ينتجُ عنها اهتزازاتٍ، بعضها يحملُ سماتِ الرَّاحةِ، والآخرُ يحملُ صفاتَ الإرهاقِ والاضطرابِ، وتنقسمُ هذهِ التَّأثيرات إلى مباشرةٍ كالفرحِ والحزنِ، وغير مباشرة تتغيّرُ حسب الفردِ.
فاللَّونُ الأحمرُ- على سبيلِ التَّمثيلِ- يُشيرُ إلى العاطفةِ الجيَّاشةِ والاندفاعِ، كما يُشارُ بهِ إلى القتالِ والحروبِ والدَّمِ؛ حتّى أنَّ بعضَ القبائلِ العربيَّةِ تجعلُ اللَّونَ الأحمرِ شعارًا لها لتخويفِ أعدائها.
واللَّونُ الأصفرُ يبعثُ على السُّرورِ، ولعلَّ ما في قولهِ تعالى: ﴿إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ﴾([5])، إشارةٌ إلى ذلكَ، في حين أنَّ اصفرارَ الجسمِ علامةٌ على عدمِ الصَّحةِ، واصفرارُ الزَّرعِ قبلَ أوان اصفرارهِ علامةٌ على فسادهِ.
وَمِنْ خصائصِ اللَّونِ الأسودِ أَنَّهُ يرمزُ مِنْ جهةٍ للقوّةِ، ويدلُّ على احترامِ النَّفسِ والاعتزازِ بها، وفي الوقتِ نفسهُ هو لونُ الاكتئابِ والحزنِ والحدادِ، فهو اللَّون التَّقليديّ للحدادِ في الكثيرِ مِنْ البلدانِ.
وقد وردتْ في بعضِ الآياتِ مِنْ القرآنِ الكريم ما يؤيدُ ذلكَ، منها ما جاءَ في قولهِ تعالى:﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ﴾([6]).
قالَ الرَّاغبُ: “ابيضاضُ الوجهِ عبارةٌ عن المسرَّةِ، واسودادها عن الغمِ”([7]).
إذًا، في هذهِ الآيات إشارةٌ إلى الحزنِ والكآبةِ والأذى التي يكونُ عليها الإنسانُ في تلكَ الحالاتِ، ويضادُّ اللَّونُ الأسودِ اللَّونَ الأبيض الذي يرمزُ إلى الطهارةِ والاستبشار، وما شاكلَ ذلكَ، سواءً أكان المرادُ بالاسودادِ والابيضاضِ هو المعنى الكنائيّ أم الحقيقيّ.
والسَّوادُ عندَ الشُّعوبِ نجدُ أَنَّ كُلَّ أُمّة أو شعب عندما يريدُ لبسَ لونٍ معينٍ يدَّعي أنَّ اللَّونَ الذي يختارهُ يرمزُ إلى شيءٍ؛ فالأصفرُ يرمزُ إلى سقوطِ الجسدِ؛ لأَنَّهُ لون الورقة عند ذبولها، والأزرقُ يرمزُ إلى المسكنِ السَّماويّ الذي تصيرُ إليهِ نفس الصدّيق، والرَّماديّ إشارةٌ عند بعض الأممِ إلى أدمة التّراب الذي منهُ المنشأ وإليهِ المصير، والأبيضُ عندَ الصينيينَ إشارةٌ إلى الطَّهارةِ والخلودِ، والأسودُ عندَ الرُّومانِ واليونانِ إشارةٌ إلى المقرِ المظلمِ الذي يصيرُ إليهِ كلّ ميّتٍ([8]).
ولعلَّ الأسود عند العربِ والمسلمينَ يرمزُ إلى ما تقدّمتْ الإشارةُ إليهِ مِنْ انطفاءِ شعلةِ الحياةِ، فتكونُ الدنيا مظلمةٌ ومسودَّةٌ في عيونِ الأقرباءِ.
وَمِنْ الشُّواهدِ على جريانِ هذهِ العادةِ بيّن مختلفِ الأقوامِ والعربِ على وجهِ الخصوصِ، رُويَ: إنّ أوّل مَن خالفَ ذلكَ ولبسَ البياضَ عندَ الحزنِ على الميتِ هم ملوكُ الغربِ (أي: الأندلس) مِنْ بني أُميَّة؛ قصدًا لمخالفةِ بني العباسِ في لباسهم السَّواد([9])، وأنَّ أهلَ الأندلسِ أخذوا ذلكَ مِنْ الأُمويينَ([10]).
