مفهوم الشّهادة في فكر شريعتي (الثّورة، الثّأر، الوراثة)
“كم هي غيرُ قابلةٍ للتّحمّل رؤيةُ كلّ ذلك الألم، كلّ هذه المأساة في ملامح ما، الملامحُ التي تقصّ كلَّ ألمِ إنسانٍ في سيرة حياته المظلومة، الملامحُ التي… كتمثالٍ للغربة والوحدة والألم، تمدّدٍ من أمواجِ الدم في الصّحراء… ووقف على ممرِّ التّاريخ، كأنّه السّندانُ تحت ضرباتِ العدوّ والصّديق، تحت مطارقِ آلهةِ التّاريخ الثّلاثة، طوال التّاريخ… من آدم… حتى هو، هو نفسه”[1].
إنَّ المطّلعَ على المُنجَزِ المعرفيّ للدّكتور شريعتي، ولو بنحوِ الإجمال، سوف يواجهُ أمامَه شاعرًا كالمِرْجَلِ ما فتِئ يغلي ليل نهار حرقةً على مبادئٍ ضيعَتْ، ومفاهيمٍ انحرفَتْ، في ظلّ أنظمةٍ سياسيّةٍ عمِلَتْ على إعادة صوْغ المفاهيم والأهداف وفق ما يخدم رؤيتَها البراغماتيّة، موظّفةً “الإرث الحركي” في إنتاج “الإيمان المتحجّر”، ناقلةً النّهضةَ من حيّزها الدّينامي إلى نظامٍ ذات نسق مؤسّساتي، الأمر الذي خلق نمطَينِ من التّشيّع عبّر عنهما شريعتي “بالتّشيّع العلويّ”؛ وهو التّشيّع الأحمر قوامُه الدّم والرّفض والتّغيير، وما يقابلُه من “تشيّع صفويّ”؛ تشيّع “الأسطرة” والفلكلور، أو ما أسماه “بالخطاب الأسْود” الباعث على تجميد الأذهان وتحريف المفاهيم، والذي تبنَّتْه السّلطةُ الصّفويّةُ ودعمَتْه المؤسّسةُ الدينيّةُ “وُعّاظ السّلاطين” بشيءٍ من الشّرعية المختزلة لجوهر التّشيّع بممارسةِ الطّقوسِ، وتبرير الواقع بما يتخلّله من فسادٍ وانزياحٍ للمفاهيم.
إنَّ الرّؤيةَ التّاريخيّةَ التي يعتمدُها شريعتي رؤيةٌ ثوريّةٌ تقترب بأدواتها من التّفسير الماركسيّ الاِشتراكيّ، حيث نلاحظُ حضورًا مكثّفًا لمفاهيم الصّراع والطّبقيّة والحتميّة، والبنى التّحتيّة والفوقيّة في أدبيّاته، الأمر الذي أدْلجَ الخطابَ وجعلَهُ أُحاديّ التّوجه يطغي بقطعيّاتِه الجازمة والحتميّة كآلية لفهم التّاريخ والتّراث والدّين، وقد دفعَه هذا التّوجّهُ للإعراضِ عن كلّ ما لا يقتربُ من الهمّ الاجتماعيّ غافلًا عن الجانب الفرديّ للدّينِ، مبتعدًا عن رمزيّتِه الجماليّة، حيث آثرَ انتهاجَ الإسلام الحركيّ على الإسلام الفقهيّ و “الإسلام الفلسفيّ”[2]، وحتّى “الإسلام الشعبيّ” مما أدّى به على حدّ تعبير الرّفاعي إلى “ترحيل وظيفةِ الدّين من جانبها الأنطولوجي الرّمزي الجمالي إلى أيديولوجيا سياسيّة صراعيّة”[3]، فقد استغرقَتْ خطاباتُه بمقولاتِ الرّفض والثّورة في كلّ الظّروف والمحطّات، داعيًا إلى “الإسلام الثوريّ” الذي يعتمدُ الثّورةَ كفاعلٍ دائمٍ في معادلة التّغيير الاجتماعيّ، وهذا أحدُ المآخذِ على فكره والتي أشارَ إليها مرتضى مطهّري أحدُ أهمّ روّاد الثّورة الإسلاميّة، في معرضِ حديثه عن الاختلاف بين مفهوم “الإسلام الثّوريّ”، وبين الثّورة الإسلاميّة “إنَّ الثّورةَ الإسلاميّةَ تعني: تلك الطريقةَ التي هدفُها الإسلامُ والقيمُ الإسلاميّة، لذلك، فإنّ الانتفاضةَ والثّورةَ، تستهدفُ تثبيتَ واسقرارَ القيم الإسلاميّةِ لا غَير، فالنّضالُ يُعتبر وسيلةً وليس هدفًا في هذا السّبيل، غيرَ أنَّ هناك مجموعةً من النّاس، يخلطون بين الثّورة الإسلاميّة والإسلام الثّوريّ، إنَّ هدفَهم هو النّضالُ والثّورةُ، وأمّا الإسلامُ فهو وسيلةٌ لهذه الثّورة”[4]. ولكن، ومن الواضح أنّ شريعتي قد اقترب بالوجدان الشّعبيّ إلى فهم أعمق للإصلاح بخطابٍ توعويٍّ يتجسّد برفضِه لكافّة أشكالِ “الاستحمار”، و”الرّجعيّة”، والسّعيّ للـ “العودة إلى الذّات” بما يعنيه من بعث “الوجود الحقيقيّ” القائم على الاستقلال والإبداع والإنتاج على طول خطّ التّاريخ. فالفردُ برأي شريعتي كائنٌ تاريخيٌّ يتبلورُ وجودُه وخصائصُه الشّخصيّةُ من خلال ما يستمدّه من التّاريخ والحضارة، وقد خلَصَ إلى القول بصيرورة الإنسان تاريخيًّا[5]. لذا، فوظيفةُ الاستعمارِ هي “استحمارُ” الشّعوبِ لفصلها عن هويّتها التّاريخيّة، وبالتّالي مسخها حضاريًّا وإذكاء النّظرة الدّونيّة لذواتها وماضيها. فدعا إلى التّنبّه من “الاستلاب” بالرجوع إلى التّاريخ لفهمه والإحساس به، والعمل على غربلة الموروث الدّينيّ لإحياء إسلام خالٍ من الاستدخال المتراكم الذي مارسَتْه السّلطاتُ على مرّ العصور. فضلًا عن هذا، فقد اتّسمَتْ خطاباتُ شريعتي بالتّعبئة الرّوحيّة والسّياسيّة التي حشدَتِ الجماهيرَ لتغدوَ شعلةً من النّار الحارقة لكلّ ما ألفَتْه من مسلّماتٍ كرّستْها الرّؤيةُ السّلطويّة ومؤسّساتُها الكهنوتيّةُ المحتكرةُ للمعرفة الدّينيّة كآليّةٍ لتدجين الشّعوب، والتي طالما حاربَتِ “الفكرَ التنويريَّ” بأدواتِ التّخوين والتّضليل، فاتّهمت شريعتي بالزّندقة والمروق تارةً، والغلوّ والناصبيّة تارةً أخرى، وانتهجَتِ الأسلوبَ ذاته مع النّشاطات السّياسيّة للسيّد الخميني من خلال معارضته بذريعة “تدنيس المقدّس”.
يُعتبر الدّكتورُ شريعتي أحدَ أهمّ المفكّرين الّذين أثّروا في السّاحة الفكريّة قبيل الثّورةِ الإسلاميّة من خلال العمل على تحريض الشّباب الإيراني ضدّ النّظام الشّاهنشاهي، فقد مهّدَتْ كتاباتُه الأرضيّةَ الصّلبةَ لانتصار الثّورة الإسلاميّة في إيران. وقد وصفَه السّيدُ بهشتي في إحدى لقاءاته “كان كالمائدة والباقين كفضلاتها”[6]. إشارةً لجسامة دوره في التّأثير على روحيّة الشّباب المثقّف خارج البلاد.
يرى شريعتي أنَّ حركةَ التّاريخ قائمةٌ على الصّراع الدّائم ما بين مدرستَيْن أو قبيلتَيْن “قبيلة إلهيّة”، “وقبيلة طاغوتيّة”، وقد نشأ هذا الصّراع منذ آدم وابنَيْه؛ قابيل (رمزًا للمجتمع الطبقي والملكيّة الفرديّة، متمثلًا بأبعاده الثّلاث)، وهابيل (رمزًا لعامّة النّاس المستضعفين)، وسيستمر حتى نهاية التّاريخ باتّخاذه أشكالًا متعدّدةً مثّلتِ التّجاذبَ الدّائمَ بين الطّبقات الرّأسماليّة، وطبقات المحرومين المستضعفين في مختلف مراحل التّاريخ لتحقيق العدالة الاجتماعيّة. فكان الحسين وريثًا لمدرسة الحقّ، وكانتِ الشّهادةُ استعادةً لما اغتُصب من هذا الحقّ كميزانٍ للأمّة اجتماعيًّا ومعيارٍ للحكم سياسيًّا. وهذه الثّورةُ على الطّاغوت مستمرّةٌ وفق فلسفة التّشيّع التّاريخيّة التي يعتقد بها شريعتي، والقاضية بحتميّة انتهاء هذا التّضاد بين “الحقيقة والواقعيّة”[7] بتحقيق العدالة الإلهيّة على يد المنتظر المهدي (عجّل الله فرجه الشّريف). فتتحقّقُ بذلك وحدةُ التّواصل التّاريخيّ من خلال الشّهادة التي وصلتِ الفترةَ الأولى “النّبوة” بالفترة الثّانية “الإمامة”، ثم تلَتْها بالنّيابة في زمنِ الغيبة.
