الحداثة الغربية وإعادة تشكيل العقل

by الدكتور أحمد ماجد | سبتمبر 30, 2020 12:42 م

النهضة الغربية التي انطلقت في القرن الخامس عشر، لم تكن مجرّد حدث تاريخي عادي، لذلك، لا يمكن أن يُنظر إليها باعتباره مجرد حدث عابر، جاء نتيجة تراكم اجتماعي وسياسي واقتصادي، فهي حملت في طياتها بذور تبدّل جذري في التفكير الإنساني، تبلور كثورة على التقليد، فمعها خرج التاريخ من نطاق الدال على مجموعة من الأحداث وتحول إلى قصة، فهُمِّشَ وأصبح وجهة نظر إنسانية تحتمل الصدق والكذب، وهذا الأمر ينطبق على كلّ علم إنساني.
 فما شهده الغرب انقلابًا بكلَّ ما للكلمة من معنى، يصفه هيغل في مقدمة كتابه “فينومينولوجيا الروح“، فيقول عن الزمن الذي يعيش فيه: “بأنه زمن ميلاد وانتقال نحو حقبة جديدة. فقد قطعت الروح مع ما كانه العالم إلى الآن، في وجوده وتمثّله. إنّ هذا الزمن الآن هو في طور إغراق كلّ ذلك في الماضي، كما أنه يعمل الآن على تمثله”[1][1]، وهذا الكلام، يفتح لنا أفقًا للحديث عن أمر يتعلق بماهية ما حصل.
فهل نحن أمام مجرد نقلة حضارية؟ أم نحن أمام خروج عن نسق كامل من التفكير الإنساني؟
السؤال في غاية الصعوبة، ولكنّه يحمل في طياته بذور إعادة نظر فيما يُقال وقيل. فالنهضة الأوروبية وقبل أن تعيد تشكيل نفسها على صورة تيارات فكرية وفلسفية، أحدثت تغييرات في بنية التفكير الغربي، ومن أجل إيضاح هذا الأمر سنتوقف قليلًا مع ميشال فوكو ليحدّثنا عن نوعية هذه التغييرات، فهو يوضح في كتابه “الكلمات والأشياء” ثلاثة أحقاب كبرى في تاريخ الفكر الغربي.
تنطلق الأولى مع عصر النهضة، حيث شكّل مفهوم التقريب بين الأشياء الأساس لكلّ العلوم والمعارف، فما دامت الجوزة تشبه الرأس فمن المفترض أن تعالج آلام غلاف الجمجمة، ومن المفترض أن تعالج نواة الجوزة الدماغ والأوجاع الداخلية.
 أما الثانية فبدأت مع القرنين السابع عشر والثامن عشر وتمثّلت في إنتاج علاقة جديدة بين الدال والمدلول، حيث أنجزت مجموعة من الخرائط واللوحات انطلاقًا من علم الحساب بقصد الإحاطة بالعالم وتصنيفه. وهذا الأمر مهد للمرحلة الثالثة من القفزة النوعية للحضارة الغربية، حيث أخذت هذه الحضارة مع انطلاقة القرن العشرين تتمركز حول الإنسان[2][2].
وهذا الكلام هام، لأنّه يشير إلى حقيقة التحول الذي حدث في الحضارة الغربية، فهي وفي رحلتها باتجاه “الأنسنة” أخذت تحوِّل مجرى الفكر، وتقوم بإعدامات متعدّدة لكلّ ما هو مختلف وخارج عن سياقات الذات.
والذات هنا أصبحت “هنا والآن” بعدما تجردت من التقليد، ودخلت عصر التصنيف بين عقلاني ولا عقلاني، الأنا والآخر، فأخذت تُحدِثُ دلالات جديدة لمدلولات قديمة، تكون قادرة على احتسابها بدقة وعلمية، وهذا ما سيسمح لها بإعادة إنتاج كلّ شيء على ضوء النتائج التي تتوصل إليها.
