ماذا.. ما بعد الغرب؟ معضلة النهايات
تقارب هذه المقالة واحدة من أبرز المعضلات المعرفية التي تشكّل محل اهتمام حلقات التفكير في الحضارة الغربية المعاصرة.
ونعني بها الأطروحة التي تتحدّث عن نهاية الغرب، وتطرح في المقابل سؤالًا تأسيسيًّا حول طبيعة مشهد ما بعد الغرب في حقول الفكر والسياسة والاجتماع، فضلًا عن علاقته بنفسه ومنهج تعاطيه مع الآخر.
لقد قسمنا هذه المقالة إلى حلقتين:
الحلقة الأولى تتصل بخلفية نشوء مفهوم ما بعد الغرب الدواعي المفضية إلى ولادته.
والحلقة الثانية تتعلق بالحقول المعرفية التي تتناولها، والقيم التي ستؤول إليها.
في ما يلي الحلقة الأولى:
توشك كلمة “ما بعد” أن تصير لازمةً مفهوميةً تُمسك بناصية التفكير الغربي، ولا تترك له فسحة من راحة العقل. لكأنما الغرب استحال ظاهرة زمانية، أكثر منه حقيقة واقعية راسخة في جغرافيا ومستقرة فيها.
وإلَّا كيف نفسِّر شَغَفَهُ المَرَضِيَّ باليوم التالي، وهو لا ينفك يمكث في جوف الحاضر المستمر لحداثته المهزوزة؟
لسنا نرى من إجابة محتملة على هذا التساؤل سوى الرغبة المحمومة بالقفز إلى الأمام ولو كان نحو المجهول. نقول هذا لأن مُدَّعى “ما بعد الغرب” هو ككل المُدَّعيات السابقة عليه، يأتي محاطًا بسيلٍ عَرِمٍ من التعريفات والتآويل.
واللاَّفت أن جلَّ “الما بعديات” التي يُعكَفُ عليها مثل: ما بعد الحداثة – ما بعد الميتافيزيقا – ما بعد الأخلاق – ما بعد البنيوية – ما بعد العلمانية – ما بعد الاستعمار- إلخ… نزلت إلى حقل التداول وكانت أقرب إلى “تجاوزات معرفية” أعربت في مجملها عن الإحساس بعدم اليقين. وأنَّى كان الحال، فما هو حاصل يتعدَّى كونه لعبة لفظية تفترضها غريزة الأنس بانتزاع المفاهيم، بل هو تعبيرٌ عن وقائع ومعطيات مختزنة في الَّلاوعي الغربي يجري استظهارها من مجمل بنيته المفاهيمية الحديثة.
كل ما سبق للتفكير الغربي أن أنتجه في حقل “المابعديات” عَمِلَ على إحاطته بمبرِّرات منهجية قصد تجديد حيويته، ومنعًا للوقوع في الخواء. مقولة “ما بعد الغرب” وحدها ظلَّت بالنسبة إليه مصدر قلق لا نفاد له، وما ذاك إلّا لأنها تستحثُّه على إعادة النظر بأصل وجوده، وتدفعه إلى السؤال الأشد هولًا حول مآلاته الغامضة.
ما من ريب، في أن مقولة “ما بعد الغرب”، وبسبب من جاذبيتها الاستثنائية، تحثُّ على تظهير نظرية معرفة لا تني تسري بخفر وبطء في حلقات التفكير.
وهذا راجع، في المقام الأول، إلى تعثُّر ظهورها كمفهوم مكتمل الأركان. والمشكلة هنا ليست في إخفاق الفكر الغربي أو عزوفه عن تصنيع المفاهيم والمصطلحات، فذلك مما يُشهدُ له في إنجازه سواء في حقل الفلسفة وعلم الاجتماع، وكذلك في سائر العلوم الإنسانية والعلوم البحتة. أصل القضية واقعٌ في منزل آخر من منازل النظر والمقاربة.
فعبارة “ما بعد الغرب” تقترب من كونها قضية كلِّية متصلة بالبنية الحضارية الغربية وتاريخها الأشمل… أما سَرَيانُها الآن على أرض المداولات فيدلُّ في الأغلب، على وصول هذه البنية إلى المحل الذي توضع فيه الأختام النهائية على سجلها الطويل…
قد يكون جائزًا القولُ: إن العبارة المارَّ ذكرُها تؤلِّف خلاصة “الما بعديات” على الجملة، مثلما تؤلِّف وعاءَها الأعظم. وبهذا التوصيف تكتسب أفقًا وجوديًّا يمسُّ المباني الكبرى للحضارة الغربية، كما تستولد أسئلة حاسمة حول بقائها أو فنائها.