ثم يعمدُ شريعتي إلى بيان ثلاث ركائز تقوم عليها الشهادةُ: (الثّورة، الثّأر، الوراثة)، فتكون قضيّةُ الحسين (ع) أعمقَ من أن تقاربَ بمواجهةِ شخصِ الإمام لحاكمِ عصره الفاسد لأجل استرجاع حقٍّ شخصيٍّ في الحكم، أو لتحصيل مكتسب دنيويّ، وإنّما تسمو لتكونَ تحقيقًا للــ “توحيد الاجتماعيّ” كقضيّة عمليّة في الواقع والمجتمع ضدّ شِرك التّاريخ. وهنا عمدَ شريعتي للتّمييز بين التّوحيد النّظريّ وبين التّوحيد الاجتماعيّ بما يعنيه الأخيرُ من تغليب مصلحة النّاس، واعتماد حركة الإصلاح والإعمار كجزء من توحيد الله.
وتقوم هذه الثّورةُ التّوحيديّةُ ضدّ الشّرك بأبعاده الثّلاث، المتمثّلة بالسّلطة الفرعونيّة (السّياسيّة)، السّلطة القارونيّة (الاقتصاديّة)، والسّلطة الكهنوتيّة (الدّينيّة) التي يمثّلها “بلعم بن باعوراء” في النّص القرآني المقدّس. وقد ورثَتْ هذه الثّوراثُ رايةَ التّوحيدِ منذ آدم إلى سائر النّبوات عبر التّاريخ وصولًا إلى الحسين(ع) الذي جعلها منارًا للحق تهتدي به البشريّةُ في مختلف عصورِها. وبذلك لا يمكننا التّعاملُ مع عاشوراء كقضيّة مجرّدة بمعزلٍ عن فهم حقيقة الحرب التّاريخيّة بين هذين القطبين والمدرستين.
وفي ظلّ هذه القراءة يتّضحُ مفهومُ الثّأر، فقد يراودُنا سؤالٌ ملحٌّ حول هل للهِ عزّ وجلّ ثأرٌ؟ أي هل يمكننا الاقترابُ من الله بهذا المفهوم القبليّ؟ حيث إنّ مفهومَ الثّأرِ ضاربٌ بجذوره في المجتمعات الجاهليّة المتعصّبة، والذي ما لبث الإسلامُ أنْ صحّحَه من خلال الإبقاء على اللّفظ مع تفريغ معناه، فتحوّل من مفهوم ثأرٍ قبائليٍّ إلى مفهومِ ثأرٍ اجتماعيٍّ إنسانيٍّ، فكانت جملةُ “الحسين ثار الله” تعني أنّ اللهَ سيحقّقُ وعدَه الحتميَّ بالثّأر للحق الذي تجسّدُه هذه القبيلةُ، وهنا يتحوّلُ اللّفظُ من ضيق الدّال إلى أوسع مفاهيم الحق والحريّة.
الجهاد والشّهادة بين العز والاستظهار.
يرى شريعتي أنّ مفهومَ الجهادِ يختلفُ اختلافًا كاملًا عن مفهوم الشّهادة، حيث إنَّ الجهادَ عزٌّ للإسلام كما يصفه أميرُ المؤمنين، بينما الشّهادةُ استظهارٌ على المجاحدات. ويتّضح الفرقُ بين المفهومين بتعريف الشّهادة الحمزويّة والشّهادة الحسينيّة، حيث يصرّح أنّ هنالك اختلافًا بين هذين النّموذجين من الشّهادة، فبينما يقوم الأوّلُ على طلب النّصر وإنْ احتمل الشّهادةَ، وهذا ما حصل مع عم النبّي، فإنّ هذا البطلَ قد تقدّم للقتال من أجل النّصر وإلحاق الهزيمة بالعدو، فغلب وقتل وصار شهيدًا. يتّجه الآخرُ وهو النّموذجُ المتمثّلُ بالحسين (ع) للتقدّم نحو الموت بكامل الوعي، واستقبال المنيّة، واختيار التّضحية في تلك اللّحظة الحاسمة.