 من هنا، أخذت تنظم عالمها الخاص، وتعمل على تعريفه انطلاقًا من رؤيتها الجديدة، التي تعتمد التصنيف والتبويب للأشياء القديمة، مقدّمة لإدماجها في نسقها الفكري المستجد. من هنا، كانت التحقيبات للتاريخ الإنساني، حيث وُضعت كلّ مرحلة في موازاة ما يقابلها من حدث، فعادت هذه الحضارة إلى المرحلة اليونانية لتختار منها وتُنَمْذِجها ضمن النظام القيمي الذي أنتجته على أرضية الوضوح والعلمية، فكان المركز الذي يفصح عن العقل، والذي يمثل في قيمه الجمالية الهوية الضائعة، ثم مركزت الإسلام في القرون الوسطى باعتبارها عصور الظلام والاستبداد، وهذا التصنيف الذي أخذت به المجتمعات العربية الإسلامية، تناسى أن يطرح سؤال كيف جرت عملية التصنيف ولماذا حصلت؟
وعلى كلِّ حال، هذا الأمر، نجده عند معظم المفكّرين، الذين ينتمون إلى المنظومة الغربية، حيث أخذ هؤلاء يرسمون دلالات جديدة لأمور قديمة، حتى الأشياء التي أُغفِلَ عنها إما اُعيد تسميتها أو نُفيت من العقل لأن العقل لا يستطيع أن يقوم باحتسابها وإدراجها في الحقل.
 من هنا، حوَّل هوبز القطبية الدينية الغرور الإثم والخوف النافع من الرب إلى قطبية أخرى غرور الشر والخوف النافع من الموت، أي من المتعالي المرتبط بالرؤية الميتافيزيقية للعالم، الذي يحتوي قيمًا مطلقة إلى المحايث، الذي ينضبط أخلاقيًّا، والأخلاق عنصر تفاعلي يخضع لقيم متغيرة بتغير المجتمعات.
على هذا الأساس، انتقل المفكّرون الغربيون من الحفريات بكلِّ معانيها الأركيولوجية والكتابية وحتى الفنية إلى الحفر في الذات، فانصَّبت الاستكشافات على الكائن الإنساني باعتباره المكان الأمثل للحفر فيه، وبالتالي فإن الإنسان كما يقول فوكو في كتابه “الكلمات والأشياء“، أصبح المكان الأمثل للاكتشافات، ويصل في الفصل المخصّص للعلوم الإنسانية إلى القول: “[أصبح] الإنسان مخلوق جديد في الحقل المعرفي واختراع حديث العهد أبدعه العلم، ويؤكّد أن ما كان موجودًا قبل القرن الثامن عشر ليس الإنسان، بل العالم والكائنات البشرية والنظام، أما الإنسان فقد كان غائبًا”.
 بمعنى آخر حملت عصور التنوير وصولًا إلى الحداثة تغييرًا جوهريًّا، لأنَّه اختزن في طياته النفي لكلِّ ما هو لا يخضع لنظام الضبط، فالألم الذي ينتج عن المرض كان جزءًا من حياة الإنسان، -وإن كان إشكالية إنسانية- وجدته الحضارة النامية في الغرب عنصرًا غير قابل لإدخاله في مجرى الحياة ولا يمكن احتسابه فيها، لذلك عملت على إنشاء علم التشريح وتوسّعت فيه من أجل تنظيمه في إطار عوارض محدّدة قابلة للتعريف والضبط بشكل علمي يمكن الرجوع إليه ومداواته، -والكلام هنا ليس دفاعًا عن الألم- وهذا الكلام أدّى إلى ولادة العيادة في المجتمعات الغربية، ولكنّها في الوقت نفسه ضربت التقليد الديني، الذي يقوم على تألم السيد المسيح على الصليب، وحولته إلى ألم عبثي، لأنه لا يمكن أن يحتسب في إطار فكر تنويري مؤسّس على التصنيف الرياضي الحاد، والتعريف الممنهج ضمن وظيفة يمكن الاتكاء عليها أثناء عملية التصنيف، فالألم الذي تجلّى في رفع المسيح على الصليب-كما يتصوره التقليد المسيحي- لا يمكن الحديث عنه، ولا يحيل إلى تعريفات واضحة مبرّرة، وهو يفضي إلى الفضيلة المنبثقة من الفهم الديني والذي لا يمكن أن تعرف بشكل واضح إلا إذا أنزلت إلى الواقع حيث تصبح عبارة عن أفعال محدّدة.