ربما لهذا الداعي لا تنأى المداولات التي يشهدها النقاش حول “ما بعد الغرب”، عن الاستفهام حول ماهيَّة الغرب نفسه، وبالتالي حول دوره ومكانته في الحضارة العالمية.
بهذه المنزلة يغدو السؤال استقصاءً جوهريًّا عن حقيقة الغرب، لا مجرد استفهام عارضٍ عن ظاهرةٍ عارضة؛ ذلك لأن غاية السؤال هنا هي التعرُّف على حقيقة حضارية مبنية على المفارقة: تتموضع في التاريخ والجغرافيا، وتتعالى فوقهما في الآن عينه.
بسبب هذه الخاصِّيَّة الماهويَّة تعثَّر الوصول إلى تعريف منجز للغرب كمصطلح ومفهوم. وربما للسبب عينه أيضًا، سينشأ “وعيٌ أعراقيٌّ” لدى النخب الغربية يمجِّد ذاته الحضارية، ويرفعها إلى رتبة الحضارة المُنْجِية.
حريٌّ القول: إن رؤية الغرب كثيرًا ما دفعت النظَّار إلى متاخمتها كأرضٍ فسيحة لملحمة شبه أسطورية. من هذا النحو يصير سؤال “ما هو الغرب”، أكثر شَبَهًا بسؤال “ما هي اليونان” قبل عشرات القرون. ومع أن لكل من السؤالين سمْتَهُ الخاصة، إلا أنهما يشتركان ويتقاطعان على دعوى التأسيس لتاريخ البشرية.
من أجل ذلك بدا الاستفهام عن ماهية الغرب ودوره الرسالي بمثابة استئناف للسؤال البَدئي والمؤسّس عن ماهية اليونان. وسيكون لهذه المعادلة الاستفهامية الأثر البيِّن في مدِّ الفلسفة الأوروبية الحديثة بالغذاء الآتي من الحقل اليوناني الأول.
هذا ما نلقاه ساريًا في أعماق ما أنجزه الروَّاد المؤسِّسون للحداثة من ديكارت إلى كانط، مرورًا بهيغل وهوسِّرل وهايدغر، وصولًا إلى سائر المتأخِّرين.
هؤلاء الفلاسفة الذين تصدّوا لتظهير الدلالة الأنطولوجية للذات الغريبة سيجعلون من هذه الذات معيارًا للتفكير الجوهري في ماهية الإنسان المعاصر. وهكذا سنرى كيف ترتقي الأطروحة الغربية إلى رتبة مقوِّم من مقوِّمات جغرافية الروح على حد تعبير هيغل، والتي صارت تتحكم اليوم في بنية الإنسانية الحالية.
الكل أخذ بالحجة نفسها فلاسفة ومفكّرون سياسيون وعلماء اجتماع؛ أي أن الغرب قام على تكوين حضاري وميتافيزيقي، أفضى إلى تفوُّق الإنسان الأوروبي على الإنسان الهندي والأفريقي، فضلًا عن سائر الأعراق… التمثيل الأعلى لمثل هذا الاعتقاد سيجد تعبيره الصارخ في اكتشاف المهاجرين الإنكليز والإسبان أميركا وتحويلها إلى أيقونةٍ يحكمون بواسطتها العالم كلَّه.
غير أن ما هو مفارق في التجربة الأميركية، أنها قامت أساسًا على الانسلاخ عن أصلها الأوروبي والبَدءِ بأصل جديد. هذا هو السبب الذي جعل التأسيس الميتافيزيقي لأميركا مدفوعًا بعقدة الاستبراء من مصدرها الأوروبي. وهذا ما أولاه الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر عناية مخصوصة لمّا رأى أن العالم الإنكلوساكسوني للأمركة قرَّر تدمير أوروبا باعتبارها البَدْءِ الخاص للعنصر الغربي.
مع النشأة الأميركية الخارجة من أصلها الأوروبي والخارجة عليه في الآن عينه، تشكَّلت أول “ما بَعدية” كبرى في التاريخ الحديث. وهذا يعني أن أميركا هي “ما بعد أوروبا” بكل ما تدلُّ عليه العبارة من أبعاد تاريخية وثقافية ولاهوتية.