وجاءَ في تفسيرِ اللُّغويينَ للحدادِ بأَنَّهُ “ثيابُ المأتمِ السَّودُ”([11])، ورُوي عن رسولِ الله (صلَّى اللهُ عليهِ وآله) أَنَّهُ “قالَ لأسماءِ بنت عميس بعدَ مقتل جعفرٍ: (تسلّبي ثلاثًا، ثمَّ اصنعي ما شئتِ)؛ أي البسي ثوب الحداد، وهو السَّلاب، والجمع سلب، وتسلَّبت المرأة إذا لبستهُ، وقِيلَ: هو ثوبٌ أسود تُغطّي به المُحدُّ رأسها. ومنهُ حديث بنت أُمِّ سلمة (أنَّها بكتْ على حمزةِ ثلاثة أيّام وتسلَّبت)”([12]).
وإذا يمّمنا أبصارنا نحو حكم لبس السَّواد في عزاءِ الأئمَّةِ الأطهارِ(عليهم السَّلام)، والإمامُ الحسينِ (عليهِ السَّلام) على الخصوصِ بعد كلِّ ما تقدَّمَ، نصلُ إلى صُلبِ الموضوعِ وهو النَّظرُ في حكمِ لبس السَّواد في عزاءِ الأئمّةِ (عليهم السَّلام)؛ إذ اعتاد شيعةُ أهلِ البيتِ (عليهم السَّلام) على لبسِ السَّوادِ في وفياتِ الأئمَّةِ (عليهم السَّلام)، وفي أيَّامِ محرّم وصَفَر حُزنًا على سيّدِ شبابِ أهل الجنَّةِ وأهل بيتهِ (عليهم السَّلام)، وأصحابهِ (رضوانُ اللهِ عليهم)؛ إحياءً لأمرهم المنصوص عليهِ في الرُّواياتِ، إذ رُوي عنهم (عليهم السَّلام) قولهم: “أحيوا أمرنا… رحمَ الله مَن أحيا أمرنا”([13]).
فإنّ ارتداء السَّوادِ حزنًا عليهم إحياءٌ لأمرهم، وتجديدٌ لذكرهم، وبيانٌ لمظلوميتهم، وإبقاءٌ لما جرى عليهم ماثلًا أمام الأجيالِ.
من الرُّواياتِ التي استُدلُّ بها على مشروعيَّةِ لبس السَّوادِ حُزنًا على الحسينِ (عليهِ السَّلام)، بل استحبابهِ، عن عمر بن علي بن الحسين (عليهِ السَّلام)، قال:”لمّا قُتِلَ الحسينُ بن علي (عليهِ السَّلام) لبسنَ نساءُ بني هاشمٍ السَّواد، وكنَّ لا يشتكينَّ مِنْ حرٍّ ولا بردٍ، وكانَ علي بن الحسين (عليهِ السَّلام) يعمل لهنَّ الطعام للمأتمِ”([14]).
ومنها: ما وَرَدَ في بعضِ الرُّواياتِ مِنْ أَنَّهُ لمَّا أصبحَ يزيدُ بن معاوية استدعى حُرَمَ رسولِ اللهِ (صلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ)، فقال لهنَّ: “أيَّما أحبُّ إليكنَّ، المقامُ عندي أو الرُّجوع إلى المديِّنةِ، ولكم الجائزةُ السَّنيَّة؟ قالوا: نحبُّ أوّلًا أنْ ننوحَ على الحسينِ. قال: افعلوا ما بدا لكم، ثمّ أُخليت لهنَّ الحُجر والبيوت في دمشقٍ، ولم تبقَ هاشميَّة ولا قرشيَّة إلَّا ولبستْ السَّوادَ على الحسينِ (عليهِ السَّلام) وندبوهُ…”([15]).
ونستدلُّ مِنْ هاتينِ الرُّوايتينِ على مشروعيَّةِ لبس السَّواد الذي كانَ بحضورِ الإمام (عليهِ السَّلام) وعلمهِ، فهو تقريرٌ منهُ لذلكَ، خصوصًا أنَّ الظَّاهرَ أنَّهنَّ كنَّ قد لبسنهُ بعنوانِ العزاءِ، فلو لم يكن ذلكَ مِنْ شعائرِ العزاءِ وآدابهِ المندرجة في عمومِ تعظيم الشَّعائرِ لوجبَ عليهِ منعهنَّ مِنْ ذلكَ حذرًا مِنْ الإغراءِ بالجهلِ([16]).
وهناكَ كثيرٌ مِنْ الرُّواياتِ والشَّواهدِ التَّأريخيَّةِ على ظاهرةِ لبس السَّوادِ في العزاءِ، وَمِنْ هذهِ الرُّواياتِ والشَّواهدِ التَّأريخيَّةِ التي يُستدلُّ بها على حصولِ لبسِ السُّواد ما يلي:
1ـ لبسَ الإمامُ الحسن (عليهِ السَّلام) السَّوادَ على أبيهِ بعد شهادتهِ (عليهِ السَّلام): قالَ ابن أبي الحديد، واصفًا خروج الإمام الحسن بن علي (عليها السَّلام) إلى النَّاسِ بعد استشهاد أبيهِ أميرَ المؤمنينَ (عليه السَّلام): “وكانَ خرج إليهم وعليه ثيابٌ سود”([17]).