من هنا نستطيع أن نفهم نيتشه وهجومه الحاد على التقليد اليهودي- المسيحي، فهذا التقليد حاول عبر المفاهيم التي استخدمها أن يستعبد الإنسان، ويقول نيتشه في كتابه “أصل الأخلاق وفصلها”: “يستطيع المرء أن يدرك الآن ما حاولت غريزة الحياة المداوية أن تقوم به عبر الكاهن الزاهد، وما لجأت إليه، خلال حين من الدهر، من استخدام لطغيان المفاهيم المتضاربة التي لا تخضع للمنطق، من مثل “الذنب”، و”الخطيئة”، و”حالة الخطيئة”، و”هلاك النفس”، واللعنة الأبدية: كان المقصود جعل المرضى غير قادرين على إلحاق الأذى، إلى حدٍّ ما، واستئصال شأفة الميؤوس من شفائهم بقلبهم على أنفسهم، ومنح الذين يقلون مرضًا عن الآخرين توجّهًا صارمًا نحو ذواتهم وتنكيص حقدهم. وبالتالي وضع الغرائز السيئة لدى المتعذّبين في خدمة ضبطهم ورعايتهم وانتصارهم على أنفسهم”[3][3]. وهذا النص شديد الدلالة؛ لأن نتيشه يريد أن يقول: إن الألم يتحول إلى وسيلة ضبط متعالية، لأنه ينتج في طياته استجابة لتقليد ديني لا يمكن أن يضبط في سياق الحقل الغربي المستجد، وهذا ما عبّر عنه نيتشه أيضًا بقوله: “إنَّ ظهور الإله المسيحي، بما هو أرقى ما توصّل إليه البشر من تعبير عن ما هو إلهي، قد عمل على ظهور أقصى حدّ من الشعور بالواجب على الأرض؟ أما في حال افتراض أننا بدأنا ندخل الحركة العكسية [الإلحاد]، فيكون من الجائز لنا أن نخلص، مع بعض الاحتمال، من الانحطاط الحتمي للإيمان بالإله المسيحي إلى انحطاط الوعي بالدين (الخطيئة) عند الإنسان، وهو انحطاط يسير بخطى سريعة من الآن. كما يسعنا أن نتكهّن كذلك بأن انتصار الإلحاد انتصارًا كاملًا وحاسمًا من شأنه أن يحرّر البشرية من كل شعور بالواجب والالتزام تجاه أصلها ومنشئها وعلتها الأولى”[4][4].
ونيتشه، في ما أوردناه سابقًا، يعبّر عن المستجد الحضاري للتنوير، الذي بدأ باعتماد النفي الدائم لكلّ ما هو مخالف لمنطقه، وللدلالة على ذلك، فلنتوقف قليلًا مع فوكو وكتابه “تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي“، حيث شرح مفهوم الجنون في الحضارة الغربية، فاعتبر أن مفكّري العصور الوسيطة لم يعيروا الحمق أهمية في أبحاثهم، فهم كانوا يتعايشون معه باعتباره أمرًا قد حصل نتيجة مزايدة شيطانية على صنعة الله، ولكنّ هذه النظرة تحولت في عصر النهضة وتحول الجنون إلى نقيض العقل بصورة قطعية، ففصل هؤلاء عن المجتمع واحتجزوا في مكان خاص سُمّي مستشفى المجانين. ما تكلّم عنه فوكو، يُظْهِرُ حجم التبدل الذي طرأ على التفكير الإنساني، فلكلّ شيء تصنيفاته: جنون/ عقل، طيب/ خبيث[5][5].
