الإصلاح في مشروع الثورة الحسينيّة
إنّ ما يُطرح حول إمكانية كون حركة الحسين(ع) هي مجرد استدرار للدمعة تعبيرًا عن عاطفة مذهبية في عصرنا، يدفعنا لتقديم أكثر من مطالعة نقدية لبعض القضايا، وذلك بهدف جعلها منسجمة قدر الإمكان مع قيم ثورة الحسين صلوات الله عليه. ولتكون حركتنا متماهية قدر الإمكان مع ما يريده الإمام الحسين(ع)، وكي يكون مشروعنا منسجمًا مع هدف الإمام الحسين(ع) أيضًا.
ربّما نكون قد سعينا بشكلٍ أو بآخر إلى استدرار العاطفة، وهذا صحيح، وفي محله ومورده، وليس هناك من مانع في أن يكون هناك استدرار للدمعة، ولكن يجب أن يكون مقرونًا بشرطين: أوّلًا، أن يكون هادفًا، وثانيًا، أن يكون متكاملًا مع أمور أو عناصر أخرى.
وهذا لا يتنافى مع مراد الحسين(ع)، فموضوع الدمعة مطلوب، ولكنه يجب أن يتكامل مع الفكر والوعي، أي يجب أن يتكامل مع دور العقل، وهذا التكامل هو الذي يسمح لنا بالوصول إلى تلك الأهداف الحسينيّة. ولذلك علينا أن نعيد قراءة الثورة الحسينيّة ومجمل ما يرتبط بها للوصول إلى هذه الغاية.
التكامل بين الدمعة والبعد الفكري
ذكرنا أنّ الدمعة وحدها لا تكفي، ولا بُدّ من أن يكون هناك تكامل بينها وبين العقل، أي بين عاطفة الدمعة وبين البعد الفكري. فاستدرار العاطفة أو الدمعة يجب أن يكون مقرونًا بفعل فكري وثقافي. ولا ينبغي الفصل ما بين هذين الجانبين، لأن الوصل بينهما نجده في القرآن الكريم، ونجده في المشروع الحسينيّ، ويجب أن يكون قائمًا في الخطاب الحسينيّ. فطمس الدمعة ليس صحيحًا، وإعلاؤها على صوت العقل ليس مطلوبًا أيضًا. يجب أن يكون هناك نوع من التكامل، وذلك لأن الدمعة لها دور أساسي في تغذية وتنمية البعد الإنساني والشخصية الإنسانية. فالإنسان ليس مجرد عقل، وإنّما هو قلب وعقل، وعلى قدر تنمية القلب (النفس) وتهذيبه وتزكيته وتربيته، فإنّه يسهم في إنتاج شخصية إنسانية سويّة، تتكامل فيها الأبعاد المختلفة من تربوية وأخلاقية وغير ذلك.
ومشكلة البشرية بشكلٍ أساسي تكمن في هذا الجانب الأخلاقي والقيمي والتربوي، وخصوصًا الجانب الذي يرتبط بالبعد الإيماني الصحيح، والاعتقاد الحقّ بالله سبحانه وتعالى، فيما يترتّب عليه من فعل للعدل ومجانبة الظلم.
هوية الحسين(ع)
إنّ ما قد يأخذه البعض علينا كشيعة لأهل البيت(ع)، هو إنّه إن كانت حركة الحسين(ع) إنسانية إسلامية محمدية، فلمَ نؤطّرها؟ وهل بسبب الضرورات الزمانية يمكن أن تتأطّر؟ أم إنّ هناك أسبابًا غير موضوعية تستهدف هذا البعد الحسينيّ العام؟
الحقيقة هي أنّنا لا نريد تأطير هذه التقاليد الحسينيّة، ولا نسعى لمذهبتها، بل نحن على مستوى الخطاب والمشروع والتقاليد الحسينيّة نسعى لإعطاء كل ما تقدّم بعده الحسينيّ العام، أي هذا البعد الإنساني الإسلامي والقيمي. وغير صحيح اتهامنا بأنّ الإصلاح الذي هو هدف أساسي للثورة الحسينيّة يستخدم كمحرّك مذهبي، فالإصلاح هو محرّك إنساني بالدرجة الأولى، وقيمي رسالي بالدرجة الثانية، وهو محرّك له أبعاد إسلامية، ويشمل أيضًا جميع الأبعاد الإنسانية التي تتماهى في هذا المعنى الذي نتحدّث فيه.