صفوة القول: إنّ الحمزةَ اختارَتْه الشّهادةُ والحسين هو الذي اختارَها، حيث وهب نفسَه وعيالَه لاستظهار ما جحد، عندما لبس الإسلامُ لبسَ الفرو مقلوبًا، ومُسخَتِ المفاهيمُ وبرزَتْ مرحلةٌ جديدةٌ ترسمُ معالمَ هذا الدّين بأدواتٍ جاهليّةٍ اتّخذت من الوراثة منهجًا في ممارسة الحكم إلى القبلية العصبية نموذجًا للاجتماع، فضلًا عن فساد القيم الأخلاقيّة واضمحلال الوازع الدّينيّ، وهنا يثور الشّهيدُ من أجل إحياء ما دُثر وإظهار ما جُحد، فيكونُ الشّاهدَ المشاركَ في ساحات الحق ضدّ ساحات الباطل على مرّ التّاريخ. ولهذا كان الحسينُ ملحمةَ التّواصل الوجداني مع كلّ جيل.
شهادة الأمّة.
“تطلق الأممُ الأوروبيّةُ على الشهيد كلمة martyre من مادة mort بمعنى الموت، وفي الإسلام وعلى الأخص في الثّقافة الشّيعيّة اختاروا كلمة من مادة “شهد” بمعنى الحضور للحياة، فالشّاهد يؤرّخُ للحيّ والحاضر، وهذا الاختلاف بين هاتين الكلمتين يدلّ على اختلافِ رؤيتين ونوعين من النّظر، ونوعين من التّلقّي والشّعور والفهم في الإسلام والتّشيع العلوي عن الثّقافات الأخرى في العالم”[8].
﴿وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكونوا شُهَداءَ على النَّاسِ ويَكونَ الرَّسولُ عليكُمْ شهيداً﴾.[9]
يؤوّلُ شريعتي لفظَ “الشّهادة” تأويلًا لا يُفهم منه القتلُ دائمًا، فهذا النّبيُ شهيدٌ ولم يُقتَل. إذن، فمهمّةُ الأمّةِ التي يبيّنُها القرآنُ هي أن يكونوا شهداءَ على النّاسِ كما كان الرّسولُ شهيدًا عليهم. وعليه، فإنّ مقامَ الشّهادة ومفهومَها أعمُّ وأوسعُ من القتل، فالشّهيدُ هنا بمعنى “النّموذج” والمِثال الذي يُحتذى به الآخرون ويقوّمون أنفسَهم على أساسه، فيُجعل في وسط ميادين الثّقافة، الإيمان، العلم، ونصنع أنفسَنا على أعينه[10].
وبهذا اتّجه شريعتي لزحزحة التّفسير المشهور للآية والذي يفسّر “الوسطَ” بمعنى الاعتدال، أي الأمّة المتخلّلة بين طرفين لا إلى هذا الطّرف ولا إلى ذاك[11].
[1] علي شريعتي، الحسين وارث آدم، الصفحة99.
[2] راجع: كارين آرمسترونغ، الله والإنسان، الصفحة 177.
[3] عبد الجبار الرفاعي، الدين والظمأ الانطولوجي، الصفحة 124.
[4] مرتضى مطهري، الثورة والدولة، الصفحة 128.
[5] علي شريعتي، الإنسان والتاريخ، الصفحة 19.
[6] بهشتي، شريعتي باحث على طريق التكامل، الصفحة 78.
[7] يقصد بالحقيقة ما ينبغي أن يكون، والواقعية ما نعترف بوجوده.
[8] علي شريعتي، التشيع مسؤولية، الصفحة 56.
[9] سورة البقرة، الآية 143.
[10] الحسين وارث آدم، مصدر سابق، الصفحة 304.
[11] العلّامة الطبطبائي، تفسير الميزان، الجزء1، الصفحة 319.
المقالات المرتبطة
الأسطورة والجسد
الأسطورة في اللغة العربيّة من سَطَر، وهي بمعنى خَطَّ، ويُقال للشجر المغروس ونحوه، وهي عندما تطال الكلام تشير إلى التأليف الذي لا يخضع لنظام
فلسفة جديدة للحوار الدينيّ
يقوم الحوار الإسلامي–المسيحي، كما يمارس حتّى اليوم، على خطأ مزدوج: في مقاربته وفي هدفه.
مؤمنون وملاحدة
لطالما اشتغل العالم في ثقافاته على التباينات والثنائيات والثلاثيات وغير ذلك..
ويغلب على ظنّي أن السبب في كل هذا يعود لحاجة أي جماعة من الناس تعريف هويتها،