وهذا يختزن في داخله دلالات هامة، فهذه الحضارة التي توصف بالعقلانية، بدأت تولِّدُ منطق الإقصاء والسلب، فكلُّ شيء خاضع لنظام من التعريف الظاهري، وهو إما أن يدخل في الحقل، أو يتم الابتعاد عنه ويتعرض للقمع الجسدي والأخلاقي. فهذه الحضارة عندما عرَّفت الحمق أو الجنون عزلته عن سياق الفاعلية، وقامت بإقصائه في مستشفى المجانين، لأنه لا يستطيع أن يلعب دورًا في سياقات التقسيم الوظيفي للعمل في المجتمع، بالتالي فما يظهر على أنه إنساني، يحمل في طياته إعدام للإنسان.
 من هنا نستطيع فهم طبيعة الحضارة الغربية، التي قامت على أرضية النفي. وهذا الأمر قد وعاه التقليد الكاثوليكي الروماني وحاول مقاومته، ولكنّه ما لبث أن تراجع أمام دفق التغييرات التي عصفت في أوروبا والتي وصلت إلى ذروتها مع الثورة الفرنسية ووصول نابليون إلى السلطة، الأمر الذي حمل معه بداية عصر جديد في تاريخ الإنسانية.
والأمور التي أوردناها سابقًا، عبّر عنها “ليو ستراوس”[6][6] أثناء حديثه عن موجات الحداثة الغربية، حيث قسمها إلى ثلاث كبيرة: الأولى انطلقت مع ماكيافلي واستكملت مع هوبز عبر إعادة فهم القانون الطبيعي على ضوء تراتبية غايات، والتي تحتل فيها مسألة الحفاظ على الذات مرتبة متقدمة، وهذا الأمر شرع حقوق الجسد وحريته بشكل لا يشعر بها بالسأم. أما الموجة الثانية فتبدأ مع جون جاك روسو وحديثه عن الإنسان الطبيعي الذي اكتسب إنسانيته عبر سيرورة طويلة. وصولًا إلى نيتشه الذي مثّل الموجة الثالثة والجذرية في تلك الحضارة.
فالغرب بدءًا من النهضة، عدّل نمط التفكير الإنساني، من هنا، نستطيع أن نفهم، إنّ الديكارتية كمدرسة فكرية لم تكن مجرد منتجة لفكرة، إنما هي إعادة إنتاج للفلسفة، وإقامة دعائم جديدة لها، عبر العمل على تحرير الفلسفة من اللاهوت من جهة والمسيحية من جهة أخرى، وهذا ما أخذت تظهر معالمه مع الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت، الذي سنتوقف قليلًا معه قبل متابعة الحديث.
 فالمشروع الديكارتي كان جذري في التحولات التي حملها على ميدان الفكر، فمن خلال مقولاته سعى إلى ضرب القراءة اللاهوتية وعمل على: “الكشف عن حقائق من الممكن أن تحل محلها”[7][7]. من أجل ذلك قام ديكارت بإحداث ثنائية حاسمة بين مجالين، الأول يتعلق بالروح، والثاني بالجسد، وهذا التمايز لم يكن عشوائيًّا إذ أفسح الطريق لأول مرة للفصل بين مجالين: العالم الفيزيائي وتتناوله الهندسة وعلم الحساب ويستبعد الغائية، وعالم النفس أو الروح ويتناول التحليلات الفلسفية. والأول يقوم على الكمية، والآخر يتناول الوعي.
 ويوضح ديكارت هذه الفكرة فيقول: “مع أن من الممكن أن يكون لي جسم قد اتصلت به اتصالًا وثيقًا إلا أنه لما كان لدي من جهة واضحة ومتميزة عن نفسي، من حيث أنِّي لست إلّا شيئًا مفكّرًا لا شيئًا ممتدًا، ومن جهة أخرى لدي فكرة متميزة عن الجسم، من حيث إنه ليس إلّا شيئًا ممتدًا وغير مفكّر، فقد ثبت أنّ هذه الإنّية أعني نفسي التي تتقوم بها ذاتي وماهيتي متميزة عن جسمي تميزًا تامًّا وحقيقيًّا، وأنها تستطيع أن تكون أو أن توجد بدونه”[8][8].
