مباني فهم النص عند الشهيد الصدر: الحلقة 8

مباني فهم النص عند الشهيد الصدر: الحلقة 8
المبنى الخامس: القبليات المضرّة في فهم النص -2-
عندما نتصفح كتابات الشهيد الصدر (ره)، نجد بأنه تحدّث عن ثلاث قبليات مضرّة في عملية فهم النص. تحدثنا في الحلقة السابقة عن القبلية المضرّة الأولى (إسقاط الأفكار المسبَقة على النص)، وسنتعرّض في هذه المقالة القصيرة لبيان القبليتين الأخيرتين، وهما: اتخاذ موقف مسبَق من النص، والأنس بمطلب علمي.
القبلية المضرة الثانية: اتخاذ موقف مسبَق من النص.
من القبليات السلبية التي حذّر منها الشهيد الصدر أيضًا هو اتخاذ موقف مسبَق تجاه النص، إذ يؤثّر سلبًا على الفهم. فهذا من باب تأثير نفسية المفسِّر –وهي من القبليات- سلبًا على الفهم. ولكي تتضح هذه الفكرة، يمثّل لنا الشهيد الصدر بمثال، حيث يفرض شخصين يمارسان عملية دراسة النصوص الدينية، واستنباط الأحكام الشرعية منها. فالأول منهما يميل نحو اكتشاف الجوانب الاجتماعية في النص، بينما ينجذب الثاني نحو الجوانب الفردية للأحكام. وهذا ما سوف يؤثر على فهمهما لهذه النصوص، إذ سوف يكشف لكل منهما عن معطيات أكبر في مجال اهتمامه، لكنه سيخفي عنه المعطيات المرتبطة بالجانب النفسي الذي لم يتجه إليه. وبحسب الميولات والاتجاهات النفسية، قد تتفاقم الأزمة من مجرد إخفاء معلومات، إلى تضليل في فهم النص الشرعي والاستنباط بشكل خاطئ[1] و[2].
ويعتبر الشهيد الصدر الحذرَ من هذه القبلية –التي هي تأثير نفسية المفسّر- وعدمَ الانحياز، فضيلةً هي النزاهة العلمية[3].
القبلية المضرة الثالثة: الأُنس بمطلبٍ علمي.
كما أن من القبليات المضرّة التي يمكن أن نستشفّها من كلمات الشهيد الصدر هو الأنس بمطالب علمية ما، بحيث لو ذهبنا نحو النص لنفهمه، فهمناه خطأ على ضوء هذه المطالب. لكنها ليست بالقبليات التي لا يمكن التخلّص منها، بل يمكن ذلك للملتفت الموضوعي[4] و[5].
وبهذا نكون قد أنهينا الكلام في المبنى الخامس (القبليات المضرّة في فهم النص)، ونؤجّل الكلام في المبنى السادس والأخير (الحوار بين النص والمفسِّر) إلى الحلقة القادمة، وهي الحلقة ما قبل الأخيرة من هذه السلسلة.
 
 
[1] قد يُقال: إنه لا يمكن للباحث أن يتخلى عن اتجاهاته النفسية، وبالتالي، لا مفرّ من أن يُخفيَ النص عنّا بعض المعطيات؛ بل هذا حتميّ بناء على ما ذهب إليه الشهيد الصدر من كون المعطيات القرآنية لامتناهية. وبالتالي، يجب أن لا نعدّ هذا الاتجاه النفسي قبليّة مضرّة إن كان بهذا المقدار. نعم، يُعد مضرًّا عندما يصل إلى حدّ تحريف النص وفهمه بشكل خاطئ.
[2] اقتصادنا، الصفحة 392.
[3] المدرسة القرآنية، الصفحة 36. نعم، استثنى الشهيد الصدر موردًا من هذه القبلية المضرّة، وهو في الحقيقة ليس من باب التخصيص، بل من باب التخصص، فلا يضرّ في فهم النص. وقد اعتبر إعمال الذاتية في هذا المورد ضروريًّا، وطبّقه في مورد استنباط الاقتصاد الإسلامي، لكنه يمكن تعميمها لأي موضوع نصّي آخر. اقتصادنا، الصفحة 394.
[4] . فانظر إليه يروي لنا قصة حدثت معه في هذا المجال حيث أثّر بحث التزاحم على فهمه للرواية، ثم احتمل أن يكون هذا الفهم بسبب هذا المبحث العلمي، فجرّد نفسه عنه، فتبدّل فهمه. كاظم الحائري، مصدر سابق، القسم الثاني، الجزء 2، الصفحتان 187و 188.
[5] قد يتوهّم أن مبنى الشهيد الصدر في الحوار بين النص والواقع عبارة عن إسقاط الواقع على النص، وبالتالي هذا قبلية معرفية مضرّة في فهم النص على ما هو عليه. لكن الشهيد الصدر ملتفتٌ إلى هذه المسألة، فنبّه عليها. المدرسة القرآنية، الصفحة 35.



المقالات المرتبطة

تهافت “العصبية” الليبرالية لدى بعض العرب

صحيح أن الديموقراطية والليبرالية قد تتعايشان ردحًا من الزمن إلا أن ما يفصل بينهما في المعنى، حقلٌ شاسع. وبالتالي إن الخلط المفاهيمي بين هذين المصطلحين أو النمطين من التصورات السوسيو- سياسية يؤدي حتمًا لتعقيد المسالة

إلام آل علم الإناسة؟ أو هل من حاجة إلى “طبيعة بشريّة”؟

كان من آثار الاستقطاب الحادّ بين مقولتَي الطبيعة والثقافة أن فقدت الإناسة موضوعها، وبالتالي تماسكها

قراءة في رسائل نابليون في مصر 1

على مدى التاريخ انشغل الباحثون بعدد من القادة العسكريين، الذين أيًا كان عددهم فسوف يكون نابليون بونابرت بالتأكيد أحدهم، إن لم يكن أهمهم.

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<