وإنْ أخذنا على سبيل المثال ما يحدث في مواسم عاشوراء عند أهل الإيمان المسيحي من مشاركة محمودة في إحياء الشعائر الحسينيّة، وأيضًا مشاركة الإخوان السُّنّة في العديد من المناسبات، فهذا يعني أن أحضان التقاليد الحسينيّة تتسع لتشمل هؤلاء وأكثر.
كذلك هناك الكثير من المواضيع التي كتبت تحت عنوان: كيف نجعل من المناسبات الحسينيّة عنوانًا للوحدة الإسلامية، بل للوحدة الإيمانية؟ وذلك لأن هدف الإمام الحسين(ع) من ثورته هو الإصلاح في جميع أبعاده وعلى كل المستويات. وهذا الإصلاح الذي يعدّ الهدف الرئيس من الثورة الحسينيّة يستوي فيه أصحاب هذا المذهب وذاك المذهب، ويستوي فيه المسلم والمسيحي.
وهذا يؤدّي بالنتيجة إلى أنّ إحياء الثورة الحسينيّة هو إحياء لأهدافها التي تتشارك في طلبها الإنسانية جمعاء، ويسعى إليها البشر بصرف النظر عن المذهب أو الدين، بحيث نتظلّل جميعًا تحت خيمة الإمام الحسين(ع) الإصلاحية، بما تحويه من قيم جليلة ومعانٍ سامية.
وعلى فرض أنّنا أردنا وضع بطاقة هوية للحسين(ع)، وقلنا إنّه الحسين بن علي(ع)، وأمّه فاطمة(ع)، وجدّه خير خلق الله محمد(ص)، فهو لا يتنافى مع الدور الرسالي والإصلاحي والإنساني لثورة الإمام الحسين(ع)، لأنّنا نشير بتلك الهويّة إلى البيت النبوي الذي ينتمي إليه، والمدرسة التي يعدّ واحدًا من أقطابها.
لكن المهم أن يبقى كل ذلك في إطار فهمنا العام للدور الأساس للرسالات الإلهية، وفي جوهرها العدل والإصلاح. والسؤال الذي يُطرَح هو: هل نستطيع أن ننطلق بعملية الإصلاح بشكل سليم إن قيّدنا الإمام الحسين(ع) مذهبيًا؟ أم إنّه من حق كل البشرية من مسلمين ومسيحيين وغيرهم، أن يكون لهم انتماء إلى هوية الإمام الحسين(ع)؟
الواقع يفرض أنّ هوية الإمام الحسين(ع) هي العدالة والإصلاح، ومن انتمى إلى العدل والإصلاح، فقد انتمى إلى الإمام الحسين(ع)، ومن رفض أن ينتمي إلى العدل والإصلاح، سواء كان مسلمًا شيعيًّا أو سنيًّا، أو انتمى إلى أي دينٍ آخر، فهو لا ينتمي إلى الحسين(ع). وكم من المسلمين الشيعة وغيرهم لا ينتمون إلى الحسين(ع) في قيمه وأهداف ثورته، لأنّهم انتموا إلى الفساد. ومن انتمى إلى الفساد، فقد انتمى إلى يزيد، وليس إلى الحسين(ع)، ولو مارس شيئًا من طقوس الحسين(ع).