صحيح، إنَّ هذا الموقف الديكارتي، جاء نتيجة:
  1. تقديم نظرة متوافقة مع الدين.
  2. تجاوز النظرة الأرسطية، التي كانت تعتبر النفس علّة ذاتية وغائية للجسد.
وهذه التبريرات التي تقدّم لتبرير الثنائية، تفتح الباب أمام نقاش جدي، خاصةً في النقطة الثانية، فالتصور الأرسطي للنفس، ينطلق من خلفية التقسيم الذي أقامه بين المادة والصورة، حيث إن الثانية لا تمثّل شيئًا بدون الأولى، لذا فإن التمييز بينهما، لا ينطلق من كونهما جوهرين مستقلين، بل ينبثق من وجهة نظر منطقية صرفة: “فالنفس لا وجود لها بدون الجسم، إنّها ليست جسمًا غير أنها تتصل بالجسم. بينما ما يقوله ديكارت على الرغم من منهجيته القائلة بالثنائية، ولكنّها في الحقيقة لا تحيل إلا باتجاه تأكيد الذات كوجود قائم بذاته ومحوري، وهذا ما نراه بشكلٍ أوضح في التأمّل التاسع الذي قال فيه: “المقصود بالنظر كلّ ما نجده في أنفسنا بحيث تدركه ذواتنا إدراكًا مباشرًا”[9][9].
 وهذا الأمر يظهر بوضوح أكثر عند تحليل موقف ديكارت من مسألة وجود الله، حيث نراه – أثناء مخاطبته اللاهوتيين من أتباع القديس توما الأكويني في التأمل الثالث-، على الرغم من حديثه عن اللامتناهي ووضعه لها على رأس الأفكار الفطرية، لكنه استخدم مصطلح “الواقع الموضوعي”، وهو مرادف لفكرة الكمال، ثم انطلق للوصول إلى علة هذا الواقع، وبرهن على أن هذه العلة هي الله. في حين، أنه في التأمّل الخامس عند مخاطبته اللاهوتيين الأفلاطونيين، برهن على أن الله موجود بذاته وماهيته تستوجب وجوده، وهو هنا لا يستند إلى واقع موضوعي. وما نقلناه يثر تساؤلًا حقيقيًّا عن مقصد ديكارت فيما يقول لا سيما في حديثه عن الواقع الموضوعي، والذي وإن استخدم سابقًا، ولكنّه معه تحول إلى أمر صوري متسامي.
وعلى كلِّ حال ما قدّمه ديكارت من أدلة على وجود الله، تنطلق من خلفية تحمل في طياتها بعدًا رياضيًّا كميًّا، ففكرة الكمال هي التي جعلت وجود “الكائن الكامل” واجبًا، الكمال إذن هو العلة الفاعلة، وما ينطلق منه أسس على عنصر عقلي، وهو ما يجعلها مخالفة للتقليد، ولعلَّ هذا ما دفع هوبز إلى القول: “المكان اللامتناهي والعدد اللامتناهي هما اللذان استوجبا تسامي هذه الصفات عند ديكارت فتسامى بها إلى مستوى الكمال[10][10]. ولا بأس في هذا المورد أن نستعرض ما أورده الدكتور عبد الوهاب جعفر في كتابه من حوار بين هوبز وديكارت، حيث أكّد هوبز أن طبيعة الإله وصفاته التي تحمّس لها ديكارت تصور كائنًا يتعذر تمثله، وأردف قائلًا: إنّ فكرة الإله تبدو وكأنّها ذات طبيعة اجتماعية. ولوحظ أنّ ديكارت لا يحتاج إزاء هذا الموقف ويقتصر على القول بأنه تناول هذا الموضوع وشرحه بما فيه الكفاية[11][11].