-
رؤيا سكينة بنت الحسين (عليهما السَّلام) الزَّهراء (عليها السَّلام) في المنامِ، وهي تندبُ الحسينَ (عليهِ السَّلام) وعليها ثيابٌ سودٌ، إذ قالتْ: “فإذا بخمس نسوة قد عظم الله خلقتهنّ، وزاد في نورهنّ، وبينهنّ امرأة عظيمة الخلقة، ناشرة شعرها، وعليها ثياب سود، وبيدها قميص مضمّخ بالدم، إلى أن ذكرت أنّها كانت فاطمة الزهراء سلام الله عليها”([18]).
-
عن أُمِّ سلمة (رضوانُ اللهِ عليها)، أنَّها لمَّا بلغها مقتل الإمام الحسين (عليهِ السَّلام)، ضربت قبّة سوداء في مسجدِ رسولِ الله، ولبستْ السَّوادَ([19]).
فهذهِ الأخبارُ واضحةُ الدَّلالة على مشروعيَّةِ لبس السَّواد، وعدم كراهتهِ في العزاءِ، بل وراجحيتهِ على أئمَّةِ الهدى وسادةِ الورى، وأنَّهُ لباس الحداد والحزن والعزاء على الفقيدِ مِنْ قديمِ الزَّمانِ، وهو أمرٌ متعارفٌ ومرسومٌ إلى يومنا هذا، ولا ردع عنهُ، بل إقراره والأمر بهِ موجود في الجملة، هذا مضافًا إلى استحبابهِ بعنوانِ إحياء الشَّعائر الحسينيَّة.
* كليَّة التربيَّة للبنات/ جامعة البصرة.
([1]) جعفر بن محمد ابن قولويه،كامل الزيارات، الصفحة 207.
([2]) المصدر نفسه، الصفحة 360.
([3]) المصدر نفسه، الصفحتان 371 و 372.
([4]) محمد باقر موسى جعفر، الشعائر الحسينية في العصرين الأُموي والعباسي، (العراق: كربلاء المقدسة، العتبة الحسينية المقدسة- قسم الشؤون الفكرية والثقافية، الطبعة 1، 1436 هـ- 2015م)، الصفحة 150.
([5]) سورة البقرة، الآية 69.
([6]) سورة آل عمران، الآيتان 106 و 107.
([7]) الحسين بن محمد الراغب الإصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، الصفحة 154.
([8]) ينظر: بطرس البستاني، دائرة المعارف، الجزء 6، الصفحات 710 ـ 713.
([9]) ينظر: عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، الوسائل إلى معرفة الأوائل، الصفحة 80.
([10]) ينظر: عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، المحاضرات والمحاورات، الصفحة 408.
([11]) إسماعيل بن حمّاد الجوهري، الصّحاح، الجزء 2، الصفحة 463.
([12]) ابن الأثير، النهاية في غريب الحديث، الجزء 2، الصفحة 387.
([13]) عبد الله بن جعفر الحميري القمي، قرب الإسناد، الصفحة 36.
([14]) أحمد بن محمد بن خالد البرقي، المحاسن، الجزء 2، الصفحة 420.
([15]) محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، مجلد 45، الصفحة 195.
([16]) ينظر: الميرزا جعفر الطباطبائي الحائري، إرشاد العباد إلى استحباب لبس السواد، الصفحة 29.
([17]) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، الجزء 16، الصفحة 22.
([18]) بحار الأنوار، مصدر سابق، المجلد 45 الصفحتان 195و 196 .
([19]) ينظر: أبو حنيفة النعمان، شرح الأخبار، الجزء 3، الصفحة 171.
المقالات المرتبطة
المرأة قوة التغيير القادمة..
السيدة الزهراء (ع).. لم تنتظر حركة الرجال لإنصافها، وإنما هي التي دشنت مسار الوقوف بوجه الزيف والانحراف.
نور على نور..
كان عليٌ وفاطمة ركنان لبيوتٍ أذن الله أن ترفع، تضاء بزيتٍ نوره لدنّي لا يحتاج إلى النار. إنه البيت الكامل جُمع فيه أصل الرسالة وتمامها.
التحدي المصيري أمام السلوك الاجتماعي
هل يُحافظ الإنسان على إنسانيته في العَالَم القاسي والبيئة الخشنة، أَمْ يتحوَّل إلى وحش كاسر للحِفاظ على وُجوده وسُلطته؟