غير أن المفارقة في هذا المنعطف من تاريخ القارة الأوروبية هي أن “الما بعد الأميركي” الذي انفصل عن أصله ما لبث أن عاد إلى هذا الأصل من أجل أن يحتويه ويضمَّه تحت جناحيه في إطار غرب حضاري تامِّ القوام.
استنادًا إلى هذه الصيرورة، أمكن لنا أن نعرف السبب الذي يجعل كل تنظير حول راهنِ الغرب ومُقبلِهِ محكومًا بالجمع اللَّاواعي بين أوروبا وأميركا بوصفهما كتلة حضارية واحدة. ومن أجل ذلك، يصير بديهيًّا أن يُنظر إلى أطروحة ما بعد الغرب بوصفها قاعدة كلِّية لدراسة مآلات القارتين الأوروبية والأميركية معًا.
تبعًا لما سبق، بدا كل تنظيرٍ لاحق يتناول ما بعد الغرب، محكومًا بمنهج تتآلف فيه ثلاث دوائر: زمانية ومعرفية وأنطولوجية:
أولًا: مقتضى الدائرة الزمانية، يشير إلى التعامل مع تاريخ الحضارة الغربية الحديثة بوصفه مجموعة من الأحقاب الزمنية المتعاقبة، فكلما انتهت حقبة تولد من بعدها، أو على أنقاضها، حقبة تالية، وهكذا دواليك…
ثانيًا: مقتضى الدائرة المعرفية، يتصل بالتحوُّلات العميقة في عالم الأفكار. وهو ما يجد تمثُّلاته على وجه الخصوص في ما حفلت به حقبة ما بعد الحداثة من نموٍّ هائل للمفاهيم المابعديَّة، التي تشير إلى عمق الإحساس بعدم اليقين حيال قِيَم الغرب الحديثة.
ثالثًا: الدائرة الأنطولوجية (الوجودية)، وهي أبرز الدوائر التي استظهرها الحراك الفكري الغربي، لا سيما لجهة استشعاراته وتنبُّؤاته بنهاية الحضارة الغربية الحديثة وتبدُّدِها.
على سبيل التمثيل، لنا أن نستحضر كتاب “سقوط الغرب” للمفكّر الألماني أوسوالد شبينغلر الذي يتوقع فيه انهيار الحضارة الغربية، ويصفها بـ “الحضارة الفاوستية” (نسبة إلى يوهان فاوست 1480-1540) التي باعت روحها للشيطان مقابل المكاسب المادية والنعيم الاستهلاكي.
خلاصة هذا العمل، أنّ الحضارة الغربية حقّقت سيادتها العالمية استنادًا إلى قوّتها المادية، وأن القرنين التاسع عشر والعشرين يشكِّلان سقف الحضارة الغربية، وأنّ نهاية القرن العشرين سوف تكون حافَّة هذا السقف وبداية الانهيار.
غير أنّ شبينغلر، وهو سليل موطنه الغربي في بعده العنصري سيواجه مشقَّة الاعتراف بأن ثمة أممًا غير أوروبية مؤهّلة للنهوض بأعباء الحضارة العالمية. ورأى أن العلوم المادية الحديثة هي خاصِّية تكوينية يمتاز بها العقل الغربي الفاوستي تحديدًا وحصرًا. يضيف: وبما أنّ الأمم الشرقية روحانية فإنّها غير مؤهّلة عقليًّا حسب زعمه لاستيعاب العلوم المادية. على هذا الأساس، تنبّأ شبينغلر بأن ما سوف يترتّب على انهيار الحضارة الغربية هو الفراغ والفوضى والحروب، حيث سيواصل “الفاوستيون” فرض سيادتهم العالمية عن طريق القوة الجائرة وحروب الإبادة.
* مفكر وباحث في الفلسفة السياسية – لبنان.
المقالات المرتبطة
مباني فهم النص عند الشهيد الصدر: وقفة تحليلية
وقفة تحليلة عن كل ما كتبناه في الحلقات الماضية عن مباني فهم النص عند الشهيد الصدر (ره).
الدعاء إقبال وتربية وعبادة
من أبرز وجوه معاني الدعاء التي وردت في القرآن الكريم أن الدعاء بمعنى العبادة والقول والإستعانة والاستغاثة والنداء
القيم فى الفلسفة الفينومينولوجية
اعتمدت الفلسفة الفينومينولوجية على مفاهيم أساسية مثل الماهية والتجربة الظاهرية، والخيال الظاهري، والتأمل الظاهري، والرد الظاهري، وقصديّة الوعي، واستعانت بهذه المفاهيم فى تفسيرها لظاهرة القيم فى المجتمع الإنسانى،