فديكارت كما لاحظنا، بدأ الموجة الجديدة في الفكر الفلسفي، هذه الموجة التي تضع الإنسان كذات مفكّرة في مواجهة الواقع، بالتالي تقوم بعزله عن كل المسبقيات، بمعنى آخر أصبح الإنسان هو المحور المنتج للأفكار والأحداث، وهذا يحمل في طياته نقلة كبيرة في الفكر الإنساني، فالنظرة التقليدية للإنسان كانت مبنية على العلاقة بين العلة والمعلول، بين الخالق والمخلوق، وتقوم على الهويات الجامعة المؤسّسة على التراتبية والتفاضل داخل نسق التقليد بحسب إنتاجه وتنوعه بين تقليد وآخر، بينما النظرة الجديدة مركزت الإنسان وأحدثت قطيعة مع التصور الأنطولوجي، واستبدلته بتأسيس إناسي “أنثروبولوجي” ينطلق من فكرة الطبيعة الإنسانية في حالة الطبيعة.
 وعملت هذه الرؤية التي رمت الإنسان في الطبيعة على البحث عن مبررات تنقله للحالة الاجتماعية، فكان الحديث عن العقد الاجتماعي، الذي لا يمكن أن يكون ممكنًا إلا بتصور الأفراد؛ أي أدى للانتقال من هوية متعالية تعترف باستقلالية الإنسان وتميّزه إلى تصنيف للإنسان مع توحده في حال الطبيعة عبر الاشتراك بطبيعة حيوانية تقوم على الصراع، لا يستقيم ضبطها إلا من خلال عقد اجتماعي ينظم في أطر قانونية حادة الحقوق والواجبات، مع الأخذ بعين الاعتبار مفهوم التفاضل على أسس تفاضلية داخل الفكر الاجتماعي المؤسس للاجتماع الإنساني.
وهنا، وقعت الخديعة الكبرى في لعبة تزييف الوعي الإنساني، فما تمَّ تناوله تحت عنوان تحرير الإنسان من اضطهاد للهويات الكبرى للإنسان، حمل في طياته بعدًا آخر أكثر خطورة لأنه غير مرئي، فالأنوار وصولًا إلى الحداثة فتحت أفق النقاش داخل حقل التداول، ولكنّها أسّست لهوية كلّية جديدة غير مرئية، تتمثل بمفهوم السيادة، وقبل أن نوضح هذا الأمر، سنتوقف قليلًا لنستعرض بعض النصوص لتزيفتان تودروف، يقول فيها عن عصر الأنوار: “لقد قام هذا المشروع في الأصل على ثلاثة أفكار ما انفكت تنمو وتتطوّر أيضًا بحكم نتائجها التي لا تحصى، وهي الاستقلالية والغائية الإنسانية لأفعالنا والكونية”[12][12]، وهنا نلاحظ أن عصر الأنوار يقوم على مركزية الذات الإنسانية بعيدًا عن كل رؤية متعالية، بل أن هذه الرؤية نظرت إلى هذه الرؤية باعتبارها سببًا لتخلّف الإنسان، ويعبّر تودروف: “المطلوب أن تكفّ سلطة الماضي عن توجيه حياة الناس وأن توكل هذه المهمة إلى مشروعهم المستقبلي”[13][13]، الذي يهدف إلى تحرير الإنسان من كل تسلط، فليس للمعرفة سوى: “مصدرين هما: العقل والتجربة وكلاهما في متناول كل إنسان”[14][14].
انطلاقًا من ما عرضنا، تصبح الأنوار وصولًا للحداثة نظرة للمجتمع تقوم على مبدأ لا سابق على الإنّية، هذه الإنية التحكّمية التي ترى في نفسها القدرة على تغيير قدَرِها وقدر الآخرين عبر تقسيمهم وظيفيًّا انطلاقًا لرؤيتها لحركية السوق والقدرة على توجيهه، لذلك وُلِدَ من رحمها التوجه الاستعماري للعالم.