كربلاء والثّأر الجاهلي من محمّد(ص)
عندما كان الإمام الحسين(ع) يسأل القوم الذين يحاربونه: “علام تقاتلونني؟” كان جوابهم: “بغضاَ منّا لأبيك”([2])، نحن نعرف أنك ابن بنت رسول الله(ص)، وكانوا يعلمون قول رسول الله(ص) فيه: “الحسن والحسين(ع) سيدا شباب أهل الجنة”([3])، لكنّهم كانوا يجيبون إنّنا نقاتلك بغضًا منّا لأبيك، ذلك لأنّ أباه الإمام عليًّا(ع)، هو الذي أعمل فيهم السيف في بدر وفي أُحد وغيرهما. وقد وجدت الأحقاد البدرية والأُحديّة والحنينية الكامنة في نفوسهم طريقًا ومتنفسًا لها في كربلاء. فهم لم يستطيعوا أن يظهروا حقدهم في رسول الله(ص)، فأظهروه في أهله، في علي، والحسن والحسين عليهم السلام، وفي أولادهم، لأنّ عليًّا(ع) حمل عن النبي(ص) ما لم يحمله أحدٌ آخر، وبذل كلّ شيء من أجل نصرة رسالة النبي(ص) والدفاع عنه.
ولو أنّ أي أمّةٍ استطاعت أن تنظر إلى أهل البيت(ع) من هذه الزاوية، لاستطاعت أن تفهم ما جرى عليهم في العصور اللاحقة. فديدن النبي(ص) وأهل البيت (عليهم السلام) هو ديدن المصلحين الذين تنطبق عليهم سُنّة الإصلاح، وهي أنْ إنْ أردت الإصلاح ومواجهة الظّلم والفساد، فعليك أن تدفع ضريبة عالية جدًّا.
وإذا حاولنا أن نقرأ مسار البشرية، وتاريخها في مجمله، كما عرضه القرآن الكريم، فإنّ النتيجة التي نتوصّل إليها هي أنّ جميع الأنبياء(ع) قد دفعوا هذه الضريبة، فجميعهم كانوا إصلاحيين، بغض النظر عن نوع الإصلاح الذي أكّد عليه نبيٌّ أكثر من غيره. إذ إنّ بعضه كان أخلاقيًا أو اعتقاديًا أو اقتصاديًّا، كالإصلاح الذي أتى به النبي شعيب(ع)، حيث أمر الناس أن يبتعدوا عن الغشّ، ودعاهم إلى إعطاء الآخرين حقوقهم في الميزان. لقد كان الإصلاح متناسبًا مع طبيعة الفساد السائد في كل عصر. وكان في المقابل من واجه إصلاحهم، واستخدم كلّ شيء لإفشاله، بما في ذلك تأويل الدّين نفسه، فضلًا عن السّلطة والسيف.
[1] مقال مقتطع من كتاب كيف نفهم الحسين (ع) وعاشوراء؟، الصادر عن دار المعارف الحكمية 1442هـ.
1- الأبطحي، الشيعة في أحاديث الفريقين، (قم: مطبعة أمير، الطبعة 1، 1416هـ.ق.)، الصفحة 302.
2- الصّدوق، الأمالي، (قم: مؤسّسة البعثة، قم، الطبعة 1، 1417هـ.ق.)، الصفحة 187.
المقالات المرتبطة
الإنسان والمجتمع والحكم والسلطة والحاكميّة
نّ الباحث في الأصول العقديّة والفقهيّة الإسلاميّة لدى مختلف الطوائف فيها يتبيّن له بوضوح أنّ علومها المختلفة تحاكي أحوال ومتغيّرات وأوضاع “الإنسان الفرد”
اْلعَاْلِمُ الْعَاْمِلُ مُسْلِمُ بْنُ عَقِيْلْ (ع)
هو الذي قابل جموع أهل الكوفة وحده من دون أن يعينه أو يقف إلى جنبه أي أحد، فأشاع فيهم القتل مما ملأ قلوبهم ذعرًا وخوفًا، ولمّا جيء به أسيرًا على ابن زياد لم يظهر عليه أي ذل أو انكسار.
عبد الله بن سبأ (بين الأسطوريّة وتضخيم الدور)
يُعتبر عبد الله بن سبأ من أكثر الشخصيّات غموضًا وجدليّةً في التاريخ الإسلامي، وتتراوح الأقوال فيه ما بين نافٍ لوجوده أصلًا ومعتبرًا له من الشخصيّات الأسطوريّة، وما بين ناسبٍ له أعمالًا عظيمة لا يمكن أن يقوم بها إلا عبقري من طراز فذ، فهو لا بدّ أن يكون ذا عيون مغناطيسية تكسر الصخور،