 ولعلَّ هذا يعود إلى أن البشر بعدما تخلوا عن الرؤية الكونية للأديان: “وبعد رفضهم العمل بالتعليمات الإلهية، [أخذوا] يختارون بأنفسهم مقاييس الخير والشر، وصاروا متمسّكين بقدرتهم على سبر أغوار العالم، ممّا جعلهم يسعون إلى إعادة تشكيله حتى يكون مطابقًا للمثال الأعلى عندهم”[15][15]، ويقول البابا جون بول الثاني بهذا الخصوص: “الأنظمة الشمولية تنحدر من تاريخ الفكر الأوروبي؛ أي من عصر النهضة ومن الديكارتية ومن الأنوار، ويتمثّل خطأ هذا الفكر في وضعه البحث عن السعادة موضع السعي إلى الخلاص… لقد بقي الإنسان بمفرده خالقًا لتاريخه الخاص ولحضارته الخاصة… يبت فيما هو صالح وما هو غير صالح… وباتخاذه – أي الإنسان- هذا الموقف لم يعد بينه وبين الإقدام على جريمة من قبيل جريمة غرف الغاز سوى خطوة واحدة… فإذا كان قادرًا على البت بنفسه فيما هو صالح وما هو غير صالح دون العودة إلى ما أقرته العناية الإلهية. فلا ضير عنده وقتئذ أن يحكم بإبادة مجموعة من البشر”[16][16].
فالغرب كما لاحظنا، تلاعب بالوعي الإنساني، وعلى الرغم من حديثه عن الحرية والعدالة والانفتاح التجريبي على معطيات العلم والمعرفة، ولكنّه في الحقيقة عمل على ضرب إنسانية الإنسان، وأدخل هذا الكائن تحت رحمة القانون ومفهوم السيادة. والقانون والسيادة عنصران وهميان يتحكم فيهما صاحب السيادة، الذي يبرر لكلّ عنف وإبادة بحسب تعبير فيرابند.
فالغرب قام على نشر الأوهام، وسنكتفي في هذا الكتاب بالحديث عن وهم العلمية والمنهج العلمي- على أمل التوسع في هذا الموضوع فيما بعد- حيث عمد هذا الغرب إلى تعميم مفهوم المنهجية العلمية بالتعاطي مع المعطيات المتداولة حول الإنسان، حيث يمكن إعادة كلّ شيء إلى مصدر واحد وتصنيفه في إطار محدد، وهذا الكلام يؤدي إلى نفي كل تفسير وتأويل، ويجعل كلام المهيمن هو الأصل والمرجع، فتُنفى حضارات بكاملها، وتفرض نمطية من التفكير الآحادي على البشرية دون إخضاع صلاحية هذه الأنماط للتطبيق في المجتمعات الوافدة إليها، وفي هذا المجال يتحدث فيرابند ويقول: “انظر إلى الحقائق العلمية التي يتم تلقينها اليوم في مرحلة مبكرة بنفس الطريقة التي كانت تلقّن بها حقائق الدين… ولا توجد محاولة لإيقاظ القدرات النقدية عند التلاميذ كي يستطيعوا أن يروا الأمور من منظور خاص بهم”[17][17]، فالعلم- ليس فقط بمعناه التقني إنما أيضًا بأبعاده الإنسانية والاجتماعية- أصبح وسيلة دعوية، تقدم معطياته كما كانت تقدم معطيات العلوم الدينية، بل إن المعطيات التي كانت تقدّم من قبل أصحاب الأساطير أكثر أهمية من المعطيات العلمية: “فإنجازات واضعي الأسطورة في العصور السابقة أفضل من إنجازات العلماء في كافة العصور، وأن مخترعي الأسطورة الأوائل بدؤوا الحضارة بينما اكتفى العلماء بتغييرها وليس إلى الأفضل دائمًا”[18][18]، فالأسطورة كانت تسمح بقراءات وأفهام متعددة، بينما الصياغة العلمية لا تقوم إلا على بعد واحد وحاد. 
وهكذا رأينا أن الغرب انتقل بالحضارة إلى مجالات جديدة لم تكن معروفة من قبل، حيث أصبح الإنسان محور العالم، وهذا الإنسان لا بدّ من إخضاعه لتصنيفات حادة حتى نستطيع أن نصنّفه ونبوِّبه ضمن رؤية جذرية وحادة للعالم.
 
[1][19] هبرماس، القول الفلسفي للحداثة، ترجمة: فاطمة الجيوشي، (دمشق: منشورات وزارة الثقافة، 1995)، الصفحة 47.
[2][20] را: ميشال فوكو، الكلمات والأشياء، إشراف مطاع صفدي، (بيروت: مركز الإنماء العربي، الطبعة 1).
[3][21] فردريك نيتشه، أصل الأخلاق وفصلها، ترجمة: حسن قبيسي، (المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر)، الصفحة 125.
[4][22] أصل الأخلاق وفصلها، مصدر سابق، الصفحة 85.
[5][23] را: ميشال فوكو، تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي، ترجمة: سعيد بنكراد، (بيروت: المركز الثقافي العربي، 2005).
[6][24] را: ليو ستراوس، موجات الحداثة الثلاث، ترجمة: مشروحي الذهبي، (الدار البيضاء: مجلة فكر ونقد، عدد2).
[7][25] عبد الوهاب جعفر، أضواء على الفلسفة الديكارتية، كراس تعليمي، (جامعة الإسكندرية)، الصفحة 24.  
[8][26] رينيه ديكارت، التأملات في الفلسفة الأولى، ترجمة: عثمان أمين، (القاهرة: مكتبة الإنجلو مصرية، 1951)، الصفحة 224.
[9][27] طه عبد الرحمن، فقه الفلسفه، (بيروت: المركز الثقافي العربي، الطبعة 1، 1995)، الجزء1، الصفحة 474.
[10][28] يوسف كرم، تاريخ الفلسفة الحديثة، ط1، (القاهرة: دار المعارف، الطبعة 1، 1949)، الصفحة 229.
[11][29] أضواء على الفلسفة الديكارتية، مصدر سابق، الصفحة 53.
[12][30] تزفيتان تودروف، روح الأنوار، ط1، تعريف: حافظ قويعة، (دار محمد علي للنشر، الطبعة 1)، الصفحة 10.
[13][31] المصدر نفسه، الصفحة 11.
[14][32] المصدر نفسه، المعطيات نفسها.
[15][33] المصدر نفسه، الصفحة 35.
[16][34] روح الأنوار، مصدر سابق، الصفحة 37.
[17][35] بول فيرابند، ثلاث محاورات في المعرفة، ترجمة: محمد أحمد السيد، (الإسكندرية: منشأة المعارف، الطبعة 1)، الصفحة 28.
[18][36] المصدر نفسه، الصفحة 28.

Endnotes:
  1. [1]: #_ftn1
  2. [2]: #_ftn2
  3. [3]: #_ftn3
  4. [4]: #_ftn4
  5. [5]: #_ftn5
  6. [6]: #_ftn6
  7. [7]: #_ftn7
  8. [8]: #_ftn8
  9. [9]: #_ftn9
  10. [10]: #_ftn10
  11. [11]: #_ftn11
  12. [12]: #_ftn12
  13. [13]: #_ftn13
  14. [14]: #_ftn14
  15. [15]: #_ftn15
  16. [16]: #_ftn16
  17. [17]: #_ftn17
  18. [18]: #_ftn18
  19. [1]: #_ftnref1
  20. [2]: #_ftnref2
  21. [3]: #_ftnref3
  22. [4]: #_ftnref4
  23. [5]: #_ftnref5
  24. [6]: #_ftnref6
  25. [7]: #_ftnref7
  26. [8]: #_ftnref8
  27. [9]: #_ftnref9
  28. [10]: #_ftnref10
  29. [11]: #_ftnref11
  30. [12]: #_ftnref12
  31. [13]: #_ftnref13
  32. [14]: #_ftnref14
  33. [15]: #_ftnref15
  34. [16]: #_ftnref16
  35. [17]: #_ftnref17
  36. [18]: #_ftnref18

اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

Source URL: https://maarefhekmiya.org/10532/